لقد سادت فكرة مفادها أن الالحاد سيكون نصيب هذه البشرية، بعدما استنفدت الافكار الدينية أغراضها، لكن اللافت للنظر أن الفترة الأخيرة تميزت بعودة الدين إلى مسرح الحياة، وبذلك، هيمن الفكر الديني على الحقل السياسي، وهذه العودة اتخذت أشكالا مختلفة ومتنوعة.
لماذا لم تصمد فكرة أن الانسان المعاصر لم يعد بحاجة إلى اله؟
ولماذا لم يتم القطع مع اللامعقول أو عالم الميتافيزيقيا؟
الملاحظ أن كل فترة تاريخية يسيطر فيها فهم معين وتصور محدد quot;للهquot; ينعكس على سلوكات الافراد ومواقفهم وثقافتهم.
بما أننا نعيش ربيع ثورات العرب، هل بإمكان المتتبع لهذا الحراك معرفة ملامح إله هذه الثورات؟ أو ما هو المعنى والتصور الذي حملته الذهنية المنتفضة/ الثورية؟
تختلف التوجهات السياسية والدينية والثقافية للمتظاهرين والمحتجين، لكن أهدافهم واحدة هي إسقاط النظام الاستبدادي، وبناء نظام ديمقراطي، وتختلف أيضا أسباب القوة والحماس ، وكذا التضحية والفداء، التي يستمدها كل فصيل وتوجه من مرجعيته الخاصة.
ثمة فئات تعتقد أن الاله الذي تؤمن به، يكره الظلم والطغيان، ويجازي من يتصدى لذلك، ويمد الجماهير بالعون، بينما فئات أخرى تؤمن بالفعل دون ربط بتعاليم سماوية،
إله سلم المشعل للإنسان، كأنها أعلنت موته، كما قال نيتشه؛ وإن كان لهذه المقولة سيرورة تاريخية تتعلق بالحضارة الغربية؛ التي فكت الارتهان بالوحي الالهي، وقد تعززت هذه الفكرة بعد الثورة الفرنسية؛ حيث أفل الإله الكلاسيكي لصالح قيم جديدة، وتوحد مع الانسان، فأصبح مركز الكون وسيده، لكن سرعان ما جاء فيلسوف آخر يتعلق الامر بميشيل فوكو، فقال بموت الانسان الذي تربع على عرش الكون، فلماذا مات الانسان؟ ربما لأنه تساوى مع الحيوان؛ فصدرت منه أفعال وممارسات وتصرفات لاتطاق ولاتحتمل (الحروب/ الاستعمار/ الابادة / النازية...)
على افتراض وجود هكذا معتقد في منطقتنا العربية، فإن تفسيرات عدة ومعاني جمة تعطى لهذا الموت، فماذا مات حقيقة؟ هل هو الانسان؟ أم القيم؟ أم ماذا؟
غير خاف على أحد أن البلدان العربية لا اعتبار فيها للإنسان والقيم، فالانسان مستلب في أيد طغمة حاكمة متحكمة في البلاد والعباد، الشيىء الذي دفع المواطن، حينما ضاق ذرعا بهذا الوضع، ووصل السيل الزبى؛ فإنه دمر الوسائط، وأزال الحواجز ونزع الخوف الذي ظل جاثما عليه تحت وطأة السلطوية، ولم يعد بين إنسان الثورة وإلهه المستلب في يد وعاظ السلاطين، أو سدنة هياكل الوهم من سلفيين وأصوليين وغيرهم؛ وسائط مؤسساتية، ولا حتى مجتمعية، بل تجسدت في الانسان نفسه(ففي الثورة التونسية، شخص محمد البوعزيزي، وفي الثورة المصرية خالد سعيد...) هذه أيقونات تدل على أن انعطافة تاريخية جديدة في تاريخ العالم العربي، لاريب أنها شيدت معنى جديدا ومفهوما آخر للإله، إذن، لقد أبرز انسان ربيع الثورات العرب؛ إحدى ملامح الاله الجديد؛ إله الربيع الديمقراطي؛ (كما يفضل البعض لاسيما من الامازيغ الذين لا يحبون نسبة ربيع هذه الثورات للعرب فقط، لأن حتى الأمازيغ كان لهم مساهمتم و مشاركتهم، التي لاتنكر) وهي عدالة أكثر، وديمقراطية أكثر، وحرية أكثر، إن حياة بلا هذه الاشياء، حياة بلا طعم ولا مذاق؛ بكلمة حياة بلا معنى، ولعل الاضافة النوعية للدين هو منح الناس معنى لحياتهم؛ والدين ليس بالفهم الذي يجعله البعض شكلا من أشكال الايديولوجيا؛ لأن الدين أرحب من ذلك بكثير، وخير من عبر عن فهم راق له الشيخ الأكبر ابن عربي في قوله:
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طــائف وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجـهت ركائبه فالحب ديني وإيماني

تنتقل البشرية في رحلتها للبحث عن المعنى من مرحلة في التفكير إلى مرحلة قد تكون نقيضة لها أو مكملة، لكن في كلا الحالتين؛ لا يمكن أن تنتج إلا معاني تخدم الانسانية، ولا تدمرها ولا تحتقرها.
ما عاد يحتمل الانسان المعاصر الصورة الوحشية للأديان، والصورة التي تركز على القشور والاوهام والخرافات، والصورة التي تصادر العقل والانسان، والأدهى والأمر حينما يتجسد الدين في مؤسسة، وتلجه جرثومة السياسة على حين غفلة منه، فيتحول الى استبداد ديني الذي يعد أخطر من الاستبداد السياسي، فتصبح عملية التحرر أكثر تعقيدا، وهذا ما جعل الكثير من المفكرين والفلاسفة يتوجسون خيفة منه، ويحذرون منه، ولذلك ظهرت مقولات عدة في وصف الظاهرة الدينية؛ فقال ماركس عنها: إنها وعي زائف للعالم/وأفيون الشعوب/وقال نيتشه بموت الاