قبل ايّام مرّت الذكرى الخمسون لاستقلال الجزائر، اكبر البلدان العربية مساحة منذ تقسيم السودان الى دولتين. لا تزال الجزائر تبحث عن هويّتها السياسية. هل هي بالفعل جمهورية quot;ديموقراطية شعبيةquot; تنتمي الى العصر ام انها لا تزال اسيرة عقد الماضي، على راسها عقدة الدور الاقليمي الذي جعل غير دولة عربية وغير عربية في المنطقة في عملية هروب مستمرّ الى امام.
هل في الجزائر من هو قادر على الاستفادة من تجارب السنوات الخمسين الماضية بايجابياتها وسلبياتها ام ان هذا البلد العربي المهمّ سيكرر اخطاء سنوات مع بعد الاستقلال وصولا الى الحرب الاهلية التي استمرّت عقدا من الزمن والتي فجّرها في العام 1988 الانخفاض المفاجئ لاسعار النفط وعدم قدرة السلطة على التعاطي مع المشاكل الحقيقية للبلد في غياب العائدات النفطية الضخمة، الكفيلة بتغطية كل الاخطاء التي ارتكبها هواري بومدين ثم الشاذلي بن جديد؟
تعتبر الجزائر من الدول العربية التي تمتلك شخصيات سياسية مهمة وديبلوماسيين يمتلكون كفاءات عالية. لكنّ كل هذه الشخصيات وكلّ اركان الديبلوماسية الجزائرية لم ينفعوا في شيء عندما هبطت اسعار النفط ونزل الناس الى الشارع في تشرين الاوّل- اكتوبر من العام 1988 رافضين الوضع القائم. تبيّن بعد الذي حصل في ربيع العام 1988 ان الجزائر في حاجة الى نظام جديد لا الى تكرار سلوكيات الماضي التي كادت ان تؤدي الى تفجير البلد من داخل. لا تزال الجزائر تبحث عن هذا النظام الجديد على الرغم من انها تنعم باستقرار نسبي منذ انتخاب عبدالعزيز بوتفليقة رئيسا للجمهورية في العام 1999. حسنا، استطاع بوتفليقة لعب دور في توفير الاستقرار واستعادة مؤسسات الدولة، على رأسها الجيش، المبادرة على الصعيد الداخلي. لكنّ الخوف كلّ الخوف يكمن في فشل الرئيس الجزائري، على الرغم من بقائه كل هذه الفترة الطويلة في السلطة في تحقيق امرين.
لعلّ الامر الأول الذي فشل بوتفليقة في تحقيقه يتمثل في عدم مصالحة الجزائر مع نفسها، اي مع الجزائريين انفسهم، ومع محيطها ومع فرنسا التي كانت الدولة المستعمرة للجزائر والتي اعتقدت انها ستكون قادرة على ضمّها في يوم من الايام تحت عنوان quot;الجزائر الفرنسيةquot;.
نعم ارتكب الاستعمار الفرنسي جرائم فظيعة في الجزائر، لكنّ هناك اخطاء من الجانب الجزائري ايضا، كذلك هناك مبالغات من بينها تضخيم عدد شهداء الثورة الجزائرية، كما لو ان هناك شهداء يولدون في القبور. في النهاية، تتفادى الدولة الجزائرية، التي ولدت من رحم الثورة، المصالحة مع فرنسا بسسب عجزها عن اتمام مصالحة بينها وبين الجزائريين. انها في حاجة دائمة الى بعبع اسمه quot;الاستعمار الفرنسيquot; تتاجر به في سياق تعاطيها مع الجزائريين. المؤسف ان ذلك يحصل في وقت يطمح فيه معظم الجزائريين الى الهجرة الى فرنسا على الرغم من ان بلدهم من اغنى بلدان العالم بفضل ما يمتلكه من ثروات طبيعية. لا بدّ في المناسبة من شكر فرنسا على توفير جانب من هذه الثروات للجزائر، اذ اقتطعت مساحات شاسعة من الاراضي المغربية مثلا وضمتها الى الجزائر من منطلق ان quot;الجزائر فرنسيةquot; وان فرنسا ستكون المستفيد الاوّل من ثروات الجزائر... لو لم يحصل خطأ في حسابات العسكريين والسياسيين الفرنسيين في باريس وفي الجزائر نفسها.
اما الامر الثاني، الذي قد لا يكون الاخير، والذي فشل بوتفليقة في تحقيقه فهو تطوير مؤسسات الدولة تمهيدا لقيام نظام ديموقراطي بدل بقاء الدولة اسيرة المؤسسة العسكرية. ما لا بدّ من الاقرار به ان هذه المؤسسة لعبت دورا اساسيا في التصدي للارهاب في اواخر الثمانينات وطوال عقد التسعينات من القرن الماضي. حافظت المؤسسة العسكرية على quot;الجمهوريةquot;. ولكن ليس ما يحول دون الاعتراف ايضا بانّ الجزائر بقيت في عهد بوتفليقة، على الرغم من انه ليس عسكريا، اسيرة وهم الدور الاقليمي الذي في اساسه عسكري اسمه هوّاري بومدين.
في عهد بوتفليقة، بقيت الجزائر تتاجر بما يسمّى قضية الصحراء الغربية والصحراويين انفسهم. يمكن تفسير ذلك بحرب الاستنزاف التي تشنها بطريقة غير مباشرة على المغرب. ولكن يتبين مع مرور الوقت ان الالاعيب التي تمارسها الجزائر سترتد عليها عاجلا ام آجلا. استثمرت الجزائر منذ سنوات طويلة في الطوارق انطلاقا من مالي بهدف تحويلهم الى اداة من ادواتها، على غرار جبهةquot;بوليساريوquot;. ها هي الجزائر الآن الهدف الاول للارهاب الذي مصدره مالي والحلف الجديد بين الطوارق والاسلاميين المتطرفين الذين يسيطرون على شمالها.
ارادت الجزائر عبر الاستثمار في الطوارق ومالي توسيع نفوذها الاقليمي. لم تدرك انها ليست دولة عظمى وان نفوذها الاقليمي مرتبط الى حد كبير بالتعاون مع جيرانها، على راسهم المغرب، في خوض الحرب على الارهاب.
بعد نصف قرن على استقلال الجزائر، يبدو ان اكبر الدول العربية مساحة لم تشف من عقدة هواري بومدين الذي مكّن المؤسسة العسكرية من خطف الثورة والثوّار الحقيقيين.
اقلّ ما يمكن قوله ان المجموعة التي تحكم الجزائر لم تنضج بعد. ليس هناك ادراك في العمق لمعنى المصالحة مع الجزائريين اوّلا والاعداد لمرحلة ما بعد عبد العزيز بوتفليقة من خلال دولة مؤسسات ديموقراطية بالفعل وليس بالاسم كما الحال الآن.
نضجت الجزائر ام لم تنضج بعد كل هذه السنوات؟ هذا هو السؤال الاساسي في وقت سيكون فيه مصير البلد على المحكّ عاجلا ام آجلا. في النهاية، لا يمكن بناء دول قابلة للحياة فيها عدد كبير من السكان في غياب موارد اخرى غير النفط والغاز. الدول الصغيرة القليلة السكّان تستطيع ذلك. اما الدول الشبيهة بالجزائر فهي عاجزة عن التطور بشكل ايجابي، خصوصا في غياب القدرة على بناء مؤسسات قابلة للحياة غير المؤسسة العسكرية الحاضرة ابدا وعند كلّ منعطف...وهو ما يعرفه عبد العزيز بوتفليقة جيّدا وربّما اكثر من اللزوم!