من الصعوبة بمكان، انكار حقيقية مفادها ان الدستور العراقي كتب بإرادة شيعية ndash; كردية، ولم تكن للارادة السنية شيئ يذكر على سطور الورق الذي كتبت عليها نصوص الدستور العراقي، وكان الوجود السني بشهادة من حضر على الهامش ومجرد عدد رقمي ان حضر لا يعد وان غاب لايفتقد.

وقد تشكلت لجنة صياغة الدستور العراقي في 10 ايار/ مايس عام 2005 وضمت (55) عضوا، من الشيعة والاكراد، بدون العرب السنة، لكن في (16) من تموز/ يوليو، تم توسع قاعدة المشاركة ليشمل العرب السنة وبالتالي اصبح لديهم (15) ممثلا، مساويا لعدد الاكراد في اللجنة، إلا انهم عمليا لم يكونوا فاعلين واستبعدوا من الصياغات الرئيسة. وقد اشار احد التقارير الصادرة من معهد السلام الامريكي، ان المفاوضات الحقيقية بشأن نصوص الدستور قد ﻧﻘﻠﺖ ﻣﻦ ﺍﻟﻠﺠﻨﺔ ﺇﻟﻰ ﺳﻠﺴــﻠﺔ ﻣﻦ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋــﺎﺕ ﺍﻟﺨﺎﺻﺔ ﻭﻏﻴﺮ ﺍﻟﻤﻨﺘﻈﻤﺔ ﺑﻴﻦ ﺯﻋﻤﺎء ﺍﻷﺣﺰﺍﺏ ﺍﻟﻜﺮﺩﻳﺔ ﻭﺍﻟﺸﻴﻌﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻏﺎﻟﺒﺎ ﻣﺎ ﺍﺳﺘﺒﻌﺪ ﻣﻨﻬﺎ ﺍﻟﻤﻔﺎﻭﺿﻮﻥ ﺍﻟﻌﺮﺏ ﺍﻟﺴﻨﺔ، وبالتالي فاننا وجدنا انفسنا كعراقيين امام نص من الدستور برؤية مكونين ( شيعي ndash; كردي )، وابعاد مكون رئيس عن المشاركة الفاعلة فيه، في مرحلة تعد غاية الاهمية لانها مرحلة التأسيس والتوافق والاتفاق والرضا العام النسبي، الذي لا لبس فيه ولا تدليس هو الذي ينبغي ان تبنى الانظمة السياسية في حالة التشكل، كما ابعدت عن لجنة الصياغة مشاركة قطاعات واسعة من المجتمع العراقي، مثل النساء، ومنظمات المجتمع المدني، والاقليات والاحزاب العلمانية.

المأخذ الاخر على العملية الدستورية العراقية، ان تشكيل لجنة الصياغة تمت وفقا لمنظار (طائفي ndash; عرقي -سياسي)، بعيدا عن المهنية او الحرفية القانونية، ولم يكن لفقهاء القانون الدستوري رأي او حضور فاعل، وقد غيب هذا الجانب ليس بسبب قصور العقلية القانونية العراقية، وانما لغلبة الجانب (الطائفي ndash; العرقي - السياسي) على الجانب الفقهي الدستوري، وهذا ما اتضح جليا في نصوص الدستور العراقي التي جاءت اغلبها انشائية، ركيكة، بعيدة عن الصياغات الدستورية المتعارف عليها عالميا، ذات قابلية شديدة على التأويل، بينما المطلوب كان نصا شاملا جامعا مانعا، فضلا عن التناقضات والمتناقضات التي شابت في اكثر من نص، لنكون في نهاية المطاف امام منتج كسيح لايؤدي الى بناء الدولة المدنية العصرية، والقى بضله الثقيل على الدولة والمجتمع وعلى صيرورة النظام السياسي، واضحى مصدرا للازمات بدلا من ان يكون معالجا لها، بمعنى انه بدلا من ان يكون جزءا من الحل اضحى الدستور العراقي جزءا اساسيا من المشكلة.

