كانت تمثيلية متقنة بدأت بوصول الهاشمي الى اقليم كردستان بعد ان وصلته معلومات تفيد بانكشاف ما كان يحرص على سريته من اشتراكه وتوجيهه أفراد حمايته للقيام بالاغتيالات الطائفية والسياسية، فقرر قبيل ساعات من صعوده الى الطائرة التى أقلته من بغداد الى اقليم كردستان اللجوء الى السيد رئيس الجمهورية الطالباني ورئيس الاقليم السيد مسعود البارزاني الذى وجد فى ذلك فرصة لا تعوض لمساومة الحكومة العراقية واضعافها ومن ثم اسقاطها وما ينتج عن ذلك من فوضى عارمة يتمكن خلالها من ضم أراض عراقية خارج كردستان اليه ويعلن عن قيام دولة كردستان.

اتصل مسعود بعلاوي وعرض عليه رغبته فى الاشتراك فى شن هجمات موحدة مركزة على المالكي وحكومته مما يؤدى الى اسقاطه فى النهاية. وكل عاقل يدرك أن السيد مسعود لم يعرض خدماته على القائمة العراقية مجانا ولوجه الله تعالى، خاصة وان معظم قادتها كانوا من المقربين لصدام حسينالمتورط بقتل الآلاف من الأكراد ودمروا مئات القرى ومسحوها من الوجود، فتشتت الأكراد وترك الكثيرون منهم العراق ليصبحوا لاجئين فى بلدان عديدة من العالم. لا بد أن ذلك كان يدور فى رأس البارزاني عندما اتصل بالدكتور علاوي، ولكن لا ضرر من المساومة، فهو يدرك ان علاوي مستعد ان يفعل كل شيء وأي شىء للحصول على رئاسة الوزراء.

لا أعلم ما دار فى الجلسة بين علاوي والبارزاني، ولكنى لا أظن أن علاوي قد تنازل كثيرا عن حقوق العراق لصالح كردستان بالرغم مما ذكر بعضهم من أنه تنازل عن كركوك وسهل الموصل ومناطق فى ديالى وغيرها، لأن ذلك سيقلص من (ملكه) فى المستقبل وقد يثير عليه حفيظة البعض مجموعته. ولا أشك مطلقا فى أنه كان يضمر شرا للبارزاني سيوقعه فيه متى ما أصبحت بيده مقاليد الحكم (لاسمح الله). لا أعرف من ذا الذى طرح فى تلك الجلسة فكرة استدراج مقتدى الصدر لحضور جلسة لحل المشاكل السياسية، ولكنى أظن انها من افكار علاوي الذى كان يطلق على مقتدى لقب (سماحة السيد)، يقولها وهو يضحك فى سره، ولكن (حجة الاسلام والمسلمين سماحة السيد) يطرب لها.

اتصل الاثنان تلفونيا بسماحة السيد وأقنعاه بالحضور الى اجتماع لحل االمشاكل السياسية، ولم يصدق السيد اذنيه، فى بادىء الأمر، انه يستلم دعوة من زعيمين كبيرين ثالثهما النجيفى رئيس مجلس النواب، فسارع بالسفر الى أربيل، حيث تمت الطبخة وارسلوا انذارا الى المالكي بتنفيذ مقررات أربيل (المقدسة)، ومنحوه فرصة خمسة عشر يوما ليوافق على مطاليبهم وإلا فسيسحبون الثقة عنه فتسقط الحكومة.

وبحسب الدستور لابد من بقاء المالكي فى منصبه مؤقتا لحين تشكيل الحكومة الجديدة التى قد تستغرق أكثر من عام تتخلله اضطرابات عنيفة لا تخلوا من القتل والتدمير وتسيل الدماء مدرارا فى الشوارع، وتعطل المدارس والكليات، وتغلق المطارات، وتوقف حركة القطارات، وتتأثر أعمال استخراج النفط وتصديره، وتتفاقم البطالة وما يتبعها من تشكيل عصابات إجرامية جديدة للقتل والنهب والسلب، وتنتشر المجاعة وتزداد نسبة وفيات الأطفال وكبار السن والمرضى والحوامل، ويتضاعف عدد اليتامى والأرامل وذوى العاهات المستديمة، وتتحول كل محافظة الى اقليم، والأقاليم الى دول يعادى بعضها البعض الآخر.

إنها أمور مفزعة ونتمنى ان لا تحصل، ولكن حصولها ليس مستبعدا إذا ما ركب القادة رؤوسهم وأصروا على مواقفهم الانانية اللاعقلانية. المضحك المبكي أن القادة يتحدثون عن الديموقراطية ويحذرون من الديكتاتورية بينما أعمالهم لا تمت الى الديموقراطية بصلة، ولا تبتعد عن الديكتاتورية قيد أنملة. فانهم هم الذين اتفقوا على تشكيل الحكومة الجديدة التى ضمت وزراء منهم، وهم الذين اتفقوا على أن يكون المالكي رئيسا للوزراء وما يمنحه ذلك من صلاحيات ينص عليها الدستور (وبضمنها قيادة جيش مليوني وشراء طائرات حربية)، ولكنهم يقفون حجر عثرة فى سبيله وسبيل حكومته، مما سبب تعثر المشاريع وتأخر تنفيذها او اهمالها كليا، ويعودون بعد كل ذلك الى لوم المالكي فى كل صغيرة وكبيرة ويلومونه حتى على بعض الظواهر الطبيعية ومنها العواصف الترابية لأنه لم يزرع الصحراء (وكانوا قبل ذلك يلومون الدبابات الأمريكية بإثارة العواصف الترابية!!).

