المواطنة مفهوم قديم يعود ظهوره إلى عصر اليونان والرومان، ثم ظهر مع النهضة الأوربية، لاسيما مع بروز الدولة الحديثة، وتعزز المفهوم مع التنصيص على الحقوق والحريات في ميثاق الأمم المتحدة، وفي دساتير الدول الأوربية، بينما في البلاد العربية والإسلامية، لا يزال مفهوم المواطنة ملتبسا وغامضا، فيبدو لدى البعض كأنها نبتة غربية غريبة، وكلمة دخيلة ووافدة، رغم أن جذور معانيها تعود إلى ظهور الإسلام، وقد تم التنصيص عليها كما هو معروف في quot;وثيقة المدينةquot; التي نظم فيها الرسول (صلى الله عليه وسلم) العلاقة بين المسلمين وغيرهم، كما تنطوي على حقوق وواجبات متبادلة بين الطرفين.
في المغرب ثمة سعي حثيث لنحث نموذج لنظام سياسي يتبنى الديمقراطية والحداثة لأجل هذا الغرض، عرف عدة تحولات سياسية، توج هذا المسلسل من الإصلاحات بتعديلات دستورية هامة، انبثق عنها دستور جديد، صوت الشعب المغربي عليه بنعم في فاتح يوليوز 2011م، وقد اعتبر هذا الدستور من لدن المحللين السياسيين دستورا للحقوق والحريات لما تضمنه من منظومة حقوقية متكاملة، وكذا دسترة لمجموعات من مؤسسات الحكامة الجيدة، تخدم المرجعية الحقوقية التي استند إليها الدستور الجديد، كما أكد الدستور الجديد على تنوع مقومات الهوية الوطنية الموحدة وانصهار كل مكوناتها؛ العربية الإسلامية والأمازيغية والصحراوية الحسانية والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية كما جاء في تصدير هذا الدستور.
كما ألمحنا آنفا، لقد طرحت المواطنة في هذا الدستور الجديد بشكل لا غبار عليه، ليس هناك مجال للتفريق بين المواطنين على أساس الجنس أو الدين أو العرف أو الطبقة. من هذا المنطلق، كيف يمكن أن نتحدث عن المدرسة المواطنة؟
هل يمكن أن يكون طرح مفهوم المواطنة في أبعاده القانونية والاجتماعية كافيا داخل المجتمع لتشكيل وعي بها، ينعكس حقيقة على القيم والسلوكيات؟ يبدو في اعتقادي أن البعد الديني لا يزال غائبا أثناء تناول مبدأ المواطنة قصد تنزيله على أرض الواقع.
إذا كانت المواطنة بمثابة عقد قانوني بين السلطة السياسية وبين أفراد المجتمع، فإن المواطنة كذلك يمكن اعتبارها بمثابة عقد شرعي بين حاكم ومحكوم، ولعل وثيقة المدينة المشار إليها أعلاه، تعد إحدى مقاربات الإسلام لهذا المبدأ؛ أي مبدأ المواطنة.
وفي السياق ذاته، يأتي القول المأثور: quot;حب الأوطان من الإيمانquot;، إن حب الوطن والغيرة عليه، والمحافظة على ممتلكاته، والتضحية والعطاء في سبيل رقيه والتعاون والتضامن بين الأفراد والجماعات من أجل مصلحة الوطن، تعد هذه الأمور من القيم التي حث عليها الإسلام، ومن صميم تعاليم الدين الحنيف، لذلك فالمواطنة تعد إحدى مبادئ الإسلام.

قيم المواطنة في الوسط المدرسي:
المدرسة كوسيط اجتماعي، حسب السوسيولوجين، تلعب دورا محوريا في ترسيخ القيم والمعتقدات والتصورات، وتعد مركزا لتعلم المواطنية، وتقوم بنقل معنى الواجب المقدس تجاه الوطن لدى الناشئة، وتنمي لديهم الاعتزاز بالوطن وحبه والافتخار بأمجاده وتاريخه وثقافته وحضارته ورموزه.
