في مساء الرابع عشر من أيار الجاري وبالتزامن مع حلول الذكرى الرابعة والستين لنكبة فلسطين حقق الأسرى في سجون الاحتلال انتصاراً وصف بالتاريخي بعد أن خاضوا إضراباً مفتوحاً عن الطعام لمدة ثمانية وعشرين يوماً متواصلةً وخاض بعضهم مثل الأسيرين بلال ذياب وثائر حلاحلة هذا الإضراب لأكثر من سبعين يوماً متواصلاً محطمين بذلك رقماً قياسياً في الإضراب عن الطعام ..
انتصار الأسرى تمثل بتحقيقهم كافة مطالبهم الإنسانية المتمثلة بإنهاء العزل الانفرادي الممارس ضد عدد من قادة الأسرى والذين وصلت سنوات عزل بعضهم إلى أكثر من اثني عشر عاماً متواصلةً لم يروا فيها سوى جدران الزنزانة ووجه السجان وأحياناً وجه محاميهم، وإنهاء الاعتقال الإداري الذي يعني أن يتم احتجاز السجين وفق تقديرات أمنية دون محاكمته بتهمة محددة، والسماح لذوي الأسرى بزيارتهم في السجون، وقد أجبرت دولة الاحتلال تحت الضغوط السياسية والإعلامية على الإذعان لهذه المطالب العادلة بعد أن كانت ترفض الاستجابة لها..
هذا الانتصار جدير بالتأمل كونه تحقق بأسلوب غير تقليدي، فقد كانت مواجهةً بين طرف يمتلك كافة أشكال القوة المادية، وطرف آخر لا يمتلك سوى قوة الموقف الأخلاقي..أي أنها كانت مواجهةً بين القوة والحق وانتصر فيها الحق المجرد على القوة المادية وهذا هو موطن العبرة الأهم..
خاض الأسرى هذه المعركة وهم لا يملكون سلاحاً سوى الإيمان بعدالة مطالبهم، وكان كل رهانهم في هذه المعركة هو استثارة المخزون الأخلاقي في العالم وحشد التأييد لنضالهم العادل بعد أن ينجحوا في تعرية موقف عدوهم وفضحه أخلاقياً..
أعلن أكثر من ألفي أسير فلسطيني الإضراب المفتوح عن تناول الطعام، وأبدوا منذ اللحظة الأولى إصراراً على مواصلة هذه المعركة القاسية حتى تحقيق كافة مطالبهم أو نيل الشهادة..لم تكن المعركة سهلةً لكن إصرار الأسرى على الانتصار كان كبيراً فترجموا تهديدهم إلى واقع عملي إذ استطاعوا أن يصمدوا صموداً أسطورياً ثمانيةً وعشرين يوماً كانت قوة الاحتلال هي التي تتراجع خلالها وتقدم التنازلات، بينما لم يكن الأسرى يبدون أي إشارة ضعف وتراجع، بل وصل الأمر في الأيام الأخيرة إلى تهديدهم بالامتناع عن شرب الماء أيضاً ودخول معركة كسر العظم وهو ما زاد من الضغوط الدولية على كيان الاحتلال مما أجبره على الاستجابة لمطالبهم العادلة..
هذا الأسلوب النضالي الذي خاضه الأسرى الفلسطينيون يعد شكلاً من أشكال المقاومة السلمية التي أساء فهمها فريق من الفلسطينيين فظنوا أنها دليل ضعف واستسلام واستجداء للتعاطف العالمي، وحقيقة الأمر أن المقاومة السلمية هي شكل راق من أشكال المواجهة الحديثة وهي دليل قوة وتتطلب تضحيةً وصبراً ربما يفوقان ما تتطلبهما المقاومة العسكرية، وهو ما يتضح في معركة الأسرى مثلاً، فالامتناع عن تناول الطعام والدواء لأسابيع متواصلة لم يكن خياراً سهلاً، بل فاق في قسوته وشدته ما يتطلبه الخيار العسكري..
تقوم فلسفة المقاومة السلمية على المراهنة على القوة الأخلاقية بخلاف المقاومة المسلحة التي تراهن على قوة الساعد والسلاح أكثر من رهانها على عدالة القضية، وبذلك فإن العمل المسلح يستطيع الجميع أن يمارسه ولا يشترط أن ينتصر فيه صاحب الحق، بل ينتصر فيه من يمتلك عتاداً وسلاحاً أكثر، بينما المقاومة السلمية لا يستطيع أن ينتصر فيها، بل لا يجرؤ على خوضها إلا صاحب الشرعية الأخلاقية، لأن إيمانه بالحق هو الذي يولد في داخله قدرةً على مواجهة القوة المدججة وهو أعزل..
