بعد عودة رئيس الوزراء نوري المالكي من واشنطن الى بغداد، ولقاءاته الحميمية بالرئيس الامريكي باراك اوباما، أيقن المراقبون والمتابعون للمشهد العراقي ان المالكي العائد من أمريكا ليس المالكي الذي ذهب اليها، والاسباب فسرت انها تتعلق بادارة العراق في مرحلة ما بعد انسحاب القوات الامريكية وترك النفوذ الايراني بحرية تامة وبسيطرة شبه تامة على البلاد وضرورات الأزمة الاقليمية التي تمر بها المنطقة بعد الربيع العربي والمجابهة المخفية والعلنية بين طهران ودول غربية حول الملف النووي.

وبدلا من أن يلجأ المالكي الى الهدوء والمرونة والحكمة واختيار الوقت المناسب في استخدام أوراق القوة الجديدة التي حصل عليها من زيارتها للولايات المتحدة، لجأ في عجلة من أمره وبدون دراية وتفكير عميق الى الانقلاب على الرئيس جلال طالباني والقائمة العراقية من خلال اتهام نائب الرئيس طارق الهاشمي بالارهاب المحسوب كاحد قيادات المكون السني واصدار مذكرة منع سفر واعتقال بحقه من قبل أحد القضاة في مجلس القضاء الأعلى، وبث اعترافات لافراد من حماية ومكتب الهاشمي على شاشة القناة الرسمية لحكومة المالكي، ونقل صحفيا ان طالباني عبر عن استغرابه لهذا العمل، والموجه بتعمد شديد الى احراج رئاسة الجمهورية العراقية المكونة من الرئيس الكردي والنائبين الممثلين للمكونين السني والشيعي.

والمعلوم ان هذه المفارقة الغريبة في الحالة السياسية العراقية من خلال اتهام مسؤول من الصف الاول للدولة، جاءت بعجالة فخلقت حالة من التدهور السريع في العلاقات بين تحالف القوى الرئيسية في البرلمان والحكومة، ونتجت عنها توقف مسار العملية السياسية من خلال تعليق كتلة العراقية لمشاركتها في البرلمان والحكومة، وهذا ما دفع ان تفسر عملية اتهام الهاشمي من قبل البعض بأنها مخطط طائفي يقوده المالكي ضد المكون السني في العراق، وصرح الهاشمي بان عملية الاتهام مخطط لتشويه سمعته ولضرب السنة وتقف ورائه ايران وسوريا، بينما المالكي رفض هذا الرأي وأكد ان العملية جنائية وليست سياسية ولا طائفية.

ولكن عندما نقرأ الوجوه السياسية للقضية بعيدا عن ملفها القضائي، نجد ان عملية الاتهام تخص مسؤول بمنصب رئاسي محسوب على رئيس الجمهورية وعلى الرئاسة دستوريا وتوافقيا حسب الاتفاق السياسي بين الكتل، ومسالة التركيز السياسي والاعلامي الذي لجأ اليه المالكي على قضية هي بالاول والاخير قضائية وجنائية كما اعترف به هو، محل تساؤول كبير جدا، واقل ما يمكن ان يفسر به ما قام به رئيس الحكومة هو الانقلاب على رئيس الجمهورية، خاصة وان المالكي اقتنص المسالة واستخدمها بمساحة اعلامية كبيرة وحورها بشكل ضربة موجعة لهيئة الرئاسة ولقيادات القائمة الممثلة للمكون السني، ولم يقف عند هذا الحد بل واصل بتهديد الموقف من خلال طرح حل غير مبرر في الواقع السياسي وهو اللجوء الى خيار اعلان حكومة الاغلبية بعيدا عن الشراكة التوافقية المستحصلة من اتفاق اربيل لتشكيل حكومة الشراكة بين الكتل البرلمانية، والكل يعلم ان الشراكة التوافقية جاءت بعد مفاوضات شاقة برعاية كردية وامريكية بعد اعلان النتائج الرسمية لانتخابات الدورة الثانية من البرلمان، وبعد بذل مساعي كبيرة ومحاولات عديدة لحلحلة العملية السياسية.

