بين فترة وأخرى تطرح حكومة دولة القانون على الناس: قضية بأسلوب أبعد ما يكون عن القانون، والمنطق وطرق التعامل السوي في عالم السياسة!

أعلنت قبل أكثر من عام أن صالح المطلك مارق وإرهابي وقيادي بعثي، وطاردته شرطتها لاعتقاله، حتى لجأ إلى عمان، ثم سوي الأمر بصفقة سياسية، وعاد المطلك نائباً لرئيس الوزراء!

و صورت إياد علاوي إرهابياً، فنشرت أجهزتها صورة تجمعه بإرهابي يدعى فراس الجبوري أدين بجريمة شنيعة عرفت بعرس الدجيل، عممت على وسائل الإعلام ورفعت في ساحة التحرير بمظاهرة حاملة السكاكين والهراوات، بدا الأمر مسرحية هزلية مضحكة، لكن في الواقع أريد منه محرقة لعلاوي!

وبين فترة وأخرى يخرج قادة دولة القانون يهددون هذا وذاك من خصومهم أو منافسيهم في البرلمان وفي الحكومة وفي مقراتهم كقادة أحزاب، بأن لديهم ملفات عليهم، فصارت هذه الملفات التي لا يعرف أهي ورقية أم إلكترونية سيوفاً مسلطة على الرقاب دائماً، كيف يعمل أو يعيش الناس بجو كهذا؟

وكثيراً ما تنشر صور وأفلام في قضايا تتعلق بسياسيين خصوم، ثم سرعان ما تطوى ضمن صفقات سرية وعلنية بينما هذا لا يجوز قانونا، فالقضية الجنائية التي تعلن يجب أن تمضي إلى نهايتها وفق قانون أصول المرافعات الجزائية، فيبرأ البريء، وينال المجرم عقابه! لا أن تتحول إلى( بازار...) للمساومات،إن أي استعمال للقضاء في السياسة ينفي عنه شرعيته، ويهبط بالأخلاق إلى درك مهين!

هذه القضايا الوهمية، أو التي وقعت فعلاً ثم خضعت للصفقات، تأخذ الحيز الأكبر من اهتمام الحكومة والقضاء المرتبط بها، بينما تغيب القضايا الحقيقية المتعلقة بمصائر الناس والتي ذهب ضحيتها شخصيات عرفت بنزاهتها ومعارضتها للنهج السائد، وتطلعها لعراق بعيد عن الطائفية والمحاصصة والفساد وانعدام الخدمات، فالناس تسأل من قتل كامل شياع،وشهاب التميمي وهادي المهدي وآمال معملجي وأحمد الحجية وعلي الحيدري، وعمار الصفار، ونزار عبد الواحد وبسام كبة ومحمد العلوان،وفراس يازو، وآلاف من العراقيين؟ لماذا يختفي مجرمون أدينوا بالإعدام بجرائم اغتيال بحجة هروبهم من أيدي حراسهم؟ ولماذا يفلت فاسدون كبار أدينوا بسرقاتهم مئات المليارات من الدنانير، وخربوا اقتصاد البلاد وتسببوا في جوع الناس وعوزهم وقديما قالوا ( قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق )؟

وكثير من القتل الطائفي الذي وقع أعوام 2005- 2006-2007،عندما قتل سنة شيعة، وشيعة سنة على الهوية، أدارها قادة موجودون الآن في السلطة من الطرفين، فإذا صحت الضمائر، وأريد فتح الملفات، فيجب فتح ملفات مرتكبي هذه الجرائم الفظيعة والمحرضين عليها جميعهم والذين لكثرتهم من الصعب أن يقول أحد من الحاكمين سنة وشيعة أنه برئ منها، ناصع الجبين!
لماذا إذاً هذا اللعب بالقضايا الكبيرة والمصيرية؟ لا أحد يجيب! ولا يظهر المالكي على الشاشة ليتحدث عنها بالحرقة التي شاهدناه يتحدث فيها في قضية لم يقل القضاء فيها كلمته بعد!

إن توجيه مثل هذه التهم الثقيلة لأشخاص ومحاولة حرقهم بفضائح مختلقة مروعة، ثم التراجع عنها يتراوح في لغة القانون بين (التهم الكيدية، والتلفيق والتشهير والطعن دون أساس مادي ) وبين اللعب بالقضايا الشرعية لأغراض سياسية، وكلا الأمرين هو خرق للدستور، وانتهاك للقيم الإنسانية! ومع هذا يتحدثون عن قضاء حضاري مستقل في العراق،بل أفضل قضاء في المنطقة!!! كما قال أحدهم!

