تذخر مدينة نيويورك بالمعارض والمتاحف التي تشتمل على معظم الفنانين التشكيلين في العالم.. وأثناء التجوال في متحف بول غوغان وُلدت هذه المقالة.
ـ لا تظن يا بول أنك من أصلٍ فرنسي.. كل ما فيك من الدم الفرنسي هي بضع قطراتٍ من دم أمك وأبيك.. أما الدماء الحقيقية فهي من (بيرو).. من دمٍ ملكي.. دم (الأنكا)!!..
ـ لكن الأنكا قد انقرضوا منذ زمنٍ بعيد يا جدتي!!.
ـ دماؤها لا تزال تجري في عروق أحفاد الأحفاد المبعثرين في كل مكان على طول الأرض وعرضها.. وربما فوق القمر أيضاً!!.. أنت واحدٌ من هؤلاء الأحفاد يا بول.. انظر إلى اسمك (غوغان).. أهذا اسمٌ فرنسي؟!!.
ـ لكن أسرتي تحمله منذ زمنٍ بعيد!!.
ـ ومن أين جاؤوا بهذا الاسم الغريب.. إنه تحريفٌ بسيط جداً لكلمة (جوجن) أي الجواد الأصيل بلغة الأنكا.. وكان لا يسمى جوجن إلا الفتى المرشّح للعرش..
ـ إذاً.. فأنا من قبائل الأنكا العريقة في الحضارة ذات الفن والعلم القديم.. والحرية.. والانطلاق.. والتوحش.. بل والحياة البوهيمية التي أعشقها.. وما أروع ذلك!!..
***
bull;كلام جدته العجوز عن أصل الدماء التي تجري في عروقه، هو التفسير الوحيد للحياة الحرة البوهيمية التي كان يعيشها الشاب ابن العشرين بول غوغان.. والذي كان يعمل موظفاً في جمارك باريس..
ومنذ حديث العجوز معه وليس في رأسه سوى فكرة السفر إلى أمريكا اللاتينية.. ليبحث عن آثار الأنكا..
وبالفعل فقد أمضى إجازته في بيرو.. ولم يقابل أحداً من أجداده المزعومين!!.. وعاد على ظهر السفينة لوزيتانو حزيناً واجماً!!.. لم يجد الحياة الحرة المتوحشة البوهيمية التي كان يتوقعها!!.. وجد حضارة القرن التاسع عشر منقولةً من أوروبا وأمريكا الشمالية وإسبانيا!!..
bull;وبينما كان يعاني من آثار فشل تلك الرحلة.. وجد في السفينة من يخفف عنه حالة الإحباط التي انتابته..
كان شاباً في مثل عمره، ولكنه أكثر مرحاً وجنوناً وحباً للحياة!!.. قال له:
ـ إنك لا تدري يا غوغان ما يفوتك إذا لم تزر جزر الجنوب!!.. فالحياة هناك حرة!!.. لا قيود!!.. لا حدود!!.. كل لذات الحياة في متناول يديك.. ما عليك إلا أن تمد يدك لتنال ما تريد دون رقيب أو حسيب أو قانون..
ـ والفتيات؟!!
ـ بالآلاف.. ومن كل الألوان والأعمار..
ـ أخشى أن يكون كلامك مشابهاً لكلام جدتي فأُحبط ثانيةً..
ـ لن يحدث.. لن يحدث.. وإذا أردت أن تصطحبني فسترى بعينيك كيف هي الحياة في جزر الجنوب!!..
***
bull;وما أن عاد بول غوغان من رحلته تلك حتى قدّم استقالته من العمل في الجمارك.. مما أرعب زوجته!!..
ـ لماذا يا بول؟!.. نحن لسنا وحدنا.. لا تنسى الأطفال يا عزيزي.. أتريدنا أن نموت جوعاً؟!!
ـ سأبحث عن عملٍ يتناسب مع مواهبي.. لقد قررت أن أشتغل بالفن!!..
ـ أي فن؟!..
ـ اللوحات..
ـ الرسم؟!.. يا إلهي.. إنك لا تعرف ألف باء التصوير.. بل إنك تكره اللوحات.. انظر إلى حيطان البيت.. ليس عليها لوحة واحدة..
ـ يا زوجتي.. لن أشتغل برسم اللوحات.. بل ببيعها!!
bull;ولكي يشتري اللوحات حتى يقوم ببيعها، فلا بد له من الذهاب إلى المعارض.. وكانت أغلب المعارض تقام في مقاهي المونبارناس، والبيجال، والحي اللاتيني.. وكان عليه أن يجالس الفنانين.. النخبة العظيمة من فناني النصف الثاني من القرن التاسع عشر.. ومعظمهم من رواد المدرسة الحديثة في الفن مثل (ديجا) و(مانيه) و(مونيه) و(رينوار) وغيرهم..
