بدأ (الربيع العربي) فى العراق فى آذار/مارس 1991 بعدما تقهقرت قوات صدام حسين بسرعة أمام هجمات القوات الأمريكية والبريطانية والعربية المتحالفة معها من الكويت وعادت الى العراق . انكسرت هيبة صدام ، واغتنم أهالى جنوب العراق الفرصة ، خاصة بعد تشجيع الأمريكان لهم ، فأعلنوها ثورة على نظام الظلم والطغيان ، وانضم اليهم عدد من أفراد الجيش المتقهقر وقاموا باحتلال مقرات حزب البعث ودوائر الأمن وغيرها من الدوائر التى يسيطر عليها البعثيون . أما الحرس الجمهوري والحرس الخاص الهاربين من الكويت بعد أن نهبوها وكرروا نفس الأفاعيل القبيحة التى عملوها فى الكويت حينما شحنوا ما سرقوه بالشاحنات العسكرية الى بيوتهم . والذى زاد الطين بلة هو دخول قوات بدر وغيرهم من العراقيين اللاجئين قادمين من ايران ، وبعضهم يحمل صور الخمينى ، فى محاولة فاشلة للقضاء على حكم صدام ، وهو ما فعلوه حينما دخلوا الى العراق مرة أخرى من ايران بعد هروب صدام فى نيسان/ابريل 2003 .
وبسبب حرب الأعوام الثمانية مع ايران التى دمرت البلد ، والحصار الاقتصادي الذى فرض على العراق بعد دخول قوات صدام الى الكويت ، وشحة المواد الغذائية وانعدام الأمن ، قام الأهالى الجياع بالهجوم على المحلات التجارية صغيرها وكبيرها فنهبوها ، واغتنم اللصوص المحترفون الفرصة فشاركوا فى اعمال السلب والنهب ، فنهبوا البنوك ومحلات الصيرفة . وعمت الفوضى واختلط الحابل بالنابل . وجن جنون صدام الذى صدمته خسارة الكويت ، واتصل بالأمريكان وحلفائهم من العرب ، وأقنعهم بأن الثورة هي ايرانية وانها إن نجحت فلسوف تمتد الى باقى البلدان العربية . سمحت له أمريكا باستعمال طائراته العمودية فى المعارك مع الثوار وقصف وأباد العشرات من القرى وقتل عشرات الآلاف من السكان الأبرياء (كما يفعل صنوه بشار الأسد اليوم فى سورية) ، وأطلقت قواته من الجيش الجمهوري والحرس الخاص النار على العتبات المقدسة فقتلت عددا كبيرا من النساء والأطفال الذين احتموا بداخلها ، وشاهدنا لقطات من تلك المجازر من على شاشات التلفزيون فى خارج العراق . وقام حسين كامل صهر صدام الذى عينه قائدا لتلك الحملة وخوله باستعمال منتهى القسوة ، وأخمدت تلك الانتفاضة بعنف ووحشية لامثيل لها .
وبعد فشل الثورة سادت فترة من الهدوء ، وعاد صدام الى غروره وعنجهيته ، وأخذ يراوغ ويخادع المفتشين الدولين الذين كانوا يبحثون عن أسلحة الدمار الشامل التى أوهمهم صدام بوجودها (وغرضه تخويف الايرانيين) ، فقرر الأمريكان انهاءه وانهاء حكمه هذه المرة . وانطلقت طائراتهم من قواعدها فى دول الخليج العربي ومن حاملات الطائرات فى المنطقة فى يوم 20/3/2003 وقامت بغارات وحشية على المعسكرات والمدن بالاضافة الى صواريخ (كروز) مسببة خسائر هائلة فى الأنفس والممتلكات ، وزحفت قواتهم بسرعة باتجاه بغداد ودخلتها فى 9/4/2003 بعد معركة طاحنة قصيرة فى مطار صدام الدولي ، وأسقطت تمثال الطاغية فى ساحة الأندلس ببغداد . وفر صدام هاربا من المعركة الى أن عثر عليه متخفيا فى الحفرة الشهيرة ، ولم تجابه القوات الأمريكية أية مقاومة تذكر فى إحتلال بقية مدن العراق الرئيسة ومنها تكريت مسقط رأس صدام .
