رسخت حركة الإصلاح المسيحي في عهد التنوير علاقة الإنسان بالإله على بنية شخصية لا دور للأخر أو الكنيسة فيها، بعدها بقرون من التطور الفكري والتمازج الثقافي البشري بقيت المعابد الدينية الإسلامية والمسيحية في الشرق تحرك الإنسان وتتدخل في مفاهيمه ومعتقداته الدينية، غاياته ورغباته الدنيوية، وفي الطرف الآخر منهم بدأ الطغاة يتكالبون على نفس الساحة الفكرية الدينية والإجتماعية، فسخروا الشعوب لغاياتهم الذاتية وغرائزهم، فكان هناك المحكوم عليهم حسب مشيئتهم، وأنتشرت المفاهيم بين المجتمع حسب مناهجهم.

لذلك عانت الثورة السورية منذ البداية من هذا الصراع الديني الطائفي الذي سخرته السلطة بكل حذاقة، بقدر ما تعاني من المجموعات الإجرامية المدربة في أقبية القوى اللأمنية، مراجع إسلامية سورية عتيدة، تجابه الأغلبية الدينية في الشارع السوري، فتفتي للطغاة، تظهرهم كبديل لقدرة الإله على الأرض، بينهم علماء أمثال quot; البوطي quot; وال quot; حسون quot; وغيرهم، يضعون وشمة الخطيئة على الرافض لسلطة الطغاة، فأفتوا بالكبائر عجباً، وأنكروا للشعب مطالبهم بالعيش حراً، وطلبوا الإرضاخ لإرادة الآخر الظالم مادة ولغاية دنيوية، فكان التناقض الواضح مع الذات الإسلامية وبمعرفة مراجعهم العالمية، المساندة للثورات الشبابية، رغم أن هذه الأخيرة ايضاً لها مصالحها الغائية الذاتية الأنانية، والتي أدت راديكاليتهم في تسخير الإسلام السياسي وبتعصب قلقاً واضحاً بين الأطياف الدينية والقومية الأخرى، رغم ما يظهرونه من ماهية إنسانية عندما يرفضون الظلم بكليته.

رضخ قسم واسع من رعاة الكنيسة المسيحية مثلهم لذاتية طغاة سوريا، وبأغلبية، فأنجرفوا إلى مستنقع الإنكار لروح المسيح المسالم، الرافض صبراً للجبروت الإنساني. الخطيئة لا تلقى على الكنيسة، فإنها لا تخطئ وهي مرتكزة على تعاليم الرب، إنما الذين يخطئون هم الأفراد الذين يتحكمون بها حسب أهوائهم الذاتية، هؤلاء الذين إنحازوا أو رضخوا إلى الظالمين ضد المظلومين، تحت عوامل متعددة منها ثقافة البعث العنصرية، والتي أنتشرت بين الشعب عامة ومن ضمنهم الشريحة الأعرق على أرض سوريا، فرضخ الكثير منهم لرغبة طغاة السلطة السورية، وذلك تحت مفاهيم خاطئة ودراسة ناقصة للقادم من الزمن، ورؤية ضبابية لسوريا الجديدة ودون قناعة بأن الغاية من الثورة الشبابية هو وطن للكل.

الرعب الذي خلقته السلطة حول أهداف الثورة الشبابية بأن القادمين ما بعد أسقاط النظام هم طغاة المفاهيم السلفية في الإسلام السياسي، السلطة تنكر عن سابق قصد وتخطيط دور رواد الثورة، حاملي الثقافات المتعددة، والمتأثرين بمفاهيم الحضارة الحالية مع المجموعات العلمانية وغيرهم، فتلقفت أغلب الطوائف الدينية هذه الدعاية بقلق واضح وربما برعب حول سوريا القادمة، بينهم العديد من رهبان كنائس الوطن خاصة أولئك الذين ألتقت غاياتهم والسلطة السورية، والذين لم يراعوا رغبة الشريحة المؤمنة بتعاليم المسيح العظمى في الوطن والتي تندمج وغايات الثورة، فكان الذي نرى، حيث التلاعب بمفاهيم الشارع المسيحي لأنحيازهم عن تعاليم المسيح وأسباب صلبه، فكان تأييد أو تحييد قسم واسع لحكم أل الأسد مورثي الوطن المنهوب عقوداً.