معظم قادتنا عاشوا فترات طويلة فى أرقى دول العالم، ويعرفون جيدا أن من أبسط الأمور هى عندما تنتخب أغلبية الشعب حكومة لها، يتناسى الناس الخلافات بينهم وعمن يكون الأصلح لحكمهم، فيعلن القادة الخائبون فى الانتخابات ولاءهم للفائز ويعدونه بمساعدته على خدمة البلد. وتتشكل منهم المعارضة لمراقبة اعمال الحكومة ورصدها وتصحيح أخطائها بالحوار البناء بدلا من سبها وشتم رئيسها والتشهير بها بالباطل وعرقلة اعمالها، لتثبت للشعب أن الحكومة الجديدة غير جديرة بالحكم ويجب سحب الثقة عنها.

إن الديموقراطية جديدة علينا، ولكن هل يصعب اقتباسها؟ كلا، ولكن يصعب قبولها للأنانيين الذين يريدون لأنفسهم الصلاحيات المطلقة فيستبدون بالحكم والتسلط على رقاب الناس، فيجثم على صدورنا عشرات الصداميين بدلا من صدام واحد أذاقنا كل المرارات قبل تعليقه بحبل المشنقة جزاء وفاقا على المآسي التى لا تحصر ولاتوصف التى أنزلها بالشعب العراقي مدة أربعة عقود من الزمن كان من المفروض أن يصبح شعب العراق خلالها من بين أسعد شعوب الأرض.

العجيب أن البعض يقصرون لومهم على الحكومة وينسون ان الشعب هو الذى انتخبها. انظروا من انتخب الشعب العراقي ليحكمه : مقتدى الصدر الذى لم يكمل دراسته الدينية ولا يفقه شيئا فى السياسة ولا الاقتصاد ولا اي شيء يفيد الناس، والشعب انتخب (تياره) وقادته ما بين جاهل وبين طامع فى الرواتب والمخصصات الخيالية التى يتمتع بها أعضاء مجلس النواب. وانتخب الشعب العراقي اياد علاوي القيادي البعثي الذى عرفت عنه الديكتاتورية منذ أن كان فى المرحلة الثانوية وكلية الطب، وانقلب على صدام ولم ينقلب على مبادىء حزب البعث المدمرة. البعض من الذين انتخبوا علاوي من العقلاء انتخبوه فقط لأنه ليس معمما قد يعيدهم اربعة عشر قرنا للوراء، ولم يخطر ببالهم انه سيكون صدام حسين الجديد بل وأقسى منه إن استلم الحكم. إن إلحاحه الشديد للحصول على منصب رئيس الوزراء واستنكافه الجلوس فى البرلمان كعضو فيه يؤكد ذلك. ولكنه ارتكب خطأ جسيما باتفاقه مع قادة حزبيين من البعثيين (التائبين)، ونسى طبيعة الغدر عند هؤلاء الناس، وان كان قد أفلت من صدام فلن يفلت منهم مطلقا. أما تحالفه الجديد مع البارزاني فسيتبخر فور استلام علاوي الحكم، إن حصل، ولا أظن ان ذلك يغيب عن فكر البارزاني.

البارزاني ارتكب غلطة العمر بتقربه الى مقتدى الصدر المعروف عنه التقلب السريع والافكار اللاعقلانية، وظن انه بذلك قد يكسب تأييد الشيعة له. لقد ظن أن أغلبية الشيعة يقودها مقتدى الذى حصل على اربعين صوتا فقط ولم يحصل على أصوات أغلبية الشيعة الذين حصلوا على اكثر من 160 صوتا، أي ربع أصواتهم فقط، فكيف ظن البارزاني أنه كسب الشيعة؟ والمراقبون يؤكدون خسارته لمعظم الشيعة بعد احتضانه للهاشمي وتقربه للقائمة العراقية ولتركيا التى لا تكاد تنقطع هجماتها الجوية والبرية على الإقليم.

واليوم (السبت 19 ايار/مايو) يجتمع القادة الذين اجتمعوا سابقا فى اربيل، يجتمعون اليوم فى النجف بدعوة من حجة الاسلام والمسلمين سماحة السيد القائد حفظه الله ورعاه، وسينفض الاجتماع دون ان يسفر عن شيء يذكر. بل ستزداد شقة الخلاف بين المجتمعين، وسيبقى المالكي فى منصبه لما تبقى من ولايته أما بصفته رئيسا للوزراء أو مؤقتا لحين الاتفاق على رئيس جديد، لتعود نفس الخلافات والمشاكل، وتزداد ثروات الأغنياء الجدد، ويزيد فقر الفقراء القدامى، ويجف دجلة والفرات، ويزيد تضرع الناس الى خالقهم العظيم ان ينقذهم من مصائب هم جلبوها على انفسهم. quot;وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمونquot;.


ملاحظة: بعد كتابة السطور السالفة، قرأت فى (السومرية نيوز) عما تمخض عنه إجتماع النجف وهو كما توقعت : لاشيء، ولكن الذى يلفت النظر هو تصريح السيد الصدر ردا على الصحافيين بشأن ما توصل إليه المجتمعون بشأن مصالح الشعب قائلا quot;ما دمت موجودا فلا تخافوا على مصالح الوطنquot;.