في عام 2002، والنظام العراقي السابق لم يسقط بعد، صار الحديث في لندن عن تشكيل (أو لعله تشكل بالفعل) تجمع بأسم (ائتلاف القوى الوطنية) بين حزب الدعوة الإسلامية والحزب الشيوعي العراقي وجماعة العلماء المجاهدين وقوى إسلامية أخرى. وعندها أصدر رجل الدين السيد كاظم الحائري مع آخرين، فتوى بعدم جواز تشكيل التحالف، بسبب وجود الحزب الشيوعي.، وقال الحائري وقتذاك في بيان مشترك إن quot;هذا العمل من أعظم المحرمات عند الله.quot;

منطق رجال الدين وقوانين السياسة
الحائري قال رأيه قبل أكثر من عشر سنوات. وخلال هذه السنوات حدثت أمور كثيرة في العراق، أكثرها أهمية أن رأيه لم يؤخذ به من قبل حزب الدعوة. لماذا ؟ ليس لأن قادة الحزب لا يحترمون ما يقوله الحائري ولكن، ببساطة، لأن للسياسة منطقها وقوانينها الخاصة بها ولرجال الدين منطقهم.، وليس بالضرورة أن يتطابق المنطقان أو أن يلتقيا. حزب الدعوة الإسلامية، شأنه شأن جميع الأحزاب الدينية في العراق وغير العراق، هو حزب سياسي، وليس جهة دينية، وإلا لكان قادته قد اعتكفوا داخل الحوزات و تفرغوا لشؤون الدين، وخصصوا حياتهم ونشاطاهم لهذا الغرض، كما يفعل رجال دين آخرون. ولأن حزب الدعوة الإسلامية ومعه جميع الأحزاب السياسية الدينية هي مؤسسات سياسية قبل أي شيء، فأنه قبل بكتابة (بل شارك في كتابة) دستور مدني، وإن شئتم، علماني، هو الدستور الجديد المعمول به حاليا، فالدستور الحالي هو دستور مدني من ألفه إلى يائه. ثم راح حزب الدعوة ومعه أحزاب دينية عراقية أخرى يغيرون من تحالفاتهم، ويبتكرون تسميات (مدنية) لقوائمهم الانتخابية تستجيب لما يريده الشارع العراقي، ويضمون إليهم شخصيات وأحزاب مدنية (علمانية)، ويشرفون على فعاليات ونشاطات ثقافية مدنية، ويتفاخرون بوجود نساء، وبعضهن سافرات، في قوائمهم الانتخابية، بل ويغيرون حتى من هنداهم، فيجعلونه زيا أفرنجيا بربطة عنق.
قطعا، أن هذه الممارسات أو التغيرات لا تجد لها قبولا عند بعض قادة أو كوادر هذه الأحزاب، لكنها السياسية: أما أن تقبل منطقها عندما تخوض غمارها وتأخذ بنظر الاعتبار متطلبات وأمزجة وتوازنات المجتمع الذي تنشط داخله، أو تنتحر سياسيا. وهذا لم يحدث للقوى السياسية الدينية في العراق فقط، بل أن هذه القوى في العراق كانت، بعد حزب العدالة والحرية في تركيا، سباقة في هذا المضمار، ودونك ما حدث بعد ذلك في موقف حزب النهضة في تونس، والآن ما يحدث في موقف الأخوان في مصر، وما ظهرت بوادر ظهوره في سوريا، في وثيقة الأخوان المسلمين، تهيئا لمرحلة ما بعد سقوط النظام الحالي.
وعلى حد علمنا، فأن الحائري لم يفت طوال هذه السنوات العشر بحرمة انتخاب العلمانيين، أو إقامة تحالفات معهم. الآن، والآن فقط، أصدر الحائري فتواه بتحريم التصويت للعلمانيين. ومن حق الآخرين أن بستنتجوا أن فتوى الحائري التي أصدرها قبل يومين لها غرض دنيوي عابر، وليست لها علاقة بالحفاظ على الدين. هذه الفتوى سلاح سياسي قدمه الحائري، أو ربما طلب منه أن يقدمه، دعما لجهة سياسية بعينها، دون الجماعات الأخرى.

فتوى الحائري صرخة في البرية
خلال جميع أنواع الحكم التي عرفها تاريخ العراق منذ الفتح الإسلامي حتى عام 2003، كانت الخلافات السياسية و وسائل حلها تتم في الكواليس وداخل غرف مغلقة، وتنفذ بأساليب مؤمراتية بين النخب الحاكمة نفسها، بعيدا عن معرفة أو مشاركة الرأي العام. الرأي العام كان مسلوب الإرادة وما كان يسمع إلا النتائج: الحاكم الفلاني سملت عيونه، والأخر وضع في تنور المسامير عقابا له، وأم الحاكم الفلاني علقت من رجليها لاستيفاء الديون، والحاكم العلاني نحر نحر الشاة وألقيت جثته في البالوعة، والآخر نفي خارج العراق، والآخر حوكم عسكريا، والآخر شارك في إعدامه جميع الرفاق ... وهكذا.