الدول العربية التى كان حكامها يكرهون صدام حسين والتى اتخذت قيادة التحالف من بلدانهم محطات لانطلاق قواتهم البرية والبحرية والجوية لضرب العراق ، غيروا موقفهم بعد القبض عليه وحاولوا بشتى الوسائل إخراجه وإعادته لحكم العراق . ولا أجد تفسيرا لهذا التصرف الشاذ غير الشعور الطائفي المقيت الذى بدأ فى يوم مبايعة الخليفة الراشد الرابع علي بن ابى طالب ثم نقضها بعض المبايعين من كبار الصحابة مثل طلحة والزبير والتحق بعضهم بمعاوية بن ابي سفيان الذى أعلن عصيانه على الخليفة بحجة طلب الثأر للخليفة الثالث عثمان بن عفان . ومن يومها انقسم الناس الى شيعة مع آل الرسول وسنة مع الحكام الأمويين . ومنذ ذلك الوقت (قبل أربعة عشر قرنا) والى اليوم (وربما يستمرون الى الأبد) يتجادلون ويتنازعون حول من كان أحق بالخلافة ، واخترعوا الأحاديث والقصص الكاذبة ، وتطور الأمر الى تكفير بعضهم البعض الآخر ، ووصلت الكراهية الى حد حرق الجوامع وقتل النساء والأطفال والشيوخ .
كان شعور العراقيين عند سقوط تمثال الطاغية موزعا بين الحزن على الأموات والدمار وبين الفرح من تخلصهم من حكم البعث الذى سامهم سوء العذاب مدة أربعة عقود . ولما استتب الأمر للأمريكيين وكونوا (مجلس الحكم) من أعضاء عراقيين غير متجانسين ولا تجمعهم فكرة واحدة ، ولا يجمع بين أغلبيتهم أي توافق آيدولوجى أو عرقي ، كما وصفهم الحاكم الأمريكي بريمر الذى سخر منهم فى كتابه ذاكرا : أن أعضاء المجلس الـ25 كانوا دائما ما يختلفون حول كل القضايا صغيرها وكبيرها ، ألا أن الاستثناء ظهر حينما حدث توافق بين الأعضاء عندما تعلق الأمر بموضوع المخصصات المالية للأعضاء وتم إنجاز هذا الموضوع بتوافق غريب . (حصل نفس الشيء فى يوم أمس 23/2/2012 عندما وافق النواب على شراؤسياراتهم المصفحة والتى ستكلف عشرات الملايين من الدولارات التى ستقتطع من أفواه الشعب الجائع المنهوك ، بالاضافة الى الرواتب والمخصصات الكثيرة ، والتى حضروا اجتماعات مجلسهم للتصويت والموافقة عليها ، وهم الذين تعودوا على الغياب عن الجلسات مهما كانت ضرورية) .
شكل الدكتور اياد علاوي الوزارة المؤقتة فى يوم 28/6/2004 ودامت فى الحكم لغاية 6/4/2005 أي أقل من عشرة أشهر . وجرت الانتخابات الأولى فى 30/1/2005 وقاطعها معظم السنة الذين لم يألفوا أن تكون حكومة العراق بأغلبية شيعية ، وظنوا أن الشيعة سيهمشونهم ويستحوذون على المناصب الكبرى فى البلد . واختير الدكتور ابراهيم الجعفري رئيسا للوزراء فى 28/4/2005 وسعى جهده فى اقناع قادة السنة بالاشتراك فى العملية السياسية وأصاب بعض النجاح . وبعدما كان السنة ناقمين على صدام الذى كان يقتل السنة والشيعة بدون تمييز ، فقد انضم بعضهم الى الارهابيين من البعثيين الذين كانوا على اتصال بصدام فى سجنه وبدأوا يشاركونهم فى الأعمال الارهابية . ثم أصاب العراق البلاء الأكبر عندما بدأ مجرمو القاعدة بتفجير أجسامهم العفنة فى كل مكان فى العراق وشمل حتى المراقد المقدسة والجوامع والمدارس وتجمعات الكسبة والعمال الفقراء الذين يخرجون من بيوتهم صباح كل يوم فى محاولات للحصول على أعمال يومية توفر لهم لقمة العيش ، وبدلا من ذلك يعادون الى بيوتهم جثثا مقطعة مشوهة ، وتخيل ما كان يصيب الزوجات والأطفال عند مشاهدة ولي أمرهم محمولا على الأعناق ، بدلا من رغيف الخبز الذى كانوا بانتظاره .
