من غير المألوف ان يظهر رجل دين على رأسه عمامة، من خلال شاشات التلفزيون، ليعلن في مؤتمر هام، وعلى رؤوس الاشهاد، ويتكلم بنبرة الانسان الواثق مما يقول:
laquo;نريد في العراق حكما علمانيا، يفصل بين الدين والدولة!!raquo; حكما علمانيا؟!!.. ويطالب به احد رجالات الدين؟!
ظل صدى ما شهدته وسمعته مدويا في اعماقي، ومستحوذا على كل حواسي، الى ان وجدت نفسي تلقائيا اجمع كل ما تيسر لي جمعه من معلومات عن العلمانية.
بالرغم من وجود عدد كبير من المؤلفات، إلا انني سأقف امام نتف مما كتبه العلمانيون العرب، وهو لا يتجاوز حدود التعريف المبدئي، حيث وقفت امام ومضات للصراعات التي دارت في حقب زمنية، بين العلمانيين ومناهضيهم، لأستخلص منها: ان هذا الصراع لا علاقة له باللدين، فجوهر العلمانية الحقيقي قائم على احترام الانسان وحقوقه، وهو حق نادت به جميع الشرائع الدينية.. بل ان الصراع في اوروبا، والذي كان قائما بين الكاثوليك، والبروتستانت، والارثوذكس، وغيرهم من اتباع المذاهب المسيحية الأخرى، كان على اشده، الى ان قامت الثورة الفرنسية، وحسم الامر، عندما صار الحكم مدنيا، وسحب البساط من تحت سلطة الكنيسة التي كانت تحكم بين العباد بلا رحمة، عندما تصدر حكما باعدام جاليليو، او كوبرنيكوس، ناهيك من محاكم التفتيش، واحكام الحرق التي طالت من يتهمون بالهرطقة..!!
وما ان بدأ الحكم المدني في اوروبا، حتى خفت حدة التوتر، وازيلت الصراعات بين المذاهب المتصارعة، وبدأ الانسان في اوروبا يمارس حريته بدون قيود، وما هي الا حقب قصيرة من الزمن في عمر الشعوب، واذا بالحضارة الانسانية، تصل الى ما وصلت اليه من تطور عن مختلف ارجاء المعمورة.
اذاً من الممكن للانسان، حتى وان كان من علماء الدين، ان يدعو الى حكم علماني، ما دام هذا الحكم يحقق الحرية والكرامة للبشر، وهذا ما يصب في صلب العقيدة.
***
الموضوع لا يحتمل المطاولات والاطناب!! اذاً لنقف امام نقاط او محطات نستخلص منها الاسباب للخلافات بين العلمانيين العرب والمسلمين، ومناوئيهم..!!
يقول محمد عمارة: laquo;اسلامنا علماني بامتياز، وان مصطلح العلمانية، لا يمثل عدوانا على ديننا، ولا انتقاصا من اسلامنا، بل على العكس يمثل العودة بديننا الحنيف الى موقعه الاصيل، وموقعه المتميز في هذا الميدانraquo;.
جاء ذلك في كتاب الاسلام والسلطة الدينية صفحة 93، 94.
ويرى جمال البنا في (رسائل الاسلام والحرية والعلمانية):
laquo;إن ثمة علمانية اسلامية تتأسس على حرية الفكر والعقيدة، وانتفاء وجود نظام سياسي ديني في الاسلامraquo; رسائل 2.
ويرى الدكتور محمد رضا محرم في الصفحة 11 من مجلة (فكر):
laquo;ان العلمانية، ليست هي المقابل للدين، ولكنها المقابل للكهانة..raquo;. laquo;العلمانية هي التي تجعل السلطة السياسية من شأن هذا العالم، والسلطة الدينية شأنا من شؤون اللهraquo;. هذا ما كتبه الدكتور محمد احمد خلف الله في جريدة laquo;الاهاليraquo; عدد 603 صفحة 10.
اما نصر حامد ابو زيد فيقول: laquo;العلمانية في جوهرها، ليست سوى التأويل الحقيقي، والفهم العلمي للدينraquo; جاء ذلك في كتاب نقد الخطاب الديني صفحة 9.
وما جاء من تعريف للعلمانية لمراد وهبة في مجلة laquo;ابداعraquo; عدد6 صفحة 9 لعام 1992: laquo;العلماني هو الذي يرفض الاضطهاد باسم الدين، ويترتب على ذلك تمييزه بين امور الحكومة المدنية، وامور الدين، ويقرر ان هذا التمييز هو نتيجة للعلمانية، وليس سببا لها، فالعلمانية نظرية في المعرفة، وليست نظرية في السياسة!!raquo;.
laquo;العلمانية محاولة في سبيل الاستقلال ببعض مجالات المعرفة عن عالم ما وراء الطبيعةraquo;. هذا ما ورد في صفحة 254 دليل المسلم لحسين احمد امين.