هذه الحقائق دفعت quot;جونثون موروquot; وهو احد الكتاب المهتمين بالشأن العراقي الى القول quot;ان ﺍﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﺍﻟﺪﺳــﺘﻮﺭﻳﺔ ﺍﻟﻌﺮﺍﻗﻴﺔ ليست الا ﻔﺮﺻﺔ ﻓﺮﻳﺪﺓ من اجل ﺒﻨﺎء ﺷــﺮﻋﻴﺔ ﻣﺆﺳﺴــﻴﺔ ﺟﺪﻳﺪﺓ عن طريق تفاهم جمعي، الا انه تمت الاطاحة بها واضاعتهاquot;.

والمفارقة الغريبة هنا ان الطرف الامريكي كان المساهم الاكبر في هذا الوضع لغاية في نفس يعقوب سوف اوضحها لاحقا لأبين علاقتها بالحالة المصرية، فتبعا لقانون المجلس الانتقالي المعروف عراقيا (قانون بريمر) ان المدة المقررة لكتابة الدستور هي (6) اشهر، واجازت المادة (61) تمديدها لستة اشهر اضافية، وكانت الرغبة السائدة انذاك لدى لجنة صياغة الدستور بالاجماع تقريبا على اخذ التمديد، إلا ان اصرار الجانب الامريكي بشدة على عدم التمديد والضغط الهائل اجبر هذه اللجنة على الاكتفاء بالستة اشهر الاولى، وعرض الدستور على الشعب العراقي من اجل الاستفتاء عليه في وسط بيئة اجتماعية منقسمة ( قبول كردي شيعي) ورفض ( عربي سني )، وساد الاستفتاء حالة من الشك والريبة بحدوث تزوير كبير، لاسيما بعد ظهور نتيجة محافظة الموصل ذات الاغلبية العربية السنية.

لقد فرض على العراقيين دستور لا يمثل ارادتهم الحقة، وهم اجبروا على التعامل معه الان ومستقبلا، ومع القيود والمحددات الكبيرة على اجراء اية تعديلات فان هذا الدستور سيبقى هو النافذ على مدار سنوات لاحقة، وهذا يعني من بين ما يعنيه ان الدولة والمجتمع والنظام السياسي سيبقى رهينا لنصوص دستورية غير قادر على البناء وهو دستور ازمة لا دستور حل، والله وحده يعلم كيف يمكن ان نتوقع الافضل من دستور عاجز لكنه حي، معطل لكنه نافذ، قبيح لكنه يسير اجمل بلاد.

وما اشبه الحالة المصرية اليوم بعراق الامس، مع بعض الاختلاف في بعض العناصر لكن الحالة متشابهه الى حد ما، فبعد سقوط نظام مبارك وتولي المجلس العسكري زمام الامور، كان هناك اتجاهان رئيسيان الاول: كتابة الدستور ثم اجراء الانتخابات، والثاني اجراء الانتخابات ثم كتابة الدستور، وكان الرأي الاول مطلبا من قبل القوى الوطنية والليبرالية، اما الراي الثاني فكان مفضلا لدى التيار الاسلامي. وقد ذهب سامي عنان الى الولايات المتحدة من اجل المشاروة مع الامريكان، quot;ويذكر محمد حسنين هيكل في لقاءه الاخير مع لميس الحديدي على قناة (سي بي سي) ان عنان وجد اصرار امريكيا على اجراء الانتخابات تماهيا مع مطالب التيار الاسلاميquot;، وهذا يذكرنا بما ذكره اياد علاوي حينا ذكر في احدى مقابلاته انه قالquot; للا دارة الامركية انذاك ان الاستعجال بالانتخابات سوف يؤدي الى صعود التيار الاسلامي ( الشيعي تحديدا) فكان الجواب وماذا في الامر فليكنquot;.

