اطمئنان الدين وهلع الايدولوجيا الدينية
تسيطر أحزاب الإسلام السياسي في العراق، تقريبا بشكل مطلق، على جميع مرافق الدولة، وعلى كل مفاصل المجتمع منذ عام 2003، أي منذ عشر سنوات. هذا يعني أنها لا تخشى على حاضرها ومستقبلها من أي حزب مخالف لايدولوجيتها، أو أي احتجاج ضد أدائها، أو أي تجمع مغاير لتصوراتها. لكن هذا مجرد افتراض ليس إلا، أما واقع الحال فيكشف عن وجود هوة تفصل بين المجتمع، من جهة، وبين هذه الأحزاب من جهة أخرى. سبب الهوة هو إخفاق هذه الأحزاب الدينية السياسية في تحقيق ثلاثة أهداف: عدم ظهور المجتمع الإسلامي الفاضل الذي بشرت به. غياب الدولة الدينية العادلة التي كانت تعد بتحقيقها. تقليص الحريات العامة والخاصة، والالتفاف على الديمقراطية، كما نص الدستور الجديد الذي كتبته بنفسها (آخر صيحة أطلقها واحد من هذه الأحزاب هي: إننا لا نؤمن بالديمقراطية، ونستخدمها كوسيلة للوصول إلى السلطة وإقامة دولة ثيوقراطية).
ولأن هذه الأحزاب ذات ايدولوجية دينية، ولأن مبرر وجودها، أصلا، هو الدين، فأنها ترى أن وجودها وديمومتها يعتمدان، بالضرورة، على (أسلمة) المجتمع، حتى لو تم ذلك بشكل ظاهري، أو متعسف كما سنوضح في الأمثلة التالية.

1/ (الأيمو)
قبل ثلاثة أشهر كثر الحديث في العراق عن ظاهرة (الأيمو). وأنا أسميها (ظاهرة) تماثلا مع التسمية التي أطلقت عليها وأضحت شائعة، أما في الواقع فهي ليست ظاهرة، أصلا، ولا مسألة ولا مشكلة ولا موضوع ولا قضية، إنما هي عبث صبيان، لا أكثر ولا أقل. لكن هذه الصرعة العابرة، وأصحابها كما قلت، مسالمون وبعيدون عن استخدام أي أنواع من أنواع العنف المعنوي والجسدي ضد الغير، شغلت بال أجهزة حكومية وسياسيين وعاملين في الأجهزة التربوية ومؤسسات دينية، وقادة كتل سياسية، وحذر من استفحالها قادة سياسيون دينيون في خطب عامة، ووضعت خطط حكومية طارئة وعاجلة لمواجهتها، حتى بدت الأمور وكأن البلاد تواجه هجوما إرهابيا كاسحا، أو عدوانا خارجيا يستوجب نفيرا عاما. ولكي يتم تبرير هذا الاستنفار، وبالتالي استخدام القمع ضد هولاء الصبيان، أطلقت عليهم تسمية (عبدة الشيطان). ثم وصل الأمر إلى التهديد بقتلهم. ونقلت وكالات أنباء عالمية نصوص لمنشورات أصدرتها جهات مجهولة، يقول أحدها مخاطبا هولاء المراهقين: quot; نحذركم بشدة. إلى كل فاجر وفاجرة إذا لم تنتهوا من هذا العمل القذر وخلال أربعة أيام فسوف ينزل عليكم عقاب الله وبيد المجاهدين.quot; وقال بيان أخر: quot; نحن كتائب الغضب نحذركم إذا لم تعلنوا التوبة وتعودوا إلى طريق الصواب فسوف يكون مصيركم القتل.quot; (نقلا عن وكالة رويترز) وقالت الحكومة، على لسان مدير عام الشرطة المجتمعية التابعة لوزارة الداخلية إن quot;ظاهرة الأيمو أو عبدة الشيطان متابعة من قبلهم ولديهم موافقات رسمية بالقضاء عليها بأقرب وقت ممكن.quot; وألقى رجال دين من المشتغلين بالشأن السياسي اللوم على وسائل الإعلام، وقالوا إن حكاية مطاردة هولاء المراهقين مفتعلة بأكملها، والهدف هو، تشويه صورة الملتزمين بالدين في العراق ومحاصرة الدين وتنفير العراقيين منه.
