تزداد التجربة السياسية العراقية تعقيداً على خلفية الصراعات العرقطائفية التي رسخها النظام التوافقي (المكوناتي) الذي تم اعتماده منذ التغيير في التاسع من نيسان 2003م. لقد أصبح (المكوّن العرقطائفي) وحدة سياسية تامة في التجربة العراقية الجديدة، واعتمد التوافق كقاعدة حقوقية سياسية لإرضاء جميع المكونات المجتمعية، وتم ترجمة ذلك عن طريق (الشراكة) في الحكم و(التوازن) في مؤسسات الدولة. ورغم الفشل الواضح في إدارة دفة الحياة السياسية التوافقية، إلاّ أنَّ الإستمرار بمذهب التوافق هو السائد من قبل معظم القوى السياسية العراقية التي مازالت مصرة على إدارة الدولة وفق نظام التوافق العرقي الطائفي السياسي.

صيغة جديدة
الحكم التوافقي هي صيغة جديدة كلياً في حياة الدولة العراقية، وتجربة لم تعرف الحياة السياسية لها نموذجاً منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة 1921م، فالدولة العراقية التاريخية دولة مركزية بسيطة انتهت الى مركزية استبدادية مطلقة (مسمى دولة) إبان عهد النظام الصدامي، فليس هناك من تراث سياسي لتجربة وفكر وثقافة (توافقية) تساعد القوى السياسية في إدارة الحكم، وليس هناك من بنى تحتية سياسية أو اقتصادية أو مجتمعية أو حتى ثقافية تساعد في هظم هذا التحول النوعي في بناء وإدارة الدولة،.. على العكس، فكافة بنى المجتمع والدولة المستلمة لحظة سقوط الدولة العراقية 2003 كانت لا تساعد في تبني نمط الحكم التوافقي، فالمجتمع السياسي العراقي 2003 كان أقل حتى من المجتمع السياسي التقليدي، لقد حوّل الإستبداد المواطنين أفرادا، والأمة الى جماعات عرقية طائفية إثنية متحيزة الى أفكار الإنغلاق والإستئثار والتصادم،.. لحظة 2003 كانت لحظة كاشفة لفشل مشروع الأمة/الدولة، والدولة/الأمة، فورثنا مجتمع العصبيات والعصبويات، وورثنا دولة ابتلعتها السلطة وسلطة ابتلعها الفرد الدكتاتور، وسط انعدام كامل للحياة السياسية التي تعتبر الحاضن المنتج للسياسة والحكم. نعم، ورثنا مجتمع قبل تشكيل الدولة ناهيك عن كون المجتمع مجتمعاً سياسياً حداثوياً متماه مع مفاهيم ومبادىء تطور أنظمة السياسة في الحكم والدولة. في واقع كهذا تم اعتماد نظام الحكم التوافقي.

ما هو الحكم التوافقي
إنه صيغة الحكم الذي تتبناه الديمقراطية التوافقية التي تقوم على حكم المكونات المجتمعية، وترجمة صيغة الحكم التوافقي تتم من خلال مبدأ (حكومات الإئتلاف) لحل إشكالية تشكيل وإدارة السلطة في الدول المتنوعة عرقياً وطائفيا، فحكومات الأنظمة التوافقية تقوم على أساس من ائتلافات تشمل كافة القوى السياسية الممثلة للمكونات العرقية الطائفية الداخلة في تركيبة الدولة، على عكس الديمقراطية التعددية التي تتشكل الحكومات لديها على أساس الأغلبية السياسية الفائزة في الإنتخابات الحرة النزيهة، فيما تتجه القوى الخاسرة في الإنتخابات الى خانة المعارضة.

التفويض والإلزام
الدولة هي مركز مكثف للسلطة والثروة، ومهمة الدولة هي إدارة السلطة والثروة على وفق مبادىء العدالة والمساواة لتحقيق المصالح الفردية والعامة. ولا يمكن للدولة من ممارسة وظائفها (القانونية المؤسسية) دونما تخويل مجتمعي ينتجه العقد السياسي بين مواطنيها،.. إنَّ الدستور والقانون والمؤسسات جوهر الدولة الذي يقوم على أساس العقد المجتمعي السياسي، وجوهر الدولة هذا تديره السلطات التي تنتجها الديمقراطية، والديمقراطية نظام إدارة الصراع سلمياً لتحقيق المصالح العامة. هنا، فكرة الدولة تقوم على التفويض والإلزام، تفويض مجتمعي للممارسة السلطة، وإلزام قانوني تفرضه الدولة على اتباعها، والإلزام يستلزم الحسم وحمل اتباع الدولة على الإلتزام الذي يفرضه التفويض والإلزام،.. والديمقراطية في أحد وجوهها هي: توظيف التفويض الشعبي لممارسة السلطة من خلال إلزام راعايا الدولة بفعل الدولة،.. والإلزام يفترض الحسم (على أساس قانوني مؤسسي) لحل الخلافات وتحقيق المصالح،.. لذا فالحسم أداة السلطات في الحفاظ عى الدولة.

سلطة الأكثرية السياسية
سلطة الأكثرية هي التي تنتج القرار وتمارس الحسم في الديمقراطية التعددية، من خلال ثلاثي: حكم الأكثرية المنتخبة بحرية ونزاهة من الشعب، وحماية حق الأقلية في المعارضة، والتناوب على السلطة سلميا من خلال انتخابات دورية. هدف هذا الثلاثي تنظيم أطر السلطة لممارسة الحكم وإدارة الدولة، وتسير الدولة وتتسير من خلال خضوع الكل لمعادلة الحاكم والمحكوم ديمقراطياً. طبعاً الأكثرية هنا والأقلية هي سياسية صرفة، فالدولة في فقه الديمقراطية التعددية هي مجموع مواطنين متكافئين في الحقوق والواجبات على أساس من كون المواطنة رابطة عضوية وحيدة تعترف بها الدولة، ووحدة سياسية تامة في تشكيل الأمة السياسية التي هي أمة الدولة.

يمتاز نظام الأكثرية السياسية: بوحدة السلطة، وحدة قراراتها، توافر عنصر الحسم الذي يعتبر جوهر فكرتي التفويض والإلزام، تناسق عمل مؤسسات الدولة وبالذات التشريعية والتنفيذية، انسيابية الحياة السياسية، وتماسك أمة الدولة.

سلطة التوافق
في الديمقراطية التوافقية يتم اعتماد سلطة التوافق بين المكونات المجتمعية (على أساس أنَّ الدولة مجموع مكونات عرقطائفية إثنية لا مجموع مواطنين أفراد متساويين متكافئين)، وتمارس السلطة في النظام التوافقي من خلال تشكيل حكومات ائتلافية تضم كافة ممثلي المكونات، ولكل مكوّن سلطة الفيتو ضد المكون الآخر لضمان تحقيق التوازن، لذا ليس في عرف الأنظمة التوافقية معارضة برلمانية، فالجميع يشترك في الحكم، والجميع يمارس السلطة، أقصد بالجميع هنا ممثلي المكونات الذين تفرزهم انتخابات عامة ينتخب كل مكون ممثليه لممارسة السلطة في الهيئات التوافقية الحاكمة.

طبيعة النظام التوافقي
يمتاز نظام الحكم التوافقي بميزات سلبية، فهو نظام معقد غير بسيط وغير انسيابي، وإرضائي يفتقد مبدأ الحسم، فقضايا الدولة تمر من خلال سلسلة اتفاقات وتوافقات طويلة ومعقدة وإرضائية، وغالباً ما يكون الحسم شكلياً لا يمس جوهر مشكلات الدولة، والترحيل لقضايا الدولة سمة من سمات النظام التوافقي،.. إنَّ سمة الترحيل للأزمات ناتجة من كون أن قضايا الدولة المهمة غير قابلة للقسمة وليست محلاً لإرضاء الجميع، فالإرضاء أكذوبة لا تتناسب وفاعلية السلطة التي تقوم على أساس من الإلزام والحسم وفقاً للمصالح العامة. نعم، ليس كل قضايا الدولة قابلة للقسمة والإرضاء، سيما إذا كانت الدولة مقعدة على وفق مصالح المكونات لا مصالح المواطنين.

أيضاً، يمتاز النظام التوافقي بتعطيل السلطة من خلال خلقه لنظام التوازن السلبي في الحكم، فبما أنَّ الكل مسلح بالفيتو، فسوف يخلق الفيتو توازن بين قوى المكونات المجتمعية في صراعهم حول السلطة والثروة موردا النزاع الأبدي بين البشر.

تتضرر وحدة السلطة أيضاً بالنظام التوافقي، فالحكم التوافقي مخزن سلطات رأسية متعددة، مهمة هذه السلطات تحقيق مصالح المجتمعيات التي تعبّر عنها.
غالباً ما تكون مؤسسات الدولة التوافقية متكثرة متعددة لضمان تمثيل كافة قوى المكونات المجتمعية،.. وإذا ما عجزت مؤسسات الدولة عن استيعاب قوى معينة يتم اللجوء لإستحداث مؤسسات وهيئات رسمية أخرى لضم هذه القوى.

تخضع كافة مؤسسات الدولة لنظام المحاصصة العرقي الطائفي في النظام التوافقي، محور المحاصصة توزيع السلطة والثروة على وفق نظام تمثيل المكونات، فالنظام التوافقي هو نظام محاصصي بامتياز.
ينشأ عن نظام المحاصصة نظام الكارتلات الحزبية الممثلة للمكونات المجتمعية، فالمستفيد النهائي من نظام تمثيل المكونات هي القوى الممثلة لها، فتنشأ شبكة معقدة من المصالح الخاصة تحكمها التنازلات والمصالح الحزبية المتبادلة.

الواقع العراقي
على مستوى المعيار، يعتبر النظام الديمقراطي التعددي المدني هو الأفضل، هذا ما أثبتته التجربة السياسية التاريخية،.. ولكن على مستوى الواقع فليس هناك نظام أفضل من نظام، فالنظام الأفضل هو الذي يتناسب مع طبيعة المجتمع ويتلائم مع خصائصه والتحديات التي يواجهها،.. ومع تطور التجربة البنيوية للدولة يمكن لها أن تستقر وفق معيار ديمقراطي مدني راسخ.

أقول هذا كي يفهم بأني لا أطمح لحمل المجتمع على صيغ سياسية جاهزة لا تتناسب ولحظتنا التاريخية، فالمجتمعات لا تتقولب بمجرد استيراد القوالب، فللذاكرة وللتراث وللأزمات والإنهدامات والتحديات فروضها التي يجب أن تلحظ في المشروع السياسي المعتمد،.. ولكن، وللتاريخ، كان من الممكن حمل الواقع العراقي بعد زوال الإستبداد 2003 الى واقع مغاير فيما لو تم اعتماد صيغ سياسية تلحظ واقع العراق إلا أنها تتدرج في بناء الدولة وفق خارطة طريق محددة،.. وهذا ما لم يحدث،.. لقد تم اختيار صيغة الحكم التوافقي كأساس لبناء الدولة، وهي صيغة كرست التشرذم ودمرت أمة الدولة ورسخت الهويات الفرعية وشظت السلطة وحاصصت الدولة،.. وها نحن أمم شيعية سنية كردية تركمانية كلدوآشورية.. تتمحور حول الذات وتتنازع السلطة والثروة وتهدد بالأقاليم والإنفصال!

المطلوب إعادة تقييم للتجربة التوافقية، قد يعني ذلك إعادة إنتاج الدستور وإعادة هيكلة القوانين ومؤسسات الدولة، وقد يعني ذلك تنظيم الحياة السياسية وضبطها بقوانين للأحزاب والإنتخابات،.. وقد يعني ذلك اتفاق نخب الدولة على مرحليات تأسيسية تتدرج فيها ومن خلالها ولادة الدولة العراقية،.. وقد وقد.. كل ذلك رهن إعادة إنتاج الواقع لتلافي المجهول واحتمالياته المفتوحة على جميع الإتجاهات.


[email protected]