نجح مجرمو القاعدة فى مساعيهم القذرة ، واشتدت الكراهية بين السنة والشيعة ، فالسنى يتهم الشيعي بالتبعية لايران الشيعية والشيعي يتهم السني بالتبعية للدول العربية السنية . والخلاف هذا لا يصب إلا فى مصلحة الساسة والمعممين الذين يحلمون بالحكم ، حيث قاموا ويقومون بتأجيج الأوضاع المتوترة بدلا من تهدئتها . فمن كان فى الحكم يكرس جهوده فى المحافظة على الكرسي ، ومن كان خارجه يركز كل جهوده على محاولة عرقلة أعمال الحكومة واسقاطها للحصول على الكرسي اللعين .
إن ما يحصل فى العراق اليوم هو فى حقيقته تنازع سياسي بين سياسيين لا يهمهم من أمر الدين شيئا، بل أدخلوا الدين فى تنازعهم وسيلة لتأييد دعواهم . وهذه الحقيقة أدركها أحد ملوك العباسيين فأوصى إبنه (ولي عهده) أن يستعين بالدين فى حكمه لأنه (لا شيء يؤثر على العامة مثل الدين) كما قال الأب . وبالاضافة الى السياسيين فإن بعض المعممين فى العراق حشروا انفسهم بين السياسيين المتدافعين طمعا بالحكم ايضا ، مقلدين بذلك المعممين الذين استولوا على الحكم فى ايران ، وبتصرفاتهم الحمقاء قد يتسببون فى نشوب حرب جديدة لن تقتصر على الشرق الأوسط وحده بل قد تشمل العالم كله .
هذا هو العراق اليوم ، بلد غني وشعبه ممزق ، غالبيته جائعة ولاتحصل على أبسط متطلبات الحياة ، وأغنياء جدد لا يتكلمون إلا عن ملايين الدولارات التى حصدوها فى السنين التسع الماضية واشتروا بها أثمن العقارات داخل وخارج البلد ، ويخشون على أنفسهم فلا يخرجون إلا بسيارات مصفحة ، بينما يقف الشرطي والجندي الذى لا يستلم أكثر من اربعمئة دينارا شهريا فى وسط الشارع معرضا نفسه لخطر الارهابيين فى كل ساعة . هذا هو ربيع العراق العاصف ، فمن يحتاج الى ربيع جديد وهو يشاهد الخراب فى العراق وليبيا ومصر واليمن وسورية اليوم ؟
لن ينقذنا مما نحن فيه إلا توحدنا وترك الخلافات جانبا ونبذ كل من يحرضنا على الكراهية فيما بيننا ، فنحن عراقيون مهما كانت أصولنا عربية او كردية أو ايرانية أو تركية او غيرها طالما نحمل الجنسية العراقية ، فكلنا متساوون بالحقوق والواجبات ، وإن النزاع فيما بيننا ضرر وخيم علينا وسرور وحبور لأعدائنا . وأذكركم ببيت للشاعر أبو فراس الحمداني قال فيه :
أيا قومنا لا تنشبوا الحرب بيننا **** أيا قومنا لا تقطعوا اليد باليد