ترى من يعتذر لهؤلاء الذين تلطخت سمعتهم وشوهت أسماؤهم، ومن يرد لهم الاعتبار؟ دعك عن التعويضات المادية والمعنوية، وماذا يجدي ذلك؟

آخر هذه القضايا ما أثير قبل أيام ضد طارق الهاشمي، نائب رئيس الجمهورية، باتهامه وأفراد من حمايته بجرائم إرهابية!

أعلن ذلك بحملة تلفزيونية شارك فيها المالكي بمؤتمر صحفي طويل بدا فيه عصبياً محتداً وهو يتوعد الهاشمي ومن يؤويه، ثم تصاعد في الفضائيات الموالية للحكومة جو فضائحي للمتهمين بينما في الدول المتحضرة يمنع نشر صور المتهمين قبل إدانتهم، ولا يسمح بنشر سوى رسوم تخطيطية لهم، مع التكتم على مجريات التحقيق والمحاكمة حفاظاً على أجواء قضائية سليمة بعيدة عن أية مؤثرات!

لماذا كل هذه الضجة على قضية لم ينجز منها سوى تحقيق أولى، لا يمكن لأي قانوني رصين أن يجزم بسلامته وأمانته؟ ردد أحد المتهمين: إنه دفع ليغتال رافضي (شيعي)، وقد أريد بذلك إثارة النعرة الطائفية بطريقة ساذجة مفضوحة، لكنها مستفزة مثيرة!

ما بعث نذر قلق وخوف في العراق وأعاد أجواء الحرب الطائفية، وجعل الناس يلازمون بيوتهم وتهتز الأسواق، وتهبط قيمة الدينار. وفي اليوم التالي حدثت سلسلة انفجارات إجرامية ذهب ضحيتها المئات من الأبرياء! تصاعدت بعدها حملة لإلقائها على كاهل العراقية وقادتها! والعراقية تلقيها على عاتق الممسكين بالسلطة، وهكذا.. دم العراقيين ولمرات عديدة،لا يجعل الساسة مستعدين لمراجعة أنفسهم بحثاً عن الحقيقة والطريق السوي.

وفي طرفين لقضية، لا بد أن يكون الأقوى وصاحب القرار الأعلى في السلطة، ومن بيده مفاتيح إدارة الأزمة، وربما الصراع كله،هو الأكثر عرضة للمساءلة، دون أن يعفى الطرف الآخر من دوره، ومن الذنوب والآثام طبعاً.

ظل الإرهاب والفساد يغذي أحدهما الآخر ويتضافران معا على تدمير حياة العراقيين وهلاك أرواح الكثير منهم كل يوم، وبدلاً من مواجهتهما بصلابة وبمبدأية عالية، خضعا للمساومات، بين (قادة) الطائفتين، وداخل (قادة) الطائفة الواحدة، فالمصالحات الوطنية التي عقدت على هذا السبيل لم تتم بحسن النوايا من الطرفين معاَ، وكانت أشبه (بزواج الفصل، أو الدية) كل طرف وجد نفسه فجأة في بيت عدوه وخصمه، دون حب أو صدق أو وفاء، لذلك بقي جو الشكوك والتربص متبادلاً، وتحين الفرص للانتقام مستمراً!

كان أخطر تعامل لا ينم عن صدق المصالحة الوطنية، ولا عن بعد القضاء عن السياسة، هو ما أصدرته المحكمة الاتحادية المشكوك بشرعيتها أصلاً من شهادة ترجيحية غير صحيحة لقائمة دولة القانون لتتولى السلطة وتقود البلد.رغم إن العراقية كانت صاحبة الأصوات الأكثر،
وبذلك بدت المصالحة والسلام الأهلي، والمنافسة الديمقراطية،خاضعة لقاعدة الأعلى والأسفل، وليس المواطنة المتساوية، ثم لم يلبث المالكي أن أسفر عن كونه دكتاتوراً بإهاب رجل تقي ورع، فهو يحكم بمزاجه وقريحته رافضاً أية رقابة أو حساب حتى لو جاءت من البرلمان! ثم تنصل من أهم بنود اتفاقية أربيل، التي جددت له رئاسة الحكومة، ويبدو إنه لا يحاسب من حزبه ولا من كتلته، واليوم تثبت الوقائع أن دولة القانون لا تمتلك الكفاءة ولا الجدارة لقيادة البلد على طريق الوئام والأخوة! فقد أوصلت البلاد إلى حافة الصدام الطائفي والذي قد لا تستطيع المصدات الدستورية والثقافية والأخلاقية الواهنة درئه والحيلولة دون تفجره ثانية!( فحتى لو ثبت أن الهاشمي ضالع بهذه الجريمة، أما كان بالإمكان إدارة قضيته بهدوء ورصانة، فينزل به العقاب الذي يستحقه، بطريقة تجعل حتى أنصاره يقفون ضده، ومع القضاء ؟ وهل وصف المطلك للمالكي بالدكتاتور، وأنه أسوء من صدام، يقتضي تخريب العملية السياسية؟ في الدول الديمقراطية كل يوم يشتم الرؤساء بشتى الكلمات النابية، فيضحكون! لو كان المالكي يمتلك القدرة على إدارة الأزمات،لأثبت له بسلوكه العكس وجعله يتراجع عن كلامه ويخرج على التلفزيون ليعتذر، ثم لِمَاذا المالكي بهذه النرجسية؟ أهي مرايا القصور؟ أم وراء الأمر ما هو أعمق!)

هناك من يتحدث عن صفقة عقدتها إيران والمالكي مع الإدارة الأمريكية: العراق مقابل سوريا! بموجبها تتخلى إيران عن النظام السوري وتتركه يذهب لمصيره المحتوم، مقابل أن تضمن إيران هيمنتها على العراق لا ينازعها فيه أحد، ولا ينغص مزاج رجالها فيه، لا العراقية ولا من يتحدث عن وجود طائفة أخرى في العراق! أغلب الظن إنها تسريبات إيرانية لتشويه صورة الثورة السورية، فأمريكا غير حريصة على الثورة السورية، ما يهمها حين منحت العراق لإيران هو: خلق محورين طائفيين في المنطقة يشتريان سلاحها العتيق الكاسد، ويتنافسان على طلب ودها وحمايتها!

لا يحتاج المرء لكثير من التفكير ليدرك أن هذا الصدام السياسي الخطير حدث نتيجة لعوامل عديدة لعل أهمها: أن انسحاب القوات الأمريكية ترك الجو سانحاً للمالكي ومن معه في التحالف وحكام إيران لتحقيق ما كانوا يطمحون له منذ وقت طويل: الانفراد بالسلطة! وما يحدث في سوريا فاقم من قلقهم، وجعلهم يسارعون لتعويض الخسائر التي قد يمنون بها هناك، وما تعرضت له العراقية من انسلاخات جعلها مغرية للافتراس!

إنه أكبر من انقلاب على نظام التوافق والشراكة السياسية الذي كان أصلاً غير عادل ومزعزعاً! هو: إعلان الهيمنة النهائية المطلقة لطائفة على أخرى! وعلى البلاد كلها! وهذا يقف خلفه تاريخ طويل من عقد الاضطهاد، والمظالم المصنوعة في المخيلة المدربة أكثر مما هي على الأرض!

إن تدفق موارد النفط التي من المتوقع أن تربو على 120 مليار دولار سنويا، واتساع المؤسسة الدينية الشيعية بشكل لم يسبق له مثيل، يجعل من المحتم إزاحة أي منافس عن المائدة!
وحتى الآن يعجز الشيعة والسنة معاً عن إيصال قادة غير طائفيين إلى سدة الحكم!

حسم غلاة الطائفة أمرهم بالضد من إرادة ملايين الشيعة الشرفاء، بقهر أبناء وطنهم من الطائفة الأخرى، والاتكاء نهائياً على إيران، لكن أسئلة كثيرة تطرح نفسها في هذه المعمعة: هل يستطيع المالكي وقادة حزب الدعوة ابتلاع العراق دون أن يغصا باللقمة الكبيرة؟ هل يستطيعون تحمل أعباء وأوزار حرب طائفية، قد تقع إذا لم يبرز حكماء مخلصون من الطائفتين لوأدها ؟ هل ستبقى إيران سنداً لهم ودول أوربا وإسرائيل قلقة من سلاحها النووي؟ فهؤلاء قد لا يقتنعون بالمشاركة في صفقات أمريكا لبيع سلاحها وتسويق حمايتها وقواعدها بعد أن ثبت للعراقيين وأهل المنطقة كذبها وتهتكها، وتحولها من مأثرة إنسانية في البدء، إلى عار سيظل يلاحقها إلى الأبد، فهي لم تصنع عراقاً جديداً كما وعدت، بل عراق ما قبل 1400عام، ما تزال الطوائف تتقاتل فيه بعمائمها ومذاهبها وضغائنها فقط تحولت فيه السيوف والنبال، إلى مسدسات و مفخخات، وصواريخ!

[email protected]