تشكلت الدولة العراقية أوائل عشرينات القرن الماضي بدمج ثلاث ولايات عثمانية بعد إنهيار الإمبراطورية في المنطقة،وهي ولايات البصرة وبغداد والموصل.وهذه الولايات رغم وجود بعض الإشكاليات في واقعها السكاني،من حيث تنوع الإنتماء المذهبي والقومي،حيث كان هناك بعض الإختلاطات المذهبية السنية والشيعية في بعض الولايات،منها بغداد على سبيل المثال، وإختلاطات قومية بولاية الموصل، ولكن المتفق عليه هو أن أيا من سكان هذه الولايات العثمانية لم يؤخذ رأيها في مسألة الإندماج بدولة واحدة وتأسيس دولة جديدة بإسم العراق، مع ذلك بقي العراق موحدا طيلة أكثر من ثمانين عاما، ولم تكن هناك أية دعوات بالإنفصال أو تقسيم العراق في أي مرحلة من مراحل التاريخ السياسي العراقي،بما فيها الفترة التي أعقبت سقوط الدكتاتورية الصدامية وظهور ملامح الديمقراطية وسن دستور جديد تأسس على أساس الإعتراف بحقوق جميع القوميات والإثنيات وحقها بتقرير المصير.

لقد ذهب الأكراد والشيعة والسنة بمجملهم الى العاصمة بغداد بعد سقوط صنمها، ليعيدوا بناء العراق الإتحادي الديمقراطي التعددي بإرادتهم الحرة وبملء إختيارهم، بما فيهم تحديدا القادة الأكراد الذين كانوا واقعين حتى قبل سقوط دكتاتور بغداد تحت ضغط الشارع الكردي لإعلان الإستقلال والإنفصال عن العراق،ولكن تلك القيادة تمسكت بعراقيتها ووطنها، وسعت الى المشاركة مع إخوانها الآخرين في إعادة بناء البلد على أساس نظام فدرالي ديمقراطي جديد يؤمن حقوق جميع المكونات وفي مقدمتها أركانها الأساسية من السنة والشيعة والكرد.

لا يختلف إثنان بأن شيعة العراق منحت لهم فرصة تاريخية كبيرة عقب سقوط الدكتاتور ليديروا السلطة في العراق لأول مرة في تاريخهم، فقد كان الشيعة ومنذ ظهورهم في المنطقة قبل عدة قرون لم يتسن لهم سوى أن يكونوا في المعارضة، ويناضلوا بلا هوادة في شتى العصور الأموية والعباسية وما تلاهما لحين سقوط صدام حسين من أجل تسلم الحكم في بلدهم،ولقد قدموا تضحيات غالية جدا،وخصوصا في عهد النظام الدكتاتوري الذي سامهم سوء العذاب والتشرد، مما كان يفرض عليهم أن يقدروا تضحيات الآخرين،وأن يشركوهم في إدارة السلطة لا أن يحرموهم منها، ويدفعونهم دفعا ليكونوا معارضين لسلطة بنيت على تضحيات كبيرة من أبناء الشيعة.

على كل حال مع تبوأ السيد نوري المالكي للسلطة في العراق بدأ تفكير الشيعة وسياساتهم في إدارة الحكم تتغير رويدا رويدا،والفضل في كل ذلك يعود الى شخصية السيد المالكي النازعة نحو التفرد وحب العظمة وتأسيس نظام دكتاتوري هو يعرف قبل غيره ماذا سيكون مصيره.
سأحاول في هذا المقال أن أتطرق الى محاولات المالكي في تثبيت زعامته المتفردة على العراق أثناء ولايتيه.
ففي الولاية الأولى كرس جل جهوده لمحاربة التيار الصدري الناهض في تلك الفترة والذي قاد جبهة المعارضة للتواجد الأمريكي في العراق،فوجه إليهم ضربات عسكرية كبيرة بهدف القضاء عليهم،وطرد زعيمهم الشاب الى إيران، وسعى بكل ما أوتي من قوة تحجيم دورهم في الشارع الشيعي، لكن الحركة الصدرية التي كانت نابعة من وسط الشباب الشيعي المحروم من أبسط حقوقه الإنسانية، إستطاعت أن تصمد بوجه جميع تلك المحاولات، رغم أن المالكي ضمهم لاحقا الى كتلة التحالف الوطني لإبقائهم تحت سيطرته.

وفي تلك الولاية الأولى جاهر بمعاداة أنصار وفلول حزب البعث المنحل، ودافع بشراسة عن قانون إجتثاثهم وطردهم من مؤسسات الدولة وحرمانهم حتى من حقوقهم التقاعدية،ولكنه عاد لاحقا عندما إحتاج إليهم ليبوأهم مراكز سياسية وعسكرية بارزة في دولته، يهدد بهم الآخرين من خصومه ومعارضي نهجه التفردي.

وفي الولاية الثانية صعد موقفه العدائي من السنة وبدأها بالقائمة العراقية ورئيسها أياد علاوي، فبذل كل غال ورخيص من أجل تهميشه وتمزيق قائمته التي تتشكل من غالبية سنية، وحرمه من رئاسة مجلس السياسات التي تم الإتفاق عليه في أربيل. ثم وجه رصاصه غدر نحو نائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي ليقتله سياسيا أولا بتوجيه إتهامات باطلة ضده، ثم قتله جنائيا بإصدار حكمين بالإعدام بحقه.وبذلك عاد المالكي السنة وهمش دور أبرز قادتهم في العراق وهما علاوي والهاشمي، ونجح الى حد ما بشراء ذمم بعض أشباه القيادات السنية بدولارات الدولة ليركبوا سفينته التي تمخر اليوم عباب بحر متلاطم ستودي به في النتيجة الى الهاوية السحيقة.

وهذه المرة جاهر بعدائه للكرد وللقيادة الكردية، فبعد أن ماطل كثيرا بتنفيذ المادة 140 وهي المطلب الأساسي للقيادة الكردية،وحرم الإقليم من إستثمار موارده الطبيعية، إستقدم أخيرا الجيش لمقاتلتهم وإحتلال مقر رئاستهم.ووضع الجيش لأول مرة بمواجهة البيشمركة ليعيد تلك الصفحة المؤلمة من الحرب العنصرية بين الأكراد والعرب، حتى أنه لم يتحرج من الجهر بذلك في تصريحات صحفية منقولة على شاشات العالم محذرا من وقوع حرب عربية كردية جديدة في العراق.
إن السيد المالكي أصبحت علاقاته اليوم مع معظم قادة العراق في غاية السوء، وبعضها وصلت الى حد القطيعة النهائية.
فهو يعاند رئيس الجمهورية جلال طالباني الذي يبذل جهودا مخصلة لإحتواء الأزمة السياسية ومنع تفجرها في البلاد.
ويعادي أياد علاوي وهو الذي تنازل له عن منصب رئيس الوزراء، بعد أن تفوق عليه بعدد المقاعد التي تؤهله لنيل ذلك المنصب.
ويعادي الزعيم الكردي مسعود بارزاني الذي كان وراء إختياره رئيسا للوزراء أثناء إجتماعات أربيل عام 2010، ويهدد بإحتلال مقره وطرده من العراق.
وعلاقاته سيئة حتى مع التيار الصدري وزعيمه مقتدى الصدر، وأعتقد بأنه ما أن يفرغ من تصفية حساباته مع الكرد، سيتوجه إليهم لاحقا، لأنه لا يقبل أحدا يعارضه في شيء.
فيما يتعلق بالمؤسسات الدستورية، فإن المالكي لايقيم أي وزن مطلقا للبرلمان العراقي، ويصدر العديد من القرارات الخطيرة خارج إطار التشاور أو اللجوء الى البرلمان كما تقتضي الأسس الدستورية،وخاصة ما يتعلق بتعيين قيادات الجيش وتشكيل ميليشيات خاصة بنفسه تحت إسم الجيش المليوني.ويتدخل في الشؤون المصرفية محاولا بسط سلطته على أموال البلد، ويتدخل في القضاء العراقي فيصدر قرارات بإعدام جميع الذين يعارضونه أو يخاصمونه، وبذلك يكون المالكي قد داس على الدستور والبرلمان والقضاء والجيش، فماذا بقيت من مؤسسات الدولة الديمقراطية يمكن الإعتماد عليها لحماية العراق وضمان مستقبله؟.
في العراق الجديد هناك مجموعة لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة من الزعماء التاريخيين وقيادات ممن يمكننا إعتبارهم بناة الدولة الجديدة،وهم جلال طالباني ومسعود بارزاني وأياد علاوي، وزعامات وقيادات أخرى ظهرت في الفترة الأخيرة بدعم من الشعبـ،، وكل هؤلاء يعاديهم المالكي اليوم.فماذا يبقى في العراق غير المالكي، أليس هذا منتهى الدكتاتورية التي طالما حذرنا من عودتها نحن الكتاب والمثقفون الغيارى على هذا الوطن؟.

السؤال موجه الى التحالف الوطني الشيعي، كيف تقبلون بشخص مثل المالكي أن يسيء الى تاريخكم النضالي وعلاقاتكم الأخوية والتاريخية الطويلة مع أكراد العراق وسنة العراق، وحتى الأطراف الشيعية الممثلة داخل تحالفكم؟.

ولماذا تسمحون له بأن يقضي على أمل إنتشع لطائفتكم بعد سقوط النظام الدكتاتوري السابق لتديروا الحكم بسلام ووفاق وشراكة مع إخوانكم الآخرين؟.
وكيف تسول لكم أنفسكم السماح لشخص واحد كالمالكي أن يسير بالبلاد نحو دكتاتورية فردية متسلطة على الآخرين،وأنتم أحزاب الشيعة من إنتفضتم وثرتم على الدكتاتورية، وقدمتم قوافل من الشهداء على طريق الخلاص من نظام صدام، فهل تقبلون بأن يخرج من بينكم صدام آخر أو دكتاتورا أرعن منه؟.
أجيبوا رجاء قبل أن تجرفكم إنتفاضة شعبية أخرى لمظلومين وضحايا حليفكم نوري المالكي.

[email protected]