وفيما الوطن يفيض بمياه الأمطار والمجاري، وفيما يغرق في المشكلات والإتهامات والإعتصامات وقطع الطرقات ألقى رئيس وزراء العراق خطبة واضحة وصريحة يوم الجمعة 28 ديسمبر 2012 وفيها تشخيص دقيق لمشاكلات الوطن ودعوة وطنية صادقة لبناء العراق وتنبيه لما قد يصيبه من خراب لا سمح الله!

لكن هذه الخطبة الجميلة وهو متحدث جيد، يقدم أفكاره بلغة سليمة مموسقة إعرابياً وأفكاره متسلسلة وإنتقالاته من موضوع لآخر تأتي في منتهى الدقة والسلاسة. وبعد أن أستمعت إلى تلك الخطبة وأدرت مؤشر التلفاز حتى شاهدت لقطات لنائب الرئيس في أسطنبول مع وزير الخارجية التركي وهو يصرح عن قرب سقوط حكومة المالكي بسبب ما أسماه quot;الهبة الشعبية!quot;

صحيح أيها السيد رئيس الوزراء الذي يمتلك صبراً يسمح لي أن أحسده عليه، إن كل ما قلته كان صحيحاً، ولكن على أرض الواقع هناك فيضان في بغداد. وإن المسلمين في العالم يصلون صلاة الإستسقاء من أجل أن يأتيهم المطر، فيما أهل العراق اليوم يصلون صلاة الجفاف أن لا يأتيهم المطر! وصحيح هناك فساد أداري ومالي، ولكن لا أحد من المفسدين نال جزاءه فمن هرب هرب ومن بقى سوف يحتمي بأحد المكونات. صحيح العراق لكل العراقيين ولكن هناك ما يقرب من أربعة ملايين عراقي ليسوا عراقيين بمفهموم المواطنة القائمة اليوم في العراق ويعيشون غربة داخلية وخارجية خارج وطنهم وتهدر طاقاتهم ومعرفتهم بدون وطن. صحيح هناك سفارات عراقية، لكن العراقيين لا يدخلونها لأسباب معروفة ومدانة. صحيح أن كافة الوزراء ومحافظي المحافظات يحملون شهادة الدكتوراه ولكن أغلبها شهادة مزورة مشتراة وأصحابها لا يتقنون الجار والمجرور في تصريحاتهم. صحيح هناك برلمان منتخب، لكن هذا البرلمان منتخب وفق قانون لم يكتبه العراقيون ولم يناقشوه، جيء به جاهزاً لتقاسم العراق والدفع به نحو التشظي. صحيح هناك نواب يناقشون الميزانية ولكن هؤلاء النواب يتقاضون رواتب ومخصصات غلاء معيشة ومخصصات حماية وحتى مخصصات قرطاسية من الميزانية لا يحصل عليها رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، الدولة الأكثر رعبا وثراءً في العالم، فيما المعلم الذي علمك وعلمني الحرف يقف في الصيف القائظ وفي الشتاء الفائض، ليحصل على بضعة وريقات قد ينالها ذلك اليوم وقد يخفق بالحصول عليها بسبب الطابور وإنتهاء دوام الموظفين. صحيح ولكن وصحيح ولكن وصحيح ولكن!

سأقول إليك كلاما حنونا صافياً أيها السيد رئيس الوزرء، وأنت مررت على الجرح الأعمق، ولكن مرور الكرام في خطبتك المتقنة الذاكرة والأداء والهدف والتي لا غبار عندي على وطنيتها.

الجرح وهو الجرح الأعمق أنك تحدثت عن التهويل في المشاكل وتحدثت عن الإتهامات والمعارك السياسية وأنت كان بإمكانك أن تحول دون حصول كل هذا منذ توليك المسؤولية حتى تاريخ ألقائك الخطاب السيادي. كان بإمكانك منذ اليوم الأول أن تستمع لنداء الحق وللصوت الوطني الذي نبهك إلى مكامن الخطر في العملية السياسية. ليس الخطر كامناً في الفتنة الطائفية، فالعراق بشعبه الحقيقي لا يعرف الفتنة الطائفية على الأطلاق. لكنه السلاح المصطنع الذي سوف يتحول إلى سلاح حقيقي وسوف يشهر في وجه بناء الوطن وهو الفتنة الطائفية، فسيتحول الإدعاء إلى حقيقة وتكبر هذه الحقيقة حتى تتحول إلى فتنة وصواريخ ومفخخات لا سمح الله.

إن من يصنع الفتنة ويرش الملح على الجرح ومن يحول الحوار الهادئ إلى صراخ ومن يجعل من الحبة قبة ومن يريد الإطاحة بالوطن إنما هو الإعلام!

ولأن العراق أخفق منذ البداية بل وأخفق كونه خضع لرغبات المحتل وممثلي الإحتلال وحكومة الإحتلال في العملية الإعلامية وثمة مبالغ دفعت لتخريب العملية الإعلامية في العراق من أجل تخريب العملية السياسية وهي موثقة لدى الكونغرس ألأمريكي ، فإن النتائج الكارثية هي التي نعيشها اليوم والفيضان المائي والسياسي والفيضان الفتنوي والفئوي والطائفي سببها الإعلام وما قد يصيب الوطن من تشظ لا سمح الله سببه الإعلام. فأنك أخطأت يوم أعلنت بأن الإعلاميين أحرار فيما يكتبون وأن لا قيود على الإعلام، هذا موقف فيه الكثير من الخلل. يكون هذا الموقف صحيحاً عندما يكون الإعلام صحيحاً ومؤسساً وفق قانون يحفظ الوطن ويؤشر إلى الخطوط الحمراء ويمنع التعرض بالموطن والوطن ويمتنع عن الكذب سيما ذلك المتعلق بكرامة الوطن وعرض المواطن وشرفه وقيم الثقافة الدينية. إعلام يقوده الإعلاميون!!!!؟

الإعلام سلاح خطير أيها السيد رئيس الوزراء وخطورته تكمن ليس في تجسيد الأكاذيب وغمط الحقائق فحسب بل في تأثيره السيكولوجي والفيزيائي والأكثر خطورة في بعده الأمني! وهذه نقطة حساسة. وليكن في علمك أيها السيد رئيس الوزراء بأن الشخص الأطرش الذي يضع سماعة الأذن فوق أطار نظارته يستطيع التقاط محادثات أجهزة الأمن والإستخبارات ومكالمات شرطة النجدة لوجود جهاز أستقبال بحجم الحبة في سماعة الإذن، فكيف بالصحون الفضائية العملاقة!

لهذا السبب تعمد الدول المتحضرة والقوية منها إلى إبعاد القنوات الفضائية عن مركز المدينة وتأسيس مدن الأعلام. هذا في جانب، وفي جانب آخر فإن الإعلام هو سلاح وسلاح خطير جدا ولذلك يمنع منعا باتا أن يقع في أيدي قوى جاهلة أو إرهابية أو مرتبطة أو مريضة، ووفق هذا المنطق تعمل أكثر البلدان أمنا وحضارة على تأسيس قوانين الأعلام. ومن هذه القوانين منع الفرد الواحد من رخصة قناة فضائية، بل أن تتأسس القنوات من قبل مؤسسات إعلام لها مجالس إدارة يحمل أعضاؤه شهادات أكاديمية حقيقية ويملكون خبرة إعلامية حقيقية وبعد هذا وقبل هذا يحبون الوطن، وتقدم المؤسسة برنامجها ونظامها الوطني إلى الدولة فتحصل على الترخيص الذي يمنحها الحرية التي كنت تتحدث عنها وتحصل على الدعم الوطني أيضا، ويحملها في ذات الوقت المسؤولية، مسؤولية الوطن والمواطن وشرف المواطنة وشرف الإعلام من أجل بناء الوطن، ويمنعها القانون من الحصول على أي دعم خارجي لتنفيذ أجندة ما من هذا البلد أو ذاك!

ما حصل في العراق إن أموالا غير نظيفة، كانت بحاجة إلى غسيل. وليس احسن quot;غسالةquot; لهذا المال من غسالة الإعلام فمن خلالها تنقلب الحقائق، وتتحول الحبة إلى قبة ويرحل الوطن في مشحوف الفيضان فيما الإعلام النظيف والجميل والمبهج للحس والذوق والعاطفة والعقل لن يتكون سوى من أبناء الوطن الذين يحبوه، ووفق شروط وطنية تحترم شرف الكلمة وشرف الصورة وشرف الصوت وشرف الحقيقة.

إن أغلب مشاكل العراق التي تضمنها خطابك تكمن في العملية الإعلامية، لأن الإعلام في العراق غير قائم على أسس أعلامية وثقافية سليمة تسهم في كشف الحقائق الموضوعية أمام عين المواطن، ويمكن تلافي الأمر قبل فوات الأوان. وبدون أن تتخذ الخطوات العملية للإصلاح وفي المقدمة منها العملية الإعلامية وأيضا العملية الثقافية، فأن خطابك سوف لن يكون أكثر من خطبة جميلة في يوم الجمعة في جامع أو حسينية، وليس في مؤتمر للمصالحة والسيادة الوطنية.. سامحني أرجوك.

سينمائي وكاتب عراقي مقيم في هولندا

[email protected]