الامر الاخر المشابه للحالة العراقية، ان لجنة صياغة الدستور العراقي قالت انها لن تتجه الى تقديم مشروع الدستور الى ان يتم التوافق عليه،إ لا انه لم يحصل وتم الدفع به الى الاستفتاء ودون توافق مجتمعي، وهو ما رايناه ايضا في الحالة المصرية إذ اعلن الرئيس المصري مرسي انه لن يتم تقديم الدستور دون توافق، الا ان هذا الالتزام تم التخلي عنه ودفع به ايضا للاستفتاء وسط انقسام واستقطاب داخل المجتمع المصري لم نشهد له مثيلا.

اما الجانب الاكثر تشابها فهو في ابعاد فئات عدة من صياغة الدستور المصري، فلجنة الصياغة المصرية هيمن عليها التيار الاسلامي بصنفيه ( الاخوان والسلفيين)، في حين انه لم يكن لتيار القوى الوطنية والمدنية والاقباط وجود فاعل وهم يشكلون ما يقارب نصف المجتمع المصري او اكثر، وتم التعامل معهم وفقا لمفهوم الغلبة، وهو الاسلوب نفسه الذي اتبعته القوى (الشيعية ndash; الكردية ) مع العرب السنة. وبالتالي فان تمرير الدستور لايعني بالضرورة صنع الاستقرار في مصر.

الا انه لايمكن القاء الامر بجله على التيار الاسلامي، فالمعارضة اضاعت فرصة حقيقية للحوار، حينما رفضت دعوة الرئيس المصري محمد مرسي للحوار معها، لانها لو جاءت مجتمعة لكانت حصدت الكثير، لعدة اسباب من بينها انها وصلت الى اقوى نقطة قوة تفاوضية كان من الممكن توظيفها خلال مفاوضتها للرئيس مرسي، في المقابل كان الرئيس مرسي في موقف تفاوضي اقل وهو ما كان يمكن المعارضة من الحصول على تنازلات اكبر واعمق مما خرج عليه نظرا للحضور الضعيف (قوى ثانوية شاركت في الحوار)، ثم ان الرئيس المصري محمد مرسي ظهر للعالم والمجتمع الدولي بموقف لايحسد عليه وقريب من النمط الديكتاتوري من خلال الاعلان الدستوري، ومن هنا كانت دعوته جادة وليست فرصة لاضاعة الوقت كما اعلنته قوى المعارضة الرئيسة، فضلا عن ذلك ان سلوك محمد مرسي يميل الى التفاهم وامكانية التراجع، وبالتالي فان المفاوضات معه تبدو منطقية ومثمرة مع هكذا شخصية. وفوق كل هذا وذاك فانه كان على الطرفين تغليب المصلحة الوطنية المصرية على المصلحة الفئوية والحزبية الضيقة، لان مصر والسلم الاهلي فيها ينبغي ان يكون اهم من الرئيس مرسي نفسه ومن جميع التيارات السياسية المناصرة والمناوئة بكل تلاوناتها.

صفوة القول، انه كان على المصريين استيعاب التجربة العراقية، بوصفها إنموذجا لما يمكن ان تكون عليه مصر من فوضى دستورية وسياسية واقتصادية، إن غاب التوافق في مرحلة التاسيس، وان الحضور الجمعي في كتابة الدستور وغيره من مراحل التاسيس ينبغي ان يكون هو الفاعل دائما، بل ومطلبا وقناعة تامة، وبعدها ليكن ما يكن، وفقا للقواعد الديمقراطية، ومبروك لاخوان ان ابتلعوا مصر، وهنئيا للقوى الوطنية ان هيمنت على بلاد النيل، المهم اولا التوافق على الاسس الديمقراطية والبناء الصحيح، ومن ثم لـيس من حق اي احد ان يعترض فيما بعد على ما تنتجه العملية الديمقراطية.

[email protected]