لاشيء سيؤلم المواطن المغربي المعول على التغيير أكثر من استشعاره بأن حركته quot;الشعبيةquot;البريئة 20فبراير قد انحرفت عن مسارها، وزاغت عن أهدافها،بإتباع أهواء بعض quot;المردةquot; المتفلتين،واليساريين الراديكاليين ذوي الأهداف الغامضة.. أهداف لا ترتبط بما أفصحت عنه في إبان ظهورها منذ سنة تقريبا، حين رفعت شعارها :الشعب يريد إسقاط الفساد، في إقرار واضح بأن المعركة quot;حقيقيةquot; وليست وهمية مفتعلة على غرار معارك دونكيشوط ذي لامانشا..

لا شيء سيؤلمه حين سيقف على حقيقة مفادها أن quot;ثورته السلمية البريئةquot; قد اختطفت على حين غرة لخدمة أجندات ليست بالضرورة في حساب عقلاء هذا الوطن، اختاروا التغيير في ظل الاستقرار والبعد ما أمكن عن إراقة دماء في الأزقة والشوارع والحواري..

لا شيء سيؤلمه حين سيدرك أن ثورته الفبرايرية قد انحرفت بدرجة خطيرة تزيد عن 180، فقدت معها صك براءتها وحيادها بانحشارها في دائرة ضيقة لا يومن بها العقلاء... والانحراف المقصود هنا بالطبع ليس انحرافا إيديولوجيا محضا كما قد يعتقد لأول وهلة من له في إلإدراك سوء الفهم للوقائع والأشياء،بل الانحراف المقصود هو انحراف عن quot;المقاصدquot;، التي من أجلها انطلقت، والغايات النبيلة التي تحركت لها الجموع الغفيرة في أول يوم من أيام الاحتجاج..حركة متنوعة الروافد الثقافية والخلفيات السياسية، لا يضيرها إن سار اليساري والعلماني إلى جوار المتدين المحافظ جنبا إلى جنب،تحذوهم الرغبة الموحدة والطموح المشروع في التغيير الحضاري،برفع الشعار الأهم من كل الشعارات :الشعب يريد إسقاط الفساد. الشعب اختار الطريقة المثلى، الطريقة الحضارية بدل الهمجية..وذلك كان مكون الحركة الأساس عند انطلاقتها..

يعلم الجميع أن الصيرورة التي جاءت فيها الحركة كانت ضمن سياق عربي عام،افتتحه المرحوم محمد البوعزيزي بتوهج جسده المتفحم، بنيران أوقدت شرارة ثورات الربيع الديمقراطي في الشرق و الغرب.بل وإن امتداد هذه الشرارة المباركة تخطت كل حدود،لترحل بعيدا إلى شوارع العالم الغربي بدوره، لتستقطب جموعا متلهفة للعدل والإنصاف،في ظاهرة ارتحال عجيبة لثورات عابرة للقارات.و20فبراير بالمغرب لم تكن استثناءا عن هذا الربيع الديمقراطي، بل جاءت ضمن سياق موصوف باحتقان خطير في المغرب، وتردي حقيقي لكرامة المغاربة، بعد أن سيطرت منظومة اقتصادية رأسمالية جشعة،ارتهنت بالرأسمال الأجنبي على حساب quot;الوطنيquot; اغتنت فيها فئة قليلة من الناس على حساب قاعدة عريضة منهم...

وكان من الطبيعي أن يسود هذه المنظومة فساد عظيم. وكان أيضا أن ينبثق من رحم الشعب من سيقاوم هذا الفساد.لذا جاء الربيع الديمقراطي كرد فعل ايجابي تنادت له قوى المجتمع المدني الحية. ربيع،تفاوتت ردود أنظمة التحكم في العالم العربي حسب الغطرسة والشراسة والتعاطي الأمني مع الحراك الشعبي من دولة لأخرى. وفي المغرب،إذ نحمد الله أن جنب بلادنا إراقة الدماء بفضل حنكة الجميع،مؤسسات ومجتمع مدني.فإن الحركة لم تجنح عن هذا المسار في بادئ الأمر، مما سمح بانضمام فئات عريضة مختلفة،منتمية لفسيفساء المشهد السياسي المغربي، بدءا من التيار اليساري العلماني،المتطرف والمعتدل، إلى الديني المحافظ، والحزبي المتخندق، والنقابيquot;الخبزيquot; والحقوقي السياسي،في مشهد جميل، متحد على خارطة طريق واضحة المعالم، ببوصلة هادفة تتهيا شن حرب ضروس على الفساد ورموزه،وتحرير البلاد والبعاد من آفاته المميتة...