كانوا يتحلقون في المقهى حول إميل زولا الكاتب الذي أخذ على عاتقه مبدأ الدفاع عن رواد المدرسة الحديثة.. وصار مجلس هؤلاء هو المكان المفضل عند بول غوغان.. الذي كان معجباً أشد الإعجاب بإميل زولا، فهو ينصت لكلماته بإمعان عندما كان يقول:
quot; إنهم يزعمون أن كتبي لا حياء فيها!!؟.. كما يزعمون أن لوحاتكم هذيان مجانين!!؟.. حسناً.. قولوا لهم جميعاً أن إميل زولا يقول لكم: بل أنتم الذين لا حياء، ولا عقل لكم!!.
(يجيبه رينوار ضاحكاً).. ماذا نفعل إذا عاقبونا ورفضوا شراء لوحاتنا يا مسيو زولا؟!..
ـ عندها.. من الأفضل يا رينوار أن تموت جوعاً عن أن تبيع لوحاتك إلى من لا يفهمها!!.. أجل يا أحبائي.. إن فننا المعاصر يمثل الحياة.. الحياة في كل مناحيها.. وعلى كل ألوانها!!.. فننا يمثل الخير والشر.. والفضيلة والرذيلة..
ـ (يعلّق فان جوخ).. والقبيح يا مسيو زولا.. يقولون أن رسومي قبيحة شوهاء؟!!..
ـ القبح في نفوسهم يا فان جوخ.. والابتذال دائماً في عين من يراه وليس في غيره.. حسناً.. إذا كانوا يزعمون أننا نرسم القبح فلنسمّي مدرستنا مدرسة القبح!!..
ـ (يضحكون).. تعالوا نضع دستور مدرستنا.. اكتب يا غوغان ولو أنك مجرد مراقب..
ـ يا سيدي.. لقد بدأت في تجربة قدراتي على الرسم.
ـ زولا (ضاحكاً).. حقاً؟!.. هذا نبأ غير طيب!!..
ـ ولماذا يا مسيو زولا تراه غير طيب؟!!.
ـ سيقول الناس أن الفن غدا لعبة كل الناس.. حتى تجار الصور الصغار صاروا يرسمون..
ـ سيدي أرجو ألا تحكم علي قبل أن ترى ما سوف أرسم!!..
ـ حسناً.. حسناً.. ننتظر أن نرى رسوماتك!!.. والآن اكتب دستور مدرستنا الحديثة في الفن وحاول أن تتبع نصوصه.. من يدري.. اكتب!!.. اكتب!!..
quot; إننا نعتقد أولاً أن الفن يحاكي الطبيعة مهما بدت بشعة.. ونحن نتعامل مع الطبيعة ونتفاعل معها كما هي.. ونرى أن في حقيقة الطبيعة الصريحة جمالاً يفوق الكذب المنمّق.. ونؤمن بأن الألم الفني جميل لأنه يخاطب أعماق الأحاسيس البشرية.. ولمّا كانت رسالة الفن والفنان هي محاكات الطبيعة فلنكن إذاً نحن من يعكس تلك الحقيقة بجمالها وبقبحها وبكل ما تحتويه وتنطوي عليه إفرازات الأحاسيس الإنسانية.
***
bull;بول غوغان أحب هذا المنتدى الفني، وأصبح يجد نفسه بين جلسائه وتمنى لو أنه يستطيع أن يكون واحداً منهم.. ولكنه يعلم أن ذلك لن يحدث إلا إذا أتقن أصول الرسم..
ومكث في بيته لأكثر من ثلاثة أشهر.. أنهى فيها لوحته الأولى.. وذهب بها إلى مقهى مونبارناس.. فاستقبله زولا قائلاً:
ـ إنك بدائي يا بول غوغان!!..
ـ (في انكسار).. للأسف.. حسبت أن عندي الموهبة..
ـ (مقاطعاً بحماس).. إن لديك موهبة فريدة يا غوغان.. البدائي هو إحساسك.. وهذا شيء جديد!!.. أنت أفضل من يمثل المدرسة الوحشية البدائية الإنسانية!!.. اسمح لي يا عزيزي غوغان أن أضع اسمك في قائمة الشرف لمدرستنا.. مدرسة البدائية والوحشية والقبح والحقيقة!!..
***
bull;في ذلك اليوم ولد فنان.. فنانٌ عرفته باريس كواحد من أفراد المدرسة الانطباعية الجديدة.. تهافت الناس على شراء لوحاته.. وصار اسمه يتردد في محافل الفنون التشكيلية في باريس وغيرها.. وفجأةً وهو في ذروة النجاح.. هجر كل شيء!!.. وسافر إلى جزر الجنوب!!.. ترك زوجته صوفي!!.. وترك ابنته إيلين، وولده إميل!!..
ولما حاول البعض أن يثنيه عن عزمه كي لا ينفذ مخططه بالرحيل إلى جزر الجنوب.. قال:
ـ كفى.. كفى.. في أول الأمر بعت حريتي للحكومة.. حين عملت موظفاً في الجمارك!!.. ثم بعت حريتي مرةً ثانية حين تزوجت وأنجبت!!.. وها هو جمهور باريس يريد أن أبيعه حريتي مرةً أخيرة ونهائية.. باسم الشهرة والمجد!!.. كلا.. مستحيل!!..