إلى أي قد أفلحت المدرسة المغربية في تنمية حس المواطنة لدى التلميذ المغربي؟
لا تزال المدرسة المغربية أمام مرجعيتين مركزيتين حاضرتين في صلب النظرية والممارسة التربوية؛ فالأولى المرجعية الحداثية التي تشكل حضورا وازنا في الكتابات التربوية، والثانية المرجعية الدينية في بعدها الثقافي التي تحضر كواقع ممارس في الوسط التربوي. أما الهدف من إيراد هذه الإشارة فهو ليس الدعوة إلى انتصار مرجعية على الأخرى، أو الدعوة إلى تأصيل المواطنة دينيا، وإنما لفت الانتباه إلى الهوة التي تحصل أحيانا بين التنظير والتطبيق في تنزيل بعض المفاهيم التربوية الحديثة في مؤسساتنا التعليمية، وكذلك لفت الأنظار إلى أهمية استحضار البعد الثقافي ومدى ثأثيره في الحياة المدرسية وتوجيهه لها بالخصوص.
وإذا كان الهاجس هو بث روح المواطنة في الفضاء المدرسي، فيجب تلقيحه أولا بالقيم الديمقراطية التي يجب أن تسري كفعل يومي في الأسرة والإعلام والمحيط الاجتماعي، فأينما وجدت الديمقراطية فتمة مواطنة وأينما اختفت الديمقراطية فلا مجال للحديث عن المواطنة.
ماهي بعض المؤشرات على وجود أو غياب حس المواطنة في الفضاء المدرسي؟ لنأخذ على سبيل المثال بعض القضايا / مظاهر مرتبطة بالمواطنة في وسطنا المدرسي.
يلاحظ على مستوى السلك التأهيلي غياب الحماس لدى التلاميذ في أداء النشيد الوطني مما يجعلنا نتساءل عن مصدر هذا السلوك، هل يرجع إلى افتقارالتلميذ المغربي لمعارف تتعلق بوطنه وتاريخه وحضارته؟ أم يتعلق الأمر بغياب القدوة للإحتذاء بها في تجسيد سلوكات مواطنة؟
والقدوة التي أشرنا إليها؛ نقصد بها تحديدا الإدارة التربوية وطاقم التدريس، ثم يلاحظ أيضا في كثير من المؤسسات التعليمية وجود ظاهرة التخريب والتدمير، وعدم المحافظة على الأملاك العامة للدولة. بالرغم أن هذه الظاهرة لها علاقة بجوانب متعددة منها مايتعلق بطبيعة المرحلة الحرجة التي يعيشها المتعلم، وتتجلى في شخصية المراهق التي يغلب عليها طابع الرفض والنقد، ومنها ما يتعلق بالوضع الاجتماعي المرير الذي يتجلى في الحرمان والفقر والتهميش. رغم أن الحفاظ على الملكية العامة، يعد إحدى تجليات حب الوطن، ومؤسساته. البعض يعزو هذه الظواهر إلى وجود خلل في التواصل بين الإدارة والتلاميذ، ومؤشرا على وجود قمع وسلطة وعنف يجابهه المتمدرس برد فعل سلبي.
يلاحظ أيضا غياب الأنشطة الموازية بمختلف أنواعها الترفيهية والثتقيفية والرياضية والفنية، هذه المجالات التنشيطية فرصة ثمينة للتربية والتدريب والتمهير على اكتساب معاني المواطنة وتجسيدها واقعيا، فحينما تقوم مؤسسة تعليمية ما بنشاط ثقافي، يجتمع فيه التلاميذ لمناقشة موضوع ما، ويتداولون فيه بكل حرية، وتحترم فيه الآراء المخالفة، فضمنيا ينمي ذلك في المتمدرس احترام حق الآخرين في التعبير والتفكير، وبالتالي احترام الإنسان كيفما كان ومهما دان.