لكن ما الذي حدث بعد ذلك؟ هل احتفظت الحركة على مسارها السيادي،ونبلها الحيادي في محاربة الفساد ؟ كيف يمكن تفسير مشاركتها في الآونة الأخيرة في مسيرة الأحد،مسيرةquot;الكرامةquot; المؤدلجة بحق وحقيقة ؟

ومن جهتهم ما موقف منظمي المسيرة من الشعارات التي ارفعت عالية وصريحة تنادي بضرورة إسقاط النظام؟
لهذه الأسباب أجدني مضطرا لقراءة مكونات المسيرة ورهانها الجديد، القائم على وهم المصادمة مع المؤسسة الملكية بدل توجيه السهام والنصال الحادة إلى أعوان الفساد المتنفذين من حولها.

صحيح أن لنا مآخذات عن الملكية الحالية بالمغرب.وكم كانت رغبتنا عميقة في بلوغها للمرحلة quot;البرلمانيةquot; بدل quot;الدستوريةquot;التي يسود فيها الملك ndash;أي الملكية البرلمانية-ولا يحكم و لا يتدخل في شؤون التدبير اليومي، حتى يستقيم الوضع بمحاسبة الحكومة وجهازها التنفيذي خلال فترة توليها الحكم..

صحيح أن لنا مآخذات عن الدستور الحالي..و لكن تبقى هذه الوثيقة في ظل ما هو قائم،من أهم الوثائق السيادية الضامنة لحقوق الفرد والجماعة بكيفية لا غموض فيها ولا جدال. وتبقى الملكية بدورها الأساس في التحكيم بين الفرقاء عند الإختلاف..وعليه فكل محاولة لتجاوز الدستور أو القفز عليه إنما هو تجاوز على حقوق الفرد والمجتمع.كما أن أي مساس بهيبة الملكية والمس بشخص الملك خصوصا، بداعي quot;الثوريةquot; وquot;الجرأةquot; وquot;الحرية quot;في التعبير لهو تعدّ عن حقوق الملك.وليست هذه دعوى لتقديس شخص الملك كما قد يعتقد البعض بقدر ما هي دعوة للتقدير. وفي ثقافتنا العربية الإسلامية تقدير من له الفضل علينا ليس بالضرورة تقديس لهم.

ومن المؤسف أن يرى الواحد في مسيرة الدار البيضاء تلك الجراءة والتسييس الممنهج لحركة 20فبراير بعد أن خبا وهجها قرابة سنة كاملة. والحال أن الحركة حاجة ضرورية ينبغي لها أن تستمر في التدفق في شوارع المملكة،حتى يعلم المفسدون في الأرض أن نبض الشارع موجود على الدوام،وأن القلب حي تضخ له دماء النضال من كل صوب وحدب. حينها وحدها تستطيع الجماهير بلوغ مراميها من الإصلاح من غير جنوح نحو التطرف أو الشروع في افتعال معارك دينكشوطية..

فلا أعلم كيف سيفسر منظمو هذه المسيرة تلك الشعارات التي ارتفعت عالية مدوية على مسامعهم، ومنادية :الشعب يريد إسقاط النظام. وإني متأكد أن كل ما كان يحلم به نوبير الأموي،الزعيمquot; الخالدquot; للكنفدرالية الديمقراطية للشغل،وعبد الرحمان العزوزي الكاتب العام للفدرالية الديمقراطية للشغل، ما كان يحلمان به ومن خرج معهما في ذلك اليوم هو رفع شعارات مناهضة بالفساد، ومنددة بضياع الحقوق، والحق في الديمقراطية، والشغل الكرامة. وتلك لعمري حقوق مشروعة مكفولة بقوة القانون و الدستور في هذا الوطن، منذ أن انتفض المرحوم الدكتور عبد الكريم الخطيبquot;وشريكه في النضال عبد الله الوكوتي في وجه ديباجة الحزب الواحد الذي أعده وحلم به المرحوم علال الفاسي وآمن به من بعده المهدي بن بركة رحمات الله عليهم جميعا..لا أحد ينازع في هذا الحق، كان من كان. غير أن الانحراف الذي سارت إليه الحركة،وشعاراتها التي ارتفعت فجأة وتعدت كل سقف وخط يجعل المرء يعيد النظر في مزاعم هؤلاء quot;المردةquot;الجدد،الراغبون في فتح أبواب جهنم على المغاربة،وتفويت فرصة التغيير الحضاري في ظل الاستقرار..

وما يندهش له الواحد هو سكوت المشاركين فيها وصومهم عن أي تعليق..فلم نسمع أحدا منهم شجب تلك الخرجة quot;الخطيرةquot;،التي صرخ فيها الفبرايرون باسم الملك شخصيا وعده quot;شخصا quot;فاسداquot; على حد زعمهم والدعوة إلى تغيير نظامه الملكي، واستبداله بآخر جمهوري..وكأن الجمهوريات العربية القائمة هي جنات عدن وفردوس للديمقراطية الحقة.،لم نسمع أيا من الزعماء السياسيين المشاركين من طينة quot;عبد الهادي خيراتquot; وquot;خديجة الرياضيquot; وquot;نبيلة منيبquot; وquot;الحريفquot; وquot;عبد الرحمان بنعمروquot; وبن سعيد آيت يدرquot; وquot;الحبيب المالكيquot; وquot;أغمانيquot; وquot;أحمد الزايديquot; وquot;حسن طارقquot; قال قولا معروفا ولا نهى عن منكر. كما لم يظهر أحد منهم امتعاضهم مما رشقهم به الفبرايريون في مسيرتهم تلك،أو شجبوا ما تنادى به هؤلاء على حين غرة،أو أصدروا بيان إدانة يبرئهم مما جاء في الشعارات المرفوعة..ويبدوا أن صحوة هؤلاء الزعماء اليساريين الذين تناسوا جميعا خلافاتهم فجأة أو أرجئوها على الأقل إلى حين،تبدو أشبه بالرجل الذي صام عاما ثم أفطر على أجراناquot;.(سكت دهرا ونطق كفرا :ينطبق على نوبير الأموي المسكين).

لقد جاؤوا إلى موعدهم بنية فرملة سرعة محرك سيارة حكومة عبد الإله بن كيران الإصلاحية ليس إلا. وإلا فما معنى توقيت المسيرة وهدفها في هذا الظرف بالذات ؟ فإن كان الهدف الحرب على الفساد فذلك ما أظهره الوزراء الحاليون،بإسلامييهم واستقلالييهم وتقدمييهم وحركييهم..إذ ما فتئوا يعبرون عن الرغبة الشديدة في فضح المفسدين والمستفيدين من اقتصاد الريع. وما نشر لوائح المأذونيات وجمعيات المجتمع المدني،وتنزيل دفتر التحملات إلى مستوى النقاش العمومي لأول مرة في تاريخ المغرب،وعزم وزارة النقل والتجهيز على الكشف عن لوائح مقالع الرمال المنهوبة والرخص في أعالي البحار إلا دليل على حسن النية،و رغبة الحكومة الحالية في فضحه،تنفيذا لتعهداتها وجديتها فيما ذهبت إليه.أما أنتم فكيف ستفسرون للشعب خروجكم الغريب ذاك.؟هل ستحملونهم على الاقتناع بأن المسيرة كانت من أجل quot;الكرامة quot; فعلا؟ ومتى كانت الكرامة مفصولة عن الحقوق،والحرب عن الفساد؟

قد يستنتج الشعب هذه المرة أن المسيرة كانت مؤدلجة لم تستطع محو عنوانها الكبير :من أجل التستر على الفساد وليس الحرب عليه..
ذلك ما يبدو..والله أعلم..