لكن ما يتبين، الآن، بأن الأغلبية من الطائفة المسيحية في سوريا تقف في الحياد، أو تتعامل بشكل إيجابي أوتساند الثورة، بعكس ما أظهرته إعلام السلطة السورية، وما قامت به من مسيرات تأييد لآل الأسد في حارات الطائفة في دمشق، توضحت هذه من خلال وقفتهم الإنسانية الحاضرة عند تعليق إحتفالات أعياد الميلاد في المناطق الكردية خاصة في شمال شرق سوريا، لكن هذا لا يحيدنا من توجيه كلامنا إلى جزء لا يستهان به من الطائفة وأكثرية من الأكليرك الكنسي في وقوفهم إلى جانب السلطة الأسدية الذين ينكرون بمواقفهم تلك الروحانية العظمى والزهد المتكامل الذي يوصف به اليسوع إنساناً، ويتناسون التضاد الصارخ الذي بناه الرب بين الروح والمادة أي بين التعامل الإنساني المبني على تعاليمه وبين تخريب الطغاة وبرابرة العصر من الشبيحة والقوى اللأمنية السورية، كما وينكرون علناً غاية عذاب المسيح من أجل البشر تفنيداً للظلم والطغاة. تدرك مجموعة من مثقفي الطائفة أمثال السيد quot; سليمان يوسف quot; الناشط والباحث الأشوري، صاحب المواقف والآراء الجريئة، وبعض الكنسية، هذه التعاليم بكل دقائقها، كما ويعلمون بأن الحياة في ظل السلطة الأسدية أصبحت شبه معدومة، فكانت كلمتهم مع الثورة على الظلم.

جميعنا نعلم بأن المسيحية كدين تناهض الطغيان والظلم وترفضها كتعاليم، وتقف للمظلومين سنداً بالروح السلمية، وبالصبر على تحمل العذاب والإرادة التي خلقت القناعة على أن النهاية لصالح المظلومين، وهذا ما تبين من دراسة تاريخ سيرة الرسل والمبشرون المسيحيون الأوائل، وهنا لا أتحدث عن الذين سخروا الدين والكنيسة لسلطانهم وطغيانهم فيما بعد بل عن الرسل الذين وقفوا في وجه الطغاة وأعطوا الأولوية للإيمان والحياة الحرة الصادقة وناضلوا في سبيلها حتى الإستشهاد، والذين يجب أن يكونوا أمثلة يقتدى بهم اليوم في الوطن.

ما يعانيه الشعب السوري الآن مشابه للمعاناة والإضطهاد الذي عان منه المسيحيين الأوائل من ظلم قياصرة روما، لا تختلف عنها ضراوة ودماراً للإنسان، هنا نيرون حمص ودرعا يحرقها وهو يضحك أمام الناس، ناسياً أن يعزف على قيثارته ويغني. اليوم توقظ السلطة السورية أتهامات نيرون وحاشيته من أحضان التاريخ بإتهامهم للشباب الثائرين سلمياً، بإنهم وراء الدمار والقتل الحاصل في الوطن، مثلما إتهم رواد المسيحية الأوائل بأنهم كانوا وراء حرق روما.

تكفيراً على الخطأ التاريخي المتمثل بتجاهل مجموعات من الطائفة للظلم الحاصل في شوارع المدن السورية من قبل السلطة الفاشية، ووقوفهم، معنوياً أو ضمنياً، إلى جانب آل الأسد في مواجهة الثورة الشبابية الهادفة إلى الحرية والتنوير، يتطلب منهم الإعتراف الداخلي الذاتي أمام الرب وليس الكنسي، وهي المراجعة الروحانية والأخلاقية التي تعد من إحدى أهم تعاليم اليسوع المسيح والمترسخة في الأناجيل، وهذا ما تفرضه الروحانية الإلهية الصادقة على أصحاب الفتاوي من المرجعيات الإسلامية أيضاً التي أنجرفت مع الظالم لغاية ذاتية أنانية.

الأناجيل لم تذكر بإن الإله تجسد في غير اليسوع المسيح، فالطغاة ليسوا بآلهة، إنهم زائلون، النهاية تظهر الآن، الآتي هو الخلاص من فساد آل الأسد وشناعاتهم، الثورة ستمتد إلى الجميع وسوف لن تقف على حدود السلطة السورية. لا يحق للمؤمن التخلي عن مبادئ الرب لإرضاء طغاة آل الأسد، ولا يقبل الرب من رعاته بأن تسخر الكنيسة لتصلب تعاليمه في حضنها والرعية ساكتة لا مبالية.

كل عام وأنتم بخير

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

[email protected]