اللافت للانتباه أن حركة الإسلام السياسي، شهدت في بلدان الربيع العربي تحولات مهمة ومراجعات جوهرية في رؤاها وأسلوب تفكيرها، انطلاقا من مؤشرات دالة، عبرت عنها مواقف بعض قادتها البارزين. حيث اتسم محتواها بنفس توافقي تشاركي أحيانا، وبنفس مرن وواقعي أحيانا أخرى، والتساؤل الذي يطرح، هل يمكن اعتبار هذه التحولات تكتيكية أم استراتيجية؟ بعبارة أخرى؛ هل هذه التحولات ناجمة عن تحول جذري في البنية الفكرية والمفاهيمية والتصورية للإسلام السياسي؟ أم أن الوقت سابق لأوانه للحكم عن مدى جدية هذه التحولات ومصداقيتها؟
لقد اهتمت أكثر حركة الاسلام السياسي بعد هذا الحراك الشعبي؛ أو ما سمي بالربيع العربي بالسلطة والدولة والنظام السياسي، وهذا ما جعل الكثير من مراكز البحث، وكذا المتتبعين من خصوم سياسيين وغيرهم، تقليب النظر في أداءها وسلوكها السياسي؛ لأنها تعتقد أن امتلاكها لدفة الحكم يعد مفتاحا للتغيير الاجتماعي، ومدخلا للإصلاح والنهوض. وبما أن السلطة تكشف الوجه الحقيقي للفاعل السياسي، وكما قال مارثن لوثر: quot;إذا أردت أن تفضح إنسانا فامنحه سلطةquot; لا شك أن الاسلاميين- إسلامي الربيع العربي- سينقسمون إلى طرائق قددا؛ نظرا لاختلاف زوايا نظرهم حول قضايا عدة، وستعترض سبيلهم معوقات جمة ذاتية وموضوعية، سيكون الجزء الكبير منها لحظوظ النفس والتحيز للذات الحزبية أكثرمنها للوطن والمواطنين.
لعل الناظر للتاريخ القريب لتجارب الاسلاميين في الحكم، سيكتشف إخفاقها البين، وانكساراتها المتتالية؛ فالتجربة السودانية انتهت بتقسيم البلد الى شطرين دولة في الشمال وأخرى في الجنوب، وانشقاق فصيل الشيخ حسن الترابي عنها، الذي سجنه رفيقه مرات عدة، -ولولا ألطاف الله-، ووزن هذه الشخصية لتم إعدامه، كما حدث للشيخ محمد محمود طه سنة 1985 لما عارض حكم جعفر النميري، فحكم عليه باسم الشريعة. وتجربة طالبان والصورة التي قدمتها عن الإسلام وحصرتها في شكليات وقشور وعنف ودماء واقتتال بين أفراد الوطن الواحد، نتيجة أحكام فقهية مختلف فيها بين الأمة. أما التجربة الايرانية فقد انقلبت الى نظام ثيوقراطي؛ يباح فيه تزوير الانتخابات، وقمع المعارضين بشتى الوسائل في ظل حكم الملالي (ولاية الفقيه).
والتحدي الأكبر للإسلام السياسي quot;المرنquot; الذي تربع على عرش السلطة، هو مواجهته لفئات تتقاسم معه نفس المرجعية والثوابت، والمتمثل في الإسلام السياسي quot;الصلبquot; وقد شهدنا -مثالا عن ذلك-، في غزة لما ظهرت جماعة متشددة في مواقفها تدعو إلى إقامة إمارة إسلامية، اضطرت معها حركة حماس لحسم صراعها معها بالقوة.
في مقابل ذلك نجد بعض المواقف المتسمة بالنضج لبعض فصائل الإسلام السياسي المتربع على سدة الحكم حاليا، كحزب النهضة في تونس حيث لم يبد تصلبا في موقفه بإصراره على تضمين الدستور الجديد، الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساس للقوانين، واقتصر التنصيص على أن: quot;تونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة؛ الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامهاquot;. ومثال آخر، بالنسبة لحركة الأخوان المسلمون حزب الحرية والعدالة: حول شعاره quot;الإسلام هو الحلquot; في الحملة الرئاسية إلى شعار quot;النهضة...إرادة شعبquot;، بثأثير من حركة الشباب داخل الاخوان، وحتى الدول التي لم تشهد ثورة حقيقية كالمغرب حين انتقل حزب العدالة والتنمية الإسلامي إلى السلطة، قام بتقليص خطابه الهوياتي المتضخم في فترة المعارضة، لصالح خطاب يرتكز على التديير الصرف، أما في الجزائر فقد غيرت بعض أحزاب الإسلام السياسي أسماءها لتكون خالية من الصفة الإسلامية كحزب العدالة والإصلاح...ونجد أيضا ما سمي بوثيقة quot; العهد والميثاقquot; المتقدمة في افكارها التي أصدرها quot;الاخوان المسلمون السوريونquot; حول مستقبل بلدهم ونظامه السياسي؛ حيث عبرت عن نضج راق، أشاد الكثير من السوريين المختلفين مع الاخوان بمحتوياتها.