laquo;مفهوم العلمانية، يعني الفصل المطلق بين السياسة والدين، ويرجع التأثير في هذا الصدد الى اسهام ثلاثة من المفكرين، في وضع الاطار المنطقي لتلك الافكار وهم: رجل القانون الفرنسي جين بودين، وعالم السياسة الالماني جوهانس انيسيوس، والمحامي الهولندي هوجو جروتيوس، الذي وضع الاسس لعلم القانون الدوليraquo;. جاء ذلك في الجزء 16 صفحة 415 من الموسوعة العربية العالمية، التي طبعت على نفقة المملكة العربية السعودية.
laquo;على الرغم من ارتباط العلمانية بفصل الدين عن الدولة او السياسة في الاستعمال الشائع، فإن لتلك الظاهرة دلالاتها الأخرى المتصلة بذلك الفصل، والتي لا تقل اهمية في الاستعمال الغربي المعاصر، فهي تدل لدى كثير من المفكرين ومؤرخي الفكر، على نزع القداسة عن العالم بتحويل الاهتمام من الدين الى الانشغال بهذا العالم المرئي والمحسوس، وغير المقدسraquo;. نفس الموسوعة، جزء 2، صفحة 528.
***
الصراع بين العلمانيين ومناهضيهم طويل ومرير.. فالعلمانيون، يدعون الى حوار الافكار على مائدة العقل، وتعريتها من رداء القداسة الذي يغطيها به هؤلاء الدعاة للوصول الى اهدافهم.. وهذا يجعل من المسألة ان تأخذ مسارات بشرية بحتة...!! فإذا كان المناهضون للعلمانية يتحدثون عن البركة في الاقتصاد، فالعلمانيون حولوا الحديث عن محاولة خفض نسبة التضخم، وزيادة الدخل القومي للانسان...
المناهضون للعلمانية يتحدثون عن احكام الله، بينما ربط العلمانيون بين هذه الاحكام بالدعوة الى الحرية عن طريق الديمقراطية، والدستور وتنظيم العلاقات القائمة على العدل بين البشر، فالله جل وتبارك، ينزل تعاليمه للبشر عن طريق بشر.. ومناهضو العلمانية كثيرا ما يرتكزون على الماضي بينما العلمانيون يركزون كل جهدهم على صناعة المستقبل..!!
بل ان الاختلاف قد وصل الى التعريف اللغوي لكلمة laquo;العلمانيةraquo;، وهل تكتب laquo;العِلمانيةraquo;، بكسر العين او laquo;العلمانيةraquo; بفتحها؟!! مما دفع بالدكتور زكي نجيب محمود لان يكتب مقالة بعنوان: (عين ـ فتحة ـ عا)، محاولا تفسير معنى العلمانية وفك الغموض عن معانيها، ثم يعلل ذلك بأن كلمة العلمانية ليس لها وجود في اللغة العربية قبل عصرنا الحديث..!!
وفي خضم كل تلك المعارك، والتراشق بين العلمانيين وخصومهم، لم يظهر بين العلمانيين، من يربط بين العلمانية، والالحاد..! بل انها ـ أي العلمانية ـ صارت تهمة جاهزة لكل من يحاول ان يدعو الى التطور والحداثة في المجتمعات الاسلامية مثلما حدث للمرحوم الدكتور غازي القصيبي الذي تعرض للكثير من الهجوم، بالتهمة الجاهزة، مع ان الرجل لم يتجاوز فيما يطرحه من آراء حدود ما يأمر به الاسلام من التقدم والرقي للمجتمع.. وكان المرحوم الدكتور غازي يملك من قوة الحجة والبيان، بحيث يتكفل برد جميع متهميه على اعقابهم، وهذا ما حدث بالفعل، حيث اصدر مجموعة من الرسائل والكتب يدحض فيها اطروحات اولئك الذين يناوئونه.
اذاً، فالعلمانيون يرون ان نظريتهم تقودهم الى التعامل مع الحياة بكل تشعباتها من المنظور المعرفي، والسياسي ولا علاقة لهم بفلسفة الالحاد القائمة على العلاقة بين الدين واللاهوت، فهم يرون ان اسس الدولة العلمانية تقوم على ان حق المواطنة هو الاساس في الانتماء، بمعنى ان البشر جميعا يجب ان يتساووا امام القانون، بغض النظر عن اية فوارق، وبدون وصاية من احد، الا حكم القانون الذي لا بد ان يساوي بين جميع المواطنين، ويكفل حرياتهم في العقيدة دون محاذير او قيود، وان المصلحة العامة وبالتالي الخاصة، هما اساس التشريع، وان نظام الحكم المدني يستمد مقوماته من دستور يحقق العدل،
ويلتزم بميثاق حقوق الانسان وكرامة الفرد، من غير تمييز في العرق، او اللغة او العقيدة او التفريق بين الرجل والمرأة. وكل هذه المطالب التي يدعو لها العلمانيون، ليس فيها ما يخالف في ان يكون الانسان مسلما ملتزما بعقيدته، وينهج نهجا علمانيا..!!.

* * *