الأزهر ليس بريئا مما جرى في الدستور، مهما صدر عنه وعن مؤسساته وممثليه في الجمعية التأسيسية من بيانات تنفي أو تفسر أو تدافع عن موقفه، فهو شريك أصيل فيما خرج به الدستور والاستفتاء عليه، شريك بالقول والفعل والعمل، فقد كان داعيا ومروجا ومدافعا عما ورد في الدستور من مواد، فممثلوه أصروا على الاستمرار في التأسيسية وصوتوا على جميع المواد بالموافقة ولم يتوانوا لحظة واحدة في الخروج لدعوة المصريين إلي التصديق عليه وقبوله، بل كانوا أشد إصرارا على التسليم بما ورد فيه وتمريره، ولم يكن حضور شيخ الأزهر فضيلة د.أحمد الطيب في حفل تسليم الدستور إلى الرئيس الإخواني محمد مرسي إلا تأكيدا على موافقته الصريحة على ما جاء فيه من مواد.

بل إن من ممثلي الأزهر من ساهم إسهاما واضحا جنبا إلى جنب مع قيادات جماعات وتيارات الإسلام السياسي من إخوان وسلفية وجهادية وجماعة إسلامية في الترويج والانحياز للدعوة بالتصويت بنعم للدستور، حيث قال الشيخ نصر فريد واصل quot;من منطلق عقيدتي ومن منطلق شهادتي أمام الله وأمام التاريخ أن هذا الدستور قيمة وقامة وأنه من أعظم الدساتير التي وضعت على مستوى العالم، تحقق الهدف المنشود للمصريينquot;.
لقد وقع الأزهر منبر الإسلام المعتدل وقبلة المسلمين الذين يرفضون التطرف والتشدد والإرهاب من كل أنحاء العالم، في مصيدة جماعات وتيارات الإسلام السياسي وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين والجبهة السلفية، وأصبح بعض شيوخه بالأصالة عن أنفسهم وعن المؤسسة التي ينتمون إليها أبواق دعم ومساندة ودفاع عن هذه الجماعات والتيارات، وما تحيكه من مؤامرات للانقضاض على السلطة باسم الإسلام والمسلمين.
نعم الأزهر ليس بريئا مع كامل إجلالنا لتاريخه ومكانته وعلمائه، وقد أحدث انحيازه الواضح للنظام الإخواني الحاكم ومناصروه من سلف وجهاد شرخا عميقا في الاعتدال الإسلامي المصري إذا جاز التعبير ليشق صف المصريين ويفرق بينهم، فقد جاء انحيازه مؤكدا وداعما لخطاب جماعات وتيارات الإسلام السياسي، هذه الخطابات التي لم يكن يعتد بها يوميا كممثلة لتوجه المصريين، فإذا به يتوافق معها ويسمح لشيوخها بالدخول للجامع الأزهر ثم باعتلاء منبره واستخدامه للدعاية، في مؤشر لاستسلامه لهذه القوى.

إن الأزهر كمؤسسة مفصلية مثل باقي مؤسسات الدولة المصرية الحيوية، كان معروفا منذ تولي الرئيس الإخواني الحكم أن عمليات الاستيلاء عليها تمضى على قدم وساق، وأنها ليست بعيدة عما جرى للصحافة والإعلام والشرطة والأجهزة الأمنية والقضاء والوزراء والمحافظين وغيرها، لكن أحدا من المصريين الذين يعدونها مؤسستهم التي تحمي عقيدتهم من التطرف والإرهاب، لم يتوقع سرعة سقوطها بين مخالب جماعات التشدد والتطرف، وأن يخرج منها من ينحاز لخطابات هذه الجماعات والتيارات.

ومن يتابع القنوات الدينية الفضائية والإذاعية والدعاة الأزهريين في المساجد والجوامع يكتشف أن الأزهر بالفعل قد يتبنى بإرادته أخونة وتسليف خطاباته، وأن هذه الأخونة والتسليف بعضها تسليما بسلطان السلطة الإخوانية السلفية الحاكمة، وبعضها أصيلا كشف عن نفسه بعد تأكده أن السلطة قد دانت لجماعته، وقد ظهر كلا الفريقين في العديد من المواقف مثل موقف اختيار وزير الأوقاف في وزارة د.هشام قنديل، وحملات دعم الرئيس في خطب الجمعة، ثم تأييد إعلانه الدستوري ثم تأييد الاستفتاء على الدستور وحصول بعضهم على ما أراد مقابل ما أداه من خدمة للدعوة للدستور والدفاع عنه.