هذه التغييرات في تفكير الإسلاميين، مهما كانت طبيعتها، إلا أن البعض قد يعتبرها شكلية أو وليدة ظروف راهنة، لا تعبر عن التحول الحقيقي؛ لكنها تؤشر على أن الفعل السياسي سابق في الفكر والتصور.إلى جانب هذه الممارسات السياسية الإسلامية، ثمة نقاشات موازية داعمة لهذا التيار، حاولت تقديم الإسلام كدين لا يعارض الديمقراطية، ويحترم الحريات الفردية، ويؤيد فصل الدين عن الدولة...، كما أبانت التجربة التركية لحزب العدالة والتنمية الإسلامي عن نموذج صالح للإستلهام والاقتداء به، بالرغم من وجود فوارق بين تركيا وبقية البلدان العربية. لقد شعر الغرب بأن دعم أو السكوت عن ممارسة الأنظمة الشمولية قد ولى زمنه، وأن ثمة إمكانية لدعم نماذج الحكم الليبرالية التي تنطلق من الإسلام وفي ذات الوقت تؤمن مصالح الغربيين. ولعل من إيجابيات أو حسنات هذا الحراك الشعبي السلمي، مساهمته في تطوير جميع التنظيمات السياسية بشتى ألوانها وأطيافها، مما جعل البلدان العربية تشهد مرحلة مفصلية حقيقية من تاريخها، وجب استثمارها في تأمين مستقبل ديمقراطي قائم على أسس متينة، ويمكن تحديد مسارات الإسلاميين في السلطة في ضوء ما ذكرنا من تحولات داخل هذه الكيانات الإسلامية مع اختلاف درجة ونوع هذا التحول من بلد إلى آخر، ويمكن تقسيم حركة الاسلام السياسي إلى توجهين؛ توجه صلب وآخر مرن.
الاتجاه الأول: هو الذي توجس منه الكثير؛ لأنه ينشد إلى الماضي، ويتسم بخطاب مزدوج بين ما هو مضمر وماهو معلن، وخطابه السياسي لا يطمئن المخالف دينيا وسياسيا، باعتبار أنه يخلط الدين بالشأن العام، ويقوم على استعداء الخصوم. فعلى سبيل المثال تحفظ بعض المصريين من انتخاب رئيس من الإخوان مرده عدم الوثوق بهم، لأنهم طرحوا السؤال التالي: هل سيكون رئيسا لجماعة الإخوان المسلمين، أم سيكون رئيسا لمصر؟ بعبارة أخرى؛ هل سيكون ولاءه للجماعة أم للوطن؟ وهذا الاتجاه سوف لن يصمد أمام المتغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم، وكذا أمام الضغط الإجتماعي والمطالب الشعبية، التواقة إلى الحرية والكرامة والديمقراطية، والكثير يراودهم الخوف في ظل حكم الإسلاميين quot;الصلبquot;؛ من أن يتحول المجتمع من استبداد لطغمة حاكمة سواء كانت عائلية أو عسكرية، إلى استبداد باسم الدين تقوده فئة تستأثر بالسلطة، و تعتقد أنها تمتلك الحقيقة المطلقة.
أما الاتجاه الثاني: يمكن اعتباره بمثابة القمة التي سيصل إليها الإسلام السياسي quot;المرنquot; في تقلباته وتبدلاته، ومن خصائصه تطوره مع الممارسة والفعل السياسيين، وكذا تمييزه للمجال السياسي عن الديني، وعدم الخلط بينهما، وكذا مرونته الفكرية المواكبة لفعله السياسي، وهذا النموذج كما سبقت الإشارة إليه يمثله حزب العدالة والتنمية التركي، وكذا حزب النهضة التونسي، وتسير بعض الأحزاب الإسلامية في ربوع الوطن العربي على ذات المنوال، وهنا، نستحضر كمؤشر لتعزيز هذا الإتجاه آراء بعض قادة ومنظري الإسلام السياسي، كالدكتور أحمد الريسوني quot;العالم المقاصديquot;، كما ينعته بعض الإسلاميين، ففي معرض حديثه عن الشريعة الإسلامية حاول أن يوسع مفهومها ليشمل كافة القيم لكي ينزع عنها المفهوم المنحصر فقط في الحدود، كما برزت آراء أخرى من بينها رأي الشيخ راشد الغنوشي حول الحريات والديمقراطية والمرأة. وفي الآونة الأخيرة، سطع نجم المصري إبراهيم ناجح (من الجماعة الإسلامية) الذي أصر على الفصل بين السياسي والدعوي، فضلا عن آراء مجموعة من الدعاة والتشكيلات السياسية الإسلامية المستقلة غير المنبثقة عن التجربة الاخوانية، ولها امتداد في ربوع الوطن العربي، وتستقي آراءها وتوجهاتها من قاموس العلوم السياسية الحديثة، بدلا من قاموس العلوم الشرعية، وأظن أن الساحة العربية في المستقبل ستشهد اجتهادات نابعة من الإسلام أكثر مرونة ومواكبة لقيم العصر.
- آخر تحديث :
التعليقات