وبطبيعة الحال عندما نطلق تسمية الانقلاب على الخطوة التي لجأ اليها المالكي ضد رئاسة الجمهورية، فان هذا الوصف لم يأتي من فراغ، وقضية الاتهام بالرغم من اختصاصها القضائي الا ان عرضها بالطريقة الاعلامية والسياسية التي سلكها المالكي خلقت حالة من الشكوك الكبيرة عليه، لانها تبدو وكأن القضية مرتب لها من قبل رئيس الوزراء لأسباب ظرفية يمكن استنتاجها من مفردات المشهد السياسي في العراق قبل اعلان الاتهام وبعده، ومن خلال قراءة المشهدين وما ترتب من مواقف لاحقة، يمكن تحديد دوافع المالكي للانقلاب على الرئيس طالباني كالآتي:
bull;اعاقة مشروع تعديل الحدود الادارية للمحافظات الذي طرح من قبل الرئيس طالباني ورئاسة الجمهورية على مجلس النواب لدراسته وتبنيه لحل الخلافات الادارية القائمة بين بعض المحافظات وبين اقليم كردستان والمناطق المتنازع عليها.
bull;معارضة اعلان اقليم صلاح الدين الذي اعلن من قبل مجلس المحافظة قبل المشهد المتوتر بفترة من خلال رفض طلب المجلس من الحكومة الاتحادية للموافقة على البدء باتخاذ الاجراءات الدستورية والقانونية لتحويل المحافظة الى اقليم.
bull;مجابهة اعلان مجلس محافظة ديالى بتبني خيار تحويلها الى اقليم بالقوة المسلحة لميليشيات غير حكومية على مسرح الاحداث في المحافظة مما خلق حالة من التوتر والرعب والذهول عن مصدر تلك القوات التي عبرت عن حضورها المفاجيء بطريقة طائفية.
bull;الرد باسلوب بعيد عن بالحكمة على مبادرة رئيس القائمة العراقية اياد علاوي بمد يد المصالحة الى المالكي، وكان من الممكن استغلال هذه الفرصة لتحقيق المزيد من الانفراج في العملية السياسية بين الاطراف والكتل العراقية.
bull;تعريض اتفاقية اربيل ومبادرة رئيس اقليم كردستان مسعود البرزاني التي حققت الشراكة في تشكيل الحكومة برئاسة المالكي الى المخاطر وايصالها الى طريق مسدود بنية متعمدة لدفع العراقية الى ترك العملية السياسية واللجوء الى خيار تشكيل حكومة الأغلبية من قبل تحالف دولة القانون.
bull;التحرك المتعمد لافشال جهود الرئيس طالباني لجمع القادة العراقيين على الطاولة والتي كان يقوم بها في الفترة الأخيرة للجمع بين قيادات الكتل والاحزاب والاطراف العراقية للتغلب على المعوقات التي رافقت مسار العملية السياسية ومحاولة حل الخلافات بين المالكي وعلاوي وبين القائمة العراقية وتحالف دولة القانون.

باختصار، هذه هي الدوافع التي تقف وراء المالكي للانقلاب على الرئاسة العراقية وعلى رئيسها جلال طالباني، ولا شك أن هذه الدوافع يمكن قرائتها بأنها مبنية على نيات سلبية، وان المشهد المفتعل من قبل المالكي يشم منه الطائفية المقيتة، وتعثر متعمد لجهود الطالباني، وعرقلة متقصدة لتواصل تنفيذ اتفاقية اربيل، ومجابهة معلنة لرفض جهود المحافظات التي تريد ان تلجأ الى خيار الفيدرالية الادارية والاقتصادية لادارة شؤون مواطنيها بسبب التمسك بالمركزية الشديدة التي ينتهجها رئيس الحكومة، واضافة الى خلقه أجواءا من التوتر الشديد للأوضاع الامنية والسياسية والحياتية في الواقع الراهن.

ولايخفى ان الوضع المتدهور للعملية السياسية خلق انهيارا للحالة الأمنية على الساحة العراقية، ومع هذا التدهور عادت العمليات الارهابية الى الواجهة لتفتك بارواح بريئة أمام أعين القادة السياسيين التي انشغلت عقولهم ونفوسهم بالجري وراء السلطة وعيونهم غير مبصرة مما يعانيه الشعب العراقي من معاناة ومأساة وألام متواصلة.

ولكن مع كل هذا الواقع السياسي المؤلم والمرير على القلوب والمحير على العقول، فقد برهن العراقييون على قدرة كبيرة لتحمل الآثار السلبية للمشهد السياسي، وهذا ما يدفع بنا الى النظر بمنظار من التفاؤول للمنظور الزمني القادم على الساحة العراقية، ولكن تبقى مسألة حسم الخلافات السياسية وحلها مسالة في غاية الضرورة والعجالة لارساء الاستقرار والامان في البلاد، والقيادات العراقية امام امتحان ليس بعسير للبرهان على وطنيتهم المشكوك فيها من خلال اللجوء الى الحكمة والتعقل والعمل الجدي لحل الخلافات، ونأمل أن لا تطول خروج هذا الحل لمعالجة الحالة المستعصية الراهنة، وننصح ممن لايزال يفكر بعقل الانقلابات ان يبتعد عن هذا الخيار العقيم الذي لم يجلب غير الماساة للعراقيين.

كاتب صحفي ndash; كردستان العراق
[email protected]