أعترف أنني أقدر وأجل كغيري من المصريين فضيلة الشيخ د.أحمد الطيب، لكني أبدا لم أكن أتوقع أن يشارك في مهزلة دستور يعلم يقينا أنه يفرق ولا يجمع، يتطرف ولا يعتدل، يشوه ولا يجمل، وفي النهاية هو ضد إرادة المصريين، وذلك بحضوره حفل تسليمه للرئيس، ومن قبل سماحه لممثلي الأزهر بالاستمرار في التأسيسية، ومن بعد أن يشاركوا في الدعوة إلى تمرير الدستور بـ quot;نعمquot;، ربما وقع الرجل تحت السطوة المتطرفة من جانب مشتهي السلطة من بعض شيوخ الأزهر، لكن لما أبرأه وما تم تسريبه من حديث للشيخ ياسر برهامي أمام شيوخ الجبهة السلفية جاء فيه quot;إن الدستور يشمل قيودًا غير مسبوقة تخص الشريعة وذلك لأول مرة في دستور مصري عبر التاريخquot;، موضحا وجود صفقة تمت بينهم وبين الأزهر بحيث يتم التأكيد على المادة الثانية في مقابل احتفاظ شيخ الأزهر بمنصبه طيلة الحياة، مطالبًا القنوات الفضائية الإسلامية بإظهار ما تفعله الكنيسة، وقال quot; لقد حاصرنا المادة الثانية وحصناها من خلال مذهب أهل السنة و الجماعةquot;، يؤكد أن شيخنا الجليل راض عما جرى ويجري.

حزين ولست وحدي بل هناك ملايين غيري من المصريين لموقف شيخ الأزهر، وليس لدي تفسير أو لدى غيري إلا أن يكون الرجل رضخ ضعفا أو طمعا في مواجهة مليشيات لا تعرف قيما ولا أخلاقا، لكن ذلك لا يليق بالعالم الجليل ولا يقبل بمن يحتل مكانته إماما لكل المسلمين مصريا وعربيا وعالميا، لقد قبل أن يتم جره في صفقة تسيء له وللأزهر ولمصر والمسلمين المصريين، باعتباره أن المادة الرابعة تهدد اعتدال ووسطية وتعددية الأزهر.

لقد كنت آمل أن يكون الأزهر بالفعل خارج لعبة السياسة، وألا يورط نفسه، لأن تورطه ينتقص بل يقوّض من سلطة كلمته ومرجعيته الدينية عند المصريين جميعا، وأستطيع أن أؤكد حدوث ذلك، وأن النظرة إليه بعد ما جرى ويجري وما تم الكشف عنه بإرادته أو دون إرادته، لم تعد تلك النظرة التي تقدس وتحترم رأيه، لقد تمكن عدد من شيوخه وأساتذته المتطلعين والطامحين إلى السلطة وجوائزها أن يشوهوا موضوعيته وحياديته واستقلاليته بعد أن فتحوا كافة مداخله ومنابره جامعا وجامعة لخطابات شيوخ التطرف والتشدد، ليصبح بالنهاية مؤسسة مثلها مثل غيرها من المؤسسات التي أصبحت بوقا.

فيا شيخنا الجليل د.أحمد الطيب اسمح لي كمواطن مصري يجل الأزهر تاريخا وعلما ومكانة إن استمرار سكوتك وصمتك على فتح الأزهر أبوابه ومنابره لعبث وتلوث جماعات وتيارات الإسلام السياسي المتطرفة سيقوضه، فإن لم تستطع حمايته وحماية مكانته واستمريت على ضعفك في مواجهة ذلك، فأنت راض عما يجري، راض عن تشويه مصر الوسطية المعتدلة المتعددة، وإلا فاعلن رفضك أو استقل أكرم لعلمك وتاريخك ولتاريخ المؤسسة العريقة.