آخر تصريحات نوري المالكي النارية، تعليقا على تسريبات القائمة العراقية حول عزمها على سحب الثقة منه، قوله: (بقينا نسمع هذا الكلام ست سنوات، وسنبقى نسمعه ست سنوات أخرى). بعد نوري السعيد بلغ الزعيم عبد الكريم قاسم نفس هذه الدرجة من الوهم، فآمن بأنه صاحب جمهورية (خالدة أصبحت كعقاب الجو). لكن رفاقه السابقين غدروا به، ذات يوم أسود، ومزقت رصاصاتهم رأسه وعنقه وصدره، ثم بصق عليه، وهو قتيل، جندي عراقي غبي متخلف، على شاشات التلفزيون. ثم لحق بهما بعد ذلك عبد السلام عارف الذي كان أكثر من أسلافه جميعا ثقة بخلود حكمه العتيد. ومن الأمثلة المضحكة على غروره واستخفاه بمعارضيه، حتى لو كانوا من رفاقه وشركائه في العقيدة، رَدُه الشهير، بلهجة أبناء الأعظمية، حين علم بتآمر حركة القوميين العرب عليه عام 1965 قائلا: (ما ظل علينا غير العربنجية، والله اللي يمد راسه لأقصه بقندرة). ولكنه حين سقط فجأة بحادث الطائرة المشبوه راح مواطنوه العراقييون المتشفون بزوال عهده يتندرون ويسألون: (منو اللي صعد لحم ونزل فحم؟)، ثم انقلب على أخيه من بعده أقرب أعوانه إليه. ثم جاء القائد الضرورة فبزَّ كلَ أسلافه حكام العراق الراحلين في العنف والقسوة والرغبة في تأسيس امبراطوريته الخالدة. فأزاح من طريقه جميع المخاطر التي تهدد حكمه، حتى خلا له الجو، بالكامل، وهربت من بطشه غير المسبوق جميعُ المعارضات إلى الخارج، ومن لم يهرب غاب واختفى في سجونه المظلمة، أو في مقابره الجماعية الشهيرة. حتى صار الجميع، أعوانُه وأعداءؤه على حد سواء، يؤمنون بأن إسقاطه مستحيل، وراح العراقيون المغلوبون على أمرهم يتندرون ويغنون: (هلا بيك هلا، وبجدتك حلا)، أي أن عهده باق وسوف يتوارثه الأحفاد عن الأبناء، وأن العراقيين سيهتفون لحفيد ابنته حلا، وليس لابنها فقط. ثم انتهى ذلك القائد المخيف بساعات، وببضع دبابات أمريكية، وبشلة من شطار المعارضة العراقية الحفاة العراة الواردين من مقاهي دمشق وطهران والرياض وعمان وواشنطن ولندن وباريس، ليرثوا قصوره ومزارع أبنائه وأحفاده وكبار أعوانه وتابعيه، ولكي يضع الحبل حول رقبته مجاهدو مقتدى وأبطال حزب الدعوة وموفق الربيعي، في أكثر المشاهد انتقامية طائفية وهمجية وغوغائية في تاريخ العراق الحديث. مناسبة هذه المقدمة الطويلة هي المعاركُ الحامية الدائرة اليوم بين نوري المالكي وشريكيه في حكومة المائدة المستديرة، طارق الهاشمي وصالح المطلق، والتظاهراتُ العجيبة التي خرجت تهتف بحياة الهاشمي، باعتباره حامي حمى السنة، وبحياة نوري المالكي حامي حمى الشيعة، واصطفافُ الكرد ضد قضاء المالكي وقـدَره، وجحافلُ الكتاب والمحللين والخبراء والمعلقين العراقيين العجيبة، وهم منخرطون في ثلاثة جيوش متقابلة، جيش للشيعة وآخر للسنة وثالث للكورد، مدججين بكل أنواح الكلام الجارح المتشنج المتعصب النابض بالثأر والضغينة وبالأحقاد المتأصلة في النفوس. وحتى تعليقاتُ قرائنا الكرام هي الأخرى عجيبة وغريبة. يعلقون على مقال بما ليس فيه، لا من قريب ولا من بعيد. فهذا يشتم كاتبه دفاعا عن السنة، وذاك يسبه دفاعا عن الشيعة، وثالث يذبحه خوفا على الأكراد. حروب شتائم ومجازر لا تنهي. من هنا أستطيع القول، وأنا بكامل قوايا العقلية السليمة، إن فكرة الوحدة الوطنية العراقية أكذوبة كبيرة كانت ميتة منذ ولادتها، وماتت هذه الأيام ميتة لا بعث بعدها ولا أمل. وبالبحث والتدقيق يتبين أن الدولة العراقية من أساسها قامت بدون تجانس بين سكانها، وأن بريق ولادتها الخادع لم يوحد أهلها، ولم يجتث ما في دواخلهم من شكوك متبادلة وأحقاد ونوازع متباعدة. من أول أيام الدولة العراقية كان العرب يتعالون على الكرد وعلى التركمان، والسنة يتعالون على الشيعة، والشيعة يتعالون على السنة، والكورد يخافون من العرب، والمسلمون يتعالون على المسيحيين، ولكنْ خلف أستار ٍمن الرياء والزيف والنفاق. أما اليوم فصار العمل على المكشوف، دون خوف ولا حياء. داعب خيالـَنا حلمُ انتفاض الجماهير الناقمة التي كفرت بالقادة الجدد، وبما أنزلوه بها من جوع ومرض وظلام وضيق رزق وقتلٍ وتفجير وتهجير، ثم تفاءلنا حين رأيناها تهب من رقدتها، قليلا، في ساحة الشهداء، لكنها عادت إلى سباتها من جديد، حين عاد الشيعة شيعة، والسنة سنة، والكورد كوردا، ولا شيء غير ذلك. صدقونا أيها العراقيون لن يهدأ شارع، ولن تأمن قرية أو مدينة، ولن ينام مواطن واحد خاليَ البال، ما دام الوطن سلعة يتقاتل عليها قادة ٌ أنانيون متخلفون همجيون، ومعارضون أكثرُ تخلفا وأنانية وهمجية. وإلى أن تحين ساعة الافتراق الوطني الموعود، سيظل المواطنون الأبرياء يدفعون ثمن هذه الوحدة الوطنية القسرية الكاذبة، من دمائهم وأرزاقهم وأمنهم. فمن يريد لهذا الحال أن يدوم؟ فكفوا عن التشبث بشعارات وطنية مغشوشة، لم تسمن أحدا من قبل سوى أصحاب السلطة سادة المنطقة الخضراء وأنجالهم وأحفادهم، والحواريين والتابعين، وأقيموا ثلاث جمهوريات فدرالية متآخية، لحقن دماء المواطنين، ورفع وصاية طائفة على طائفة، وشريحة على شريحة، ولينصرف الجميع إلى العمل والبناء وإعادة الإعمار وتوفير الكرامة والكفاية والأمن والأمان. سيكون لكل منكم جمهوريته الخالدة، وقائدها الضرورة، ونوابها، وأمراء مليشياتها، ومختلسو أموالها، ومهربو نفطها وآثارها وعصافيرها، دون أن يزعجهم أحد من طائفة أخرى حاقدة بسؤال أو اعتراض أو بسحب ثقة أو باتهام بديكتاتورية مُقنَعة. فكلٌ سيكون حرا بمملكته ورعيته ومواشيه. شيعي بشيعي، وسني بسني، وكوردي بكوردي، وكان الله يحب المحسنين. وإذا كان النفط هو العائق فاجعلوه ملكا مشتركا بينكم، واقتسموا عوائده بالتساوي، وليدر شؤونه خبراءُ مبعوثون من الجمهوريات الثلاث، بالتساوي كذلك، إن كانت فيكم بقية من حضارة وإنسانية وخوف من الله؟ بدون هذا، وفي ظل هذه المآزق السياسية والأمنية والعسكرية المتواترة والعصية على الحل، سوف يظل الدم العراقي البريء يسيل، وسوف يستمر حوار الشركاء بالمناطحات والمشاكسات والاتهامات، وبالكواتم والمفخخات، إلى ما لا نهاية. وليس لكم جميعا، حكاما ومحكومين، مهربٌ من هذا الافتراق، عاجلا أم غير عاجل. هذا مع التذكير بجيراننا النافخين في النار، والراقصين على لهيب الحروب المستمرة بيننا من عشرات السنين، ولا تتوقف. إن كل شقاء هذا الشعب الطيب الصبور كان على الدوام وافدا إليه من الخارج. وسيبقى أصدقاؤنا وأشقاؤنا سواء بسواء، يرسلون إلينا هداياهم اللعينة إلى أن يتحقق لهم حلم تقسيم العراق، ولكن بالحديد والنار، وبالدم والدموع. فقسموه أنتم بمودة وتفاهم وتناغم، وبالتراضي، قبل أن تفقدوه، وقبل أن يصبح الافتراق، في الغد، باهض الثمن وصعب المنال. ملاحظة: من المؤكدٌ أن تأسيس الجمهوريات الثلاث سيأخذ من السياسيين والمواطنين، جميعهم، وقتا طويلا، وكثيرا من الألم وعرق الجبين والدم، خصوصا عند تعديل الحدود الادارية للمحافظات، وحل الخلافات الادارية القائمة حول المناطق (المُختلف عليها) ولا أقول (المتنازع عليها)، وترحيل الراغبين في الانتقال من جمهورية إلى أخرى، وتوزيع الثروات. لكن الخلاص النهائي من وجع الراس وألم القلب واحتباس الأنفاس الذي عشنا عليه كل هذه السنين دون توقف، يستحق كل جهد وكل تعب وكل عذاب. ويقول المثل: وجع ساعة ولا وجع كل ساعة. فهل تفعلون؟
هذا مطابق تماما لما قاله الراحل نوري السعيد قبل نصف قرن من الزمان. فحين بلغته تقارير أمنية تقول إن ضباطا مهمين في الجيش يتآمرون لقلب نظام الحكم الملكي، أطلق الباشا، بكبرياء وثقة عالية بالنفس، قوله الشهير (دار السيد مأمونة). ثم أردف يقول (إن الذي يقتل نوري السعيد لم تلده أمه بعد). لكن بعد هذا التصريح بشهور قليلة تبين أن دار السيد لم تكن مأمونة، وأن (أولاده) الضباط الذين خصهم بالرعاية والعناية البالغة ليكونوا حُماته وحُماة النظام الملكي كله هم الذين تآمروا عليه وأمروا بقتله وتعليق جثته على باب وزارة الدفاع.
ثم حلت الكارثة الأكثر مرارة ًمن كل الكوارث السابقة حين جاء صدام حسين فأنعش العصبية والطائفية، إلى أبعد الحدود، وعمـَّق الحقد والحسد والضغينة في نفوس الجميع. وختمها اليوم سادة المنطقة الخضراء وأولادهم وأتباعهم وجيوشهم، فأحرقوا ما تبقى من جثة الوحدة الوطنية الميتة ونثروا رمادها في الهواء.
- آخر تحديث :
التعليقات