فبينما نجد مشهد الشاب الفلسطيني الأعزل وهو يقف في مواجهة دبابة الميركافا الإسرائيلية يتكرر كثيراً في دلالة رمزية بالغة، فإننا لا يمكن أن نتصور أن يقف إسرائيلي أعزل يوماً في مواجهة مسلح فلسطيني إلا إذا كان لذلك الإسرائيلي قضية عادلة تمنحه القوة للمواجهة، كأن يكون أباً مثلاً اختطف الفلسطينيون طفله ويريد أن يسترده منهم، حينها لن يبالي بموازين القوى المادية وسيمنحه إيمانه بعدالة قضيته قوةً هائلةً تدفعه لمواجهة القوة المادية..
حين قرر الأسرى الفلسطينيون خوض معركة الأمعاء الخاوية فإنهم كانوا يراهنون على القوة الأخلاقية وقدرتها على حشد الدعم الدولي، والبشر بطبيعتهم يتعاطفون مع الضحية دائماً، من أجل ذلك يتعاطف الشيعة مع الحسين، ويتعاطف المسيحيون مع عيسى عليهما السلام حتى اليوم، لذا فإن أخبار إضراب الأسرى عن الطعام ومواجهتهم لخطر الموت من شأنه أن يستثير المخزون الأخلاقي في نفوس الناس، ومع كل يوم إضافي في هذا الإضراب كانت احتمالات وفاة عدد من هؤلاء الأسرى تتزايد فتتزايد حركة التضامن المحلية والدولية وتستجلب مزيد من المواقف السياسية محلياً ودولياً مما شكل قوةً ضاغطةً على دولة الاحتلال لم تجد مفراً من الرضوخ لها بعد أن صارت أمام خيارين إما الاستجابة لهذه الشروط أو أن تكون في مواجهة إدانة دولية وأن تترسخ صورتها كدولة مارقة لا تقيم احتراماً للقيم الإنسانية.
عدالة مطالب الأسرى التي استعدوا للموت في سبيل تحقيقها هي التي مست معاني العدالة والأخلاق المخبوءة في الفطرة الإنسانية فاستثارتها وأخرجتها إلى العيان مما أوجد حالةً من التضامن والتأييد العالمي انتهت بانتصار الأسرى، وهذا هو قانون الجذب النفسي أن المعنى يجذب شبيهه، فأخلاقية قضية الأسرى وعدالتها هي التي جذبت إليها ما ينغرس في النفوس الإنسانية من حب للعدالة والأخلاق..
الدرس الأهم في معركة الأمعاء الخاوية هو أهمية المراهنة على القوة الأخلاقية حتى وإن كنا في عصر يعلو فيه صوت المادة وتسود فيه لغة المصالح، لأن ضجيج المادة مهما علا لا يستطيع أن ينتزع من نفوس الناس فطرةً إلهيةً مغروسةً تحب العدل والأخلاق وتستثيرها قضايا النضال من أجل العدالة حين تكون المعركة واضحةً ومحددةً لا تشوبها شائبةً من التحريف وخلط الأوراق..
انتصار الأخلاق المجردة على القوة هو برهان ساطع على وجود الله عز وجل لأن هذا الانتصار يعني أن العدل والحق يمتلكان قوةً ذاتيةً تمكنهما من الانتصار مهما أوتي الفريق الآخر من أسباب البطش والقوة المادية، بينما في حالة المقاومة المسلحة فإن الإنسان يصير خاضعاً لقوة السلاح ومرتهناً إليه أي عبداً لهذا السلاح بدل أن تكون مراهنته على عدالة موقفه وأخلاقيته..
إن الفرق بين المقاومة المسلحة التي تعبد السلاح، والمقاومة السلمية التي تراهن على قوة الحق وحده هو كالفرق بين الشرك والتوحيد..
من جهة أخرى فإن انتصار الأسرى في معركة الأمعاء الخاوية يمثل إدانةً للفقه التقليدي الغائب عن تطورات العصر، فقد سمعنا من بعض المفتين التقليديين الذين لا يعيشون عصرهم تحريماً للإضراب عن الطعام بحجة أنه إلقاء بالنفس إلى التهلكة، ولو سمع الأسرى لمثل هذه الفتاوي لما حققوا أي انتصار.مشكلة هذه العقلية التقليدية أنها غائبة عن هذا العصر ولا تدرك تطور تفكير البشر وأساليبهم فهم يظنون أنه يكفيهم أن يقرءوا كتب المفتين السابقين التي كتبت في ظروف ثقافية واجتماعية مختلفة وأن يسقطوها على واقعنا دون مراعاة للتغيرات الحاصلة، أو أن يقرءوا النصوص مجردةً دون الالتفات إلى الواقع، بينما الفقه البصير الذي نحتاجه للنهوض بواقع أمتنا هو أن ندرس التجربة الإنسانية وتطور الفكر البشري وفي ضوء فهمنا لها تصدر الفتوى لتكون محققةً للمصالح دارئةً للمفاسد تحقق الغايات الكبرى التي من أجلها شرع الدين من إقامة للحق والعدل بين الناس..
والله أعلم..

[email protected]