لقد ابتلي الوسط المدرسي في الآونة الأخيرة، بانتشار خطاب التيئيس الذي لا يعترف للوطن بأي إنجازات ولاحسنات، والذي يصور كل المغاربة المسؤولين فاسدون، وكل قطاعات الدولة مقبلة على الإفلاس، واتساع بين الفوارق الإجتماعية، والتهميش والظلم ... فانعكس هذا الخطاب سلبيا على تصورات وسلوكات التلاميذ، فأصبحنا نشهد بشكل متكرر سلوكات لا مدنية، لا تمت بصلة للمدرسة؛ من عنف وعدوان وتدمير وانتقام وغش، هذا الأخير أصبح يعتبره التلميذ حقا من حقوقه، وأي منع له من هذا السلوك، يعد تدميرا لحياته ومستقبله، إضافة إلى عدم الاعتراف بالقانون الداخلي للمؤسسة وتجاهله، وانتهاك حرمة الفضاء المدرسي واللامبالاة والعزوف عن المشاركة بكل أنواعها ...
قد يكون بعض المسؤولين فاسدين، وقد تكون بعض الاختلالات هنا وهناك، لكن لا يبرر كره الوطن ولايسوغ القيام بسلوكات مستهجنة، ولا مدنية تضر بمؤسسات الوطن، فالمواطنة الحقة هي ممارسة اجتماعية تمكن الفرد من الانخراط في خدمة مجتمعه، والمشاركة في تدبير شؤونه، والحفاظ على تماسكه ووحدته الوطنية، وبذلك يتم قطع الطريق على كل فاسد ومفسد، وهذا لا يعني أن الدولة لا تتحمل مسؤوليتها، بل يجب أن تقدم لمواطنيها كل مستلزمات العيش الكريم، والسكن اللائق، والعناية بالصحة والتطبيب، وتضمن له كافة الحقوق.
لقد كان في وقت من الأوقات الشاب المغربي يحلم بمتابعة دراسته بالخارج، لكي يعود لخدمة بلده بتفان، وحب وإخلاص، أما الآن، فأصبح الشاب يتعلم لغات أجنبية من أجل الذهاب إلى دول أوربية خدمة لذلك البلد، ومن هنا، نستحضر ظاهرة هجرة الأدمغة وquot;العقولquot;، فالتلميذ المغربي يتلقى تعليمه في بلده، يكلف الدولة مبالغ هامة، لكن في نهاية المطاف يلتحق ببلد أجنبي يستقر فيه، ويساهم في تنميته تاركا البلد يئن تحت وطأة التخلف، محروما من خيرة طاقاته وكفاءاته.
صحيح، أن المواطنة لكي تترسخ لابد لها من دولة يسود فيها الحق والقانون، ومؤسسات ديمقراطية، قائمة على إرادة شعبية حرة، تجعل الدولة من أولوياتها الأساسية خدمة المواطن والمصلحة المشتركة. أما صلاح وفعالية المدرسة المغربية فهو رهين بشرط الدمقرطة والحكامة الجيدة، التي لا يجب أن تختزل لدى المربي والإداري في قوانين ومذكرات ومساطر، وإنما لابد من توفر مناخ ثقافي سليم، تشارك فيه كل المؤسسات التربوية والاجتماعية والإعلامية والسياسية؛ لأن المواطنة شأن يهم كافة الفاعلين في الوسط المدرسي، وبالموازاة مع ذلك باتت المنظومة التعليمية في حاجة إلى الكشف عن جوانب القصور والمعوقات بصدق وموضوعية، والتي تحول دون شق المنظومة التربوية الحديثة طريقها إلى النجاح، ومواكبة المتغيرات المتسارعة في المجتمع، واستيعابها جيدا. فالمواطن اليوم أصبح ذاتا حقوقية تطالب بكل شيء، رغم أن المواطنة تقوم على ثنائية الحق والواجب، من تم، لابد من معالجة هذا الاختلال اللاتوازني بين جدلية الحق والواجب.