بعد عام 2003 تحولت هذه الكتل البشرية، أو الأمة أو الشعب، من كتل مهملة واجبها الوحيد طاعة أولي الأمر، إلى عناصر فاعلة وفعالة ترصد أفعال أولي الأمر، وتراقب أدائهم، وتطالب بعزلهم، إذا رأت ذلك ضروريا. وهذا أمر يجب أن يدخل الفرح لقلب الحائري، سواء فكر سياسيا بشكل عام أو فكر بدافع نصرة المذهب أو الطائفة الشيعية في العراق. فالقضية التي كانت وراء إصدار الحائري لفتواه هي، المحاولة الجارية الآن لسحب الثقة عن رئيس الوزراء الحالي، السيد نوري المالكي. وكما يرى ويراقب الجميع أن هذه القضية تشغل الرأي العام العراقي كله، وتتم مناقشتها علانية عن طريق الإعلام والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني ورجل الشارع. أي أن العراقيين ينغمرون الآن في مواجهة هذه المسألة كأفراد أحرار، مع سحب الثقة أو ضدها، مستفيدين من أجواء الحريات المدنية التي وفرها لهم الدستور المدني. فتوى الحائري تريد، بوعي أو بدونه، سلب ومصادرة هذه الحريات المكتسبة، وتحول الناس إلى (كراديس) مسلوبي الإرادة، يطلب مها أن تقول لا أو نعم، في موضوع لا يتعلق بالحياة الفردية الخاصة، إنما بقضايا مصيرية تهم المجتمع. وهذا هو الفرق بين منطق رجال الدين وبين منطق السياسة وقوانيها، وهو أمر حسمته مرجعية السيد علي السيستاني، ببصيرة ثاقبة وحكمة استثنائية، عندما قالت المرجعية أن الدين والتدين شيء، والسياسة شيء آخر، وأوصت أن ينتخب العراقيون القائمة الانتخابية (الأصلح).
هناك مسألة أخرى مهمة جدا. السيد رئيس حزب الدعوة ورئيس الوزراء الحالي، نوري المالكي، الذي صدرت فتوى الحائري لدعمه في المعركة الحالية التي يخوضها، حاز في الانتخابات الأخيرة على شعبية مذهلة وحصدت قائمته وحدها أكثر من تسعين مقعد في البرلمان. المالكي لم يحظ بتلك الأصوات بفضل فتوى دينية للحائري أو غيره، إنما حصل عليها بفتاوى الناخبين، وهم ناخبون لهم قناعات أيديولوجية متباينة، لكن ما وحدهم وراء المالكي هي رغبتهم في استتباب الأمن، وترسيخ (دولة القانون)، الذي أطلق المالكي أسمها على قائمته الانتخابية.
ورغم كل ما نراه أمامنا هذه الأيام من خلافات واحتقانات سياسية بسبب موضوع سحب أو عدم سحب الثقة من المالكي، فأن الأمور تجري، أو أقله ما زالت حتى الآن تجري، بطريقة مدنية، سلمية وديمقراطية، لصالح وحدة الشعب العراقي، وليس بالضد منها. وهذا أمر يحسب للمفهوم المدني (العلماني) في إدارة الدولة. فمحافظة الأنبار السنية، مثلا، يتظاهر مواطنوها، أو بعض مواطنيها، لصالح بقاء رئيس حزب الدعوة الشيعي ورئيس الوزراء السيد المالكي في منصبه. وكذلك فعل برلمانيون يمثلون هذه المحافظات. وبالمقابل، ينضم السيد مقتدى الصدر زعيم أكبر تجمع سياسي شيعي (لقائمته وحدها 40 مقعد في البرلمان) إلى المدنيين (العلمانيين) في القائمة العراقية التي دائما ما حسبت على السنة، ومعها قائمة التحالف الكردستاني المدنية (العلمانية)، ويطالب معهم في سحب الثقة عن رئيس الوزراء الشيعي. ومن جانبها تقف أطراف في الائتلاف الشيعي على الحياد أو تحاول تقريب وجهات النظر بين المؤيدين والمعارضين لسحب الثقة. وقد أكد السيد الصدر، مثلما حلفائه الحاليون بأنهم سيرضون بما تحدده جلسة البرلمان بشأن بقاء أو عدم بقاء المالكي في منصبه. هذا الحراك الفوار الشامل والعميق الذي يديره العراقيون كلهم هو دليل على حيوية وديناميكية الفكر المدني (العلماني)، أي الديمقراطية، وهو مؤشر على تطورها، وهو حراك لا نسمع في خضمه إلا أصوات العراقيين، كل العراقيين، أما فتوى الحائري فستتحول وسط هذا الصراخ الصحي إلى صرخة في البرية لا أحد يسمعها.