ويبدو أن هذه الجهات التي توعدت بإبادة هولاء الصبيان نفذت، بالفعل،ما وعدت به وأقدمت على تصفيات جسدية بحق هولاء المراهقين المساكين. فقد نقل موقع قناة CNN عن quot;مسؤول في وزارة الداخلية العراقية رفض الكشف عن هويته أن 14 شخصا ينتمون إلى فئتي المثليين وشباب الأيمو قتلوا في بغداد.quot; ونقل موقع إذاعة BBC عن وزارة الداخلية العراقية أن quot;حوالي 90 شابا عراقيا قتلوا رجما على يد جماعات متشددة تكره التزام الشباب بالتقاليع الغربية.quot; ونقل موقع (روسيا اليوم) الأخباري عن وكالة الصحافة الفرنسية عن quot;مصادر أمنية وطبية رسمية عراقية قولها إن ما لا يقل عن 15 من هولاء المراهقين قتلوا.quot;
وزارة الداخلية لم تنف، واعترفت بأن quot;عمليات قتل لشباب وقعتquot;، لكن الوزارة أوضحت، وهي تتذاكى، طبعا، أن quot;تلك الحوادث جنائية تحدث بشكل مستمر.quot; ويبدو أن هذه المواقف والتصريحات الرسمية لم تقنع المنظمات الدولية المعنية بأمور كهذه. فقد قال السيد جو ستورك نائب المدير التنفيذي لقسم الشرق الأوسط في هيومن رايتس ووتش: quot;لقد أسهمت الحكومة في تهيئة أجواء الخوف والذعر التي أسفرت عنها أعمال العنف ضد الأيمو. وبدلا من أن تدعي أن الحوادث مفبركة فعلى السلطات العراقية أن تفتح تحقيقا شفافا ومستقلا للتصدي لهذه الأزمة.quot;
ولم يهدأ بال الأمهات والآباء إلا بعد أن أصدرت المرجعية الدينية في النجف الأشرف، على لسان أحد وكلائها، بيانا شجبت فيه شجبا قاطعا وواضحا أي أعمال عنف ضد هولاء المراهقين، ووصفت فيه قاتلي هولاء الفتيان بأنهم quot;مجاميع إرهابيةquot;، وإن عمليات العنف ضدهم تعتبر quot;ظاهرة سيئة على مشروع التعايش السلمي.quot;

2/ حفل التكليف الشرعي
أقامت محافظة بغداد قبل أسبوع (حفل التكليف الشرعي) لصغيرات في التاسعة من العمر (لنتمعن في الدلالة الرمزية لأعمارهن، فهي تساوي عمر تجربة هذه الأحزاب في الحكم، وبالتالي فهن من جيل التغيير الإسلامي). الصغيرات ظهرن بملابس دينية موحدة، وفاخرة، وكل واحدة منهن تحمل بيدها وردة، وتم تلقينهن بشكل جيد بعض الجمل، فقالت أحداهن: يجب أن لا نرتدي البنطلون، وإذا لبسناه فتحت ثياب طويلة. هولاء الصغيرات يتيمات ومن عائلات مسحوقة، وتم ترغيب أمهاتهن بالمال، أي بالرشا، للحصول على موافقتهن. أي، أن العملية كلها هي أشبه بعملية بيع وشراء. فقد قالت أحدى الأمهات الأرامل، وهي تتحدث على شاشة تلفزيونية محلية: إن quot;سادة / شيوخ يضعون العمة السوداءquot; جاءوا إليهن وأغروهن بالمال ووعدوهن بمساعدات مالية قادمة، فوافقن على إرسال بناتهن. وفي كلماتهم التي ألقوها ، قال كبار المشرفين على تنظيم الحفل أن الغرض من إقامته هو حفظ الهوية الإسلامية للمجتمع العراقي، وبينوا أن الهوية ليست جنسية يحملها الفرد، وإنما هي المظهر الذي يظهر به، ولم ينسوا أن يفسروا نصوصا في الدستور العراقي، اختاروها دون غيرها، قالوا أنها تؤكد على الهوية الإسلامية للمجتمع، في محاولة منهم للتأكيد على صواب وجهة نظرهم، وتبرير إقامة حفل التكليف.
الواضح، هنا، أن محافظة بغداد، وهي جهة رسمية تمثل جميع العراقيين، بدأت تنافس جهات دينية (الحسينيات) والمساجد في نشاطها، وتتسابق معها. فالمألوف هذه الأيام في المدن العراقية ظهور إعلانات تقول إن المسجد أو الحسينية الفلانية laquo;تدعوكم لحضور حفل التكليف الشرعي... ليلة كذا... بتاريخ كذا.quot;
لكن هل توجد مؤسسة حكومية عراقية هذه الأيام مؤهلة، من الناحيتين الشرعية والأخلاقية، لإقامة حفل تكليف شرعي ؟ نحن نعرف أن الحكومة العراقية تصنف في أدنى الدرجات بين دول العالم في الفساد المالي، والفساد المالي هو فساد ديني وأخلاقي، وأن المرجعية الدينية بدأت ترفض استقبال الممسؤولين الحكوميين لهذا السبب، وإن كبار موظفي محافظة بغداد أنفسهم quot;غير مؤهلين لمناصبهمquot;، كما قالت عنهم، على سبيل المثال، كتلة الأحرار في مجلس المحافظة، وهي كما نعرف جهة دينية مثلهم، ناهيك عن ما تنشره مواقع الانترنيت عن اختلاسات. فهل يجوز، نسأل مرة أخرى، لجهة حكومية متهمة في نزاهتها وفي أخلاقها الإسلامية أن ترعى حفل تكليف شرعي، أم هو هوس quot;الهويةquot;، أي التأسلم الظاهري: أن يكون (البالكون) مصبوغا بألوان إسلامية زاهية، ولا يهم أن يكون الداخل خرابا ؟

3/ شموس الجامعة
في منتصف شهر أيار/ مايو الماضي أقامت جامعة المستنصرية في بغداد، وهي مؤسسة رسمية، مهرجانا تحت تسمية (هي ونحن) لاختيار (أفضل) عشر طالبات، أو (شموس الجامعة). والمفارقة الصارخة هي، أن المهرجان لم تنظمه الجامعة، إنما نظمته منظمة مدنية غير رسمية، لا ندري من خولها، ولماذا هي بالذات. مع ذلك حضره كبار المسؤولين الحكوميين، وفي مقدمتهم وزيرة شؤون المرأة. الهدف الظاهري لهذا المهرجان، الذي يحدث لأول مرة كما قال منظموه، هو اختيار عشر طالبات متفوقات علما وخلقا لنيل لقب (شموس الجامعة). ويفترض في هذه الحال أن تتاح فرص متكافئة لجميع الطالبات للمشاركة، بغض النظر عن توجهاتهن الايدولوجية وأزيائهن، مما دفع الكثير من الطالبات للمشاركة. لكن (الاختيار) وقع فقط على صنف واحد، أي الطالبات اللواتي يتزين بزي إسلامي صارم (جبة طويلة وغطاء رأس). وفي مقابلات تلفزيونية مع قنوات محلية أعربت الطالبات اللواتي لم يتم اختيارهن (وبينهن سافرات ومحجبات بحجاب quot;مخففquot;) عن أسفهن واحتجاجهن لعدم أشراكهن، وقلن أن المنظمين قرروا، مسبقا، اختيار فتيات بزي إسلامي صارم، أو (المجببات)، على حد تعبيرهن. وما قلن إلا الحقيقة. فقد ركزت أحاديث جميع المسؤولين، بما في ذلك وزيرة شؤون المرأة، على (زي) الطالبات لأن غرض المهرجان هو quot;تشجيع الزي الإسلامي ورفض الأزياء الأخرى الدخيلة التي لا تتناسب مع تقاليد المجتمع العراقي الشرقي المحافظ الإسلامي (...) والالتزام بصفات الإسلام الحقيقية ونبذ الظواهر المنحرفة والأزياء الدخيلة على أبنائنا وبناتناquot;، كما ورد في كلمات منظمي المهرجان والمسؤولين الرسميين.
نعيد طرح السؤال الذي طرحناه توا: هل يحق، أخلاقيا ودينيا، لحكومة مطعون في نزاهتها وأمانتها وأخلاقها من قبل منظمات دولية، والغالبية العظمى من الشعب، بل حتى من قبل وزراء داخلها، وترفض المرجعية الدينية استقبال أعضائها، هل يحق لها أن تمنح شهادات سلوك أخلاقية لمواطنيها؟
سيكون الواحد منا ساذجا لو لم يربط بين حفل التكليف الشرعي للصغيرات، وبين مهرجان (شمس الشموس) للطالبات الجامعيات. الحفل الأول هدفه تحقيق شعار (خذوهم صغارا) الذي دأب على تحقيقه نظام البعث، والحفل الثاني هدفه تحصين الطبقة الوسطى الناشئة ضد أي محاولات لاختراقها، وتحويل أفرادها إلى (أدوات) لخدمة أيديولوجية أحزاب الإسلام السياسي، كما فعل صدام، أيضا.
لكن، هل بالإمكان (قولبة) ملايين العراقيين ووضعهم داخل خانة الفكر الموحد والزي الموحد؟ وهل شفعت سياسة التبعيث لصدام حسين ؟ هل يردع الخمار أرملة شابة، لا يذوق صغارها اللحم إلا في المناسبات، من بيع جسدها؟ هل سيمتنع شرطي من الرشا، في بلد أصبح فيه الرشا ضمن المنظومة الأخلاقية السائدة، حتى لو أطال لحيته إلى سرته، كما يطالب هذه الأيام المتحمسون لبناء مجتمع (البالكون)، أن يطيل الجنود والشرطة لحاهم احتراما، كما يقولون، للحريات الشخصية التي لا يتذكرونها إلا في هذه الحالات؟

[email protected]