ينتمي quot;إيريك هوبسباومquot; ( 1917 ndash; 2012 ) إلي سلالة العباقرة من مؤرخي الفكر في القرن العشرين، أمثال: quot;آرثر لوفجويquot; مؤلف quot;سلسلة الوجود الكبريquot; الذي أدخل علم تاريخ الأفكار في أمريكا، وquot; كارل مانهايمquot; الذي أنتزع هذا العلم من المجردات وربط بينه وبين التاريخ الإجتماعي في كتابه quot; الإيديولوجيا واليوتوبيا: مقدمة في سوسيولوجيا المعرفة quot;، وquot;إرنست كاسيررquot; صاحب موسوعة quot;فلسفة الأشكال الرمزيةquot;، وquot;ميشيل فوكوquot; الذي طور تاريخ الأفكار التقليدي وقدم منهجا جديدا للبحث أسماه quot;التحليل الحفريquot;، إلي جانب: quot;برنارد جروتهوزينquot; وquot;فيدريكو شابودquot; وquot;وهان هويزينجاquot; وquot;ول هازاردquot; وquot;هربرت باترفيلدquot; وquot;جون هرمان راندالquot; وquot;كرين برينتونquot; وquot;بازل ويليquot; وquot;فرانكلين . ل . باومرquot; وغيرهم.
وquot;علم تاريخ الأفكارquot; هو فرع معرفي جديد نسبيا، أصبح يحتل منذ النصف الثاني من القرن العشرين موقع الصدارة في الدراسات الفلسفية والتاريخية في جامعات أوروبا وأمريكا واليابان. ويبحث، كما يبدو من تسميته، في المفاهيم والأفكار المحورية التي تسيطر علي حقبة بعينها أو مجتمع ما في فترة محددة، ويتتبع هذه الأفكار في مختلف ميادين المعرفة وليس في ميدان بعينه، كما انه لا يدور حول الأفكار الواضحة بذاتها فحسب (كما تفعل الفلسفة) وانما هو يهتم أساسا بـquot;العالم الباطني للفكرquot;، أو قل تلك الأفكار التي
رحيل أيريك هوبسباوم |
تقف وراء كل الفكر الصوري أو تعد شرطا له، كما يقول باومر، وبديهي ان هذه الأفكار هي التي تكشف عن أعمق أعماق شخصية شعب معين أو عصر ما أو حضارة كاملة.
وإذا كان ظاهر الأمر يوحي بأن علم quot;تاريخ الأفكارquot; يقوم علي افتراض مسبق مفاده quot;أن العقل أو الروح هو القوة القصوي وراء كل تقدم في التاريخquot;، فإن النقلة الكبري التي أحدثها المؤرخ البريطانيquot; هوبسباوم quot; تتمثل في إقامة الجسر بين التفسيرين المثالي والمادي للتاريخ، متأثرا بالاتجاه الفكري العام ndash; وليس الخاص ndash; لكتابات quot;كارل ماركسquot;، ورغم أنه مارس النقد الجذري للعديد من أطروحات ماركس الخاصة بالمجتمع البورجوازي في القرن التاسع عشر، إلا أنه لم يتخل عن ماركسيته حتي وفاته صباح اليوم، لأنه مارس النقد من داخل أعماله وعلي أرضيته من أجل تطوير الجوانب الحية من الفكر الماركسي وغربلة ما تجاوزه العلم والزمن.
مفتاح سر كتابات هوبسباوم يكمن في عناوينها، فليست هذه العناوين مجرد تلاخيص تجريدية لمضامين هذه الكتابات فحسب، بل هي لب هذا المضامين ذاتها، وعلي سبيل المثال تجد في مؤلّفاته الثلاثة: quot;عصر الثوراتquot; (1789 - 1848)، وquot;عصر رأس المالquot; ( 1848 - 1875) وquot;عصر الإمبراطورياتquot; (1875 - 1914) عرضا بانوراميا لمسيرة تطور الرأسمالية في المجتمعات الصناعية والحديثة، التي أتمها عام 1994 بالجزء الأخير من هذه الموسوعة، وعنوانه: quot;عصر التطرّف. التاريخ القصير للقرن العشرين (1914-1991)quot;.
ويتضمن الأدلة القاطعة علي مغالطات المنظر الأمريكي من أصل ياباني quot;فرانسيس فوكوياماquot; في كتابه (نهاية التاريخ )، فقد رأي هوبسباوم أنه رغم ما حققته الرأسمالية من انجازات ومكاسب كبري فإنها تتضمن تناقضا لايمكن حله ويتمثل أساسا في: quot;جماعية عملية الإنتاج وفردية الاستحواذ علي الفائضrlm;quot;.rlm; بمعني ان عملية الإنتاج التي يسهم فيها ملايين المهندسين والعمال والإداريين تنتهي أرباحها في النهاية في جيوب عدد قليل من الرأسماليين وملاك الشركات والمؤسسات والمديرونrlm;.rlm;
أهم ما طرحه في هذا الكتاب الذي قسمه إلى ثلاثة مراحل - quot;عصر الكوارثquot; ما بين 1914 و 1945، quot;عصر ذهبيquot; (1945 ndash; 1970) عرفت أثناءه المجتمعات تحولات هائلة، وأخيرا فترة أزمة شاملة مع نهاية الأنظمة الشيوعية وتفكّك الإتحاد السوفيتي السابق عام 1989 - أن الخط الفاصل الذي كان يميز بين الصراعات الداخلية والصراعات الدولية قد أختفى، وهو الخط الذي بقى واضحًا طوال القرن التاسع عشر وحتى نهاية الحرب الباردة، إلى حد كبير. كما أن الجيوش الأجنبية لم تكن تعبر الحدود بدعوى حل صراع داخلي ينشب في نطاق دولة مستقلة ذات سيادة، وكان هذا يمثل القاعدة الذهبية للنظام الدولي، وهي قاعدة حققت استقرارًا نسبيًا للعالم، إلا أن موازينها قد اضطربت، وتآكلت فاعليتها منذ عام 1989، على نحو ما حدث في يوغوسلافيا السابقة ثم العراق منذ عام 2003 وحتي الآن، ثم ما يحدث ndash; ويحدث - مع دول ما يعرف بالربيع العربي بدءا من العام 2011 وصولا للأزمة السورية المحتدمة التي لا يستطيع أحد التنبوء بما ستنتهي إليه.
هوبسباوم حذر من أننا سنواجه عملية ارتداد ونكوص إلى قرون وسطي quot;دينيةquot; جديدة، بسبب انحسار الموجة التاريخية الطويلة التي تدفقت نحو بناء laquo;الدولة - الأمةraquo;، وتدعيم قوتها، وهي الموجة التي بدأت منذ القرن السادس عشر واستمرت حتى العقد الأخير من القرن العشرين : هل سنشهد حرباً بين الهويات والثقافات والأديان كحرب الثلاثين عاما الدينية التي شهدتها أوروبا بين أعوام 1618 و1648 ، حتي يولد quot;النظام الدولي الجديدquot;؛ أم أننا سنشهد حرباً طويلة الأمد، لها ائتلاف دولي متغير ومتعدد، ذو مستويات تضامنية مختلفة، تلعب فيها الشركات العابرة للقوميات والميليشيات المسلحة (المرتزقة) والتنظيمات الإرهابية دورا رئيسيا بالتوازي والتقاطع مع القوي الكبري؟
[email protected]
التعليقات