***
bull;في جزر هايتي.. عاش غوغان حياةً حرةً من كل القيود.. واختار بعد جولاتٍ عديدة قرية (ماتاآيا) ليستقر فيها.. وحتى لا يفكر في العودة إلى حياته السابقة.. خلع كل عاداته.. بل حتى ثيابه الأوروبية.. وعاش بين أهالي تلك الجزيرة كواحدٍ منهم في كل مناحي حياتهم.. وكتب في يومياته..
quot; المدنية تفارق كياني يوماً بعد يوم.. بدأت أفكر في الأمور ببساطةٍ ودون تعقيد.. لاخوف!!.. لا حقد!!.. لا حسد!!.. الحب للحياة الحرة.. إني أنسلخ من الحياة المصنوعة لأدخل في الطبيعة.. الطبيعة الإنسانية!!..quot;
bull;لكأن دماء أجداده من الأنكا قد عادت تملأ كل شرايينه.. ولا تدع مكاناً لقطرةٍ واحدة تحن إلى باريس.. شانزليزيه.. البيكال.. ومقاهي الحي اللاتيني.. بل حتى اللوحات التي رسمها.. رفض أن يعطيها أسماء أوروبية.. وكلها تحمل أسماءها المشهورة بها الآن من لغة أهل تاهيتي.. لوحة (مانو).. أي الزمن الماضي، (تابابو).. أي الأرواح الميتة، (تاماتيتي).. أي السوق، (أريريا).. أي العاريات السعيدات.. وعشراتٍ من اللوحات التي خلّدت غوغان، كما خلّدت جزر تاهيتي الساحرة.
***
bull;في غمرة سعادته وهو في عالمه الجديد بدأت المصائب تأتيه من كل حدبٍ وصوب!!.. ففي رسالةٍ وصلته من زوجته تقول له فيها:
ـ بول.. لقد ماتت ابنتنا إيلين بعد مرضٍ لم يمهلها.. وإميل فرّ إلى الجزائر.. إني أعيش وحيدة.. أرجوك لا تدعني للفاقة والمرض!!..
ـ (في غضبٍ) يصيح.. لا..لا.. لن أعود إلى سجن المدنية مرةً أخرى.. لن أبيع حريتي بعد أن حصلت عليها!!..
bull;أيمكن أن تكون الحرية السعيدة قد أفقدت بول غوغان إنسانيته وأحالته إلى إنسانٍ مجرد من كل الأحاسيس؟!.. أم أنه يسير على نهج إميل زولا ويتذكر كلماته..(يحصل الإنسان على إنسانيته الحقة عن طريق الآلام).. هل الألم هو الثمن الحقيقي لإنسانيتنا؟!.. أكانت حياة غوغان هي التطبيق العملي لهذه الفكرة؟!..
كيفما كان الأمر.. فقد رفض غوغان أن يعود إلى المدنية ثانيةً!!..
bull;فجاءته الضربة الثانية.. حين أصيب بمرضٍ خبيث وقرر ساحر الجزيرة أن لا شفاء له.. وأوشك على الانتحار.. لكن رسالةً جاءته من إميل زولا يذكر له فيها أن صديقه فان كوخ قد أصيب بالجنون!!..
وكتب بعد أن قرأ رسالة زولا:
ـ لا مفرّ من أن أصاب أنا الآخر بالجنون.. لا.. لا.. لن يكون هذا مصيري.. سأقتل نفسي قبل أن أغدو إنساناً محطماً مجنوناً!!..
bull;وابتلع وهو فوق قمة جبلٍ يطل على الخليج في الجزيرة التي يعيش فيها.. ابتلع قدراً من الزرنيخ.. ورقد مكانه ينتظر النهاية!!.. لكن الساحر ينقذه في الوقت المناسب..
وبعد أن استرد بعضاً من صحته كتب يقول:
quot; لقد رأيت العلامة التي رسمها الساحر بأصابعه في الهواء وهو يغادر كوخي!!.. لقد ظن أنني لا أفهم معناها.. ولهذا لم يهتم بأن يخفيها عني!!.. رسم الساحر في الهواء ثلاثة دوائر متقاطعة.. وهذا معناه أنني سأموت بعد ثلاثة مواعيد.. قد تكون ثلاثة أيام.. أو ثلاثة أسابيع.. أو ثلاثة شهور.. أو ثلاثة أعوام.. أيها؟!.. لا أدري!!.. أُرجّح أنني سأموت بعد ثلاثة شهور!!..quot;
***
bull;وكما توقع بول غوغان.. فقد زاره الموت فجأةً بعد ثلاثة شهور من يوم أن رسم الساحر له العلامة..
مات بول غوغان.. بعد أن خلّف للبشرية ثروةً فنيةً ستظل خالدةً على مر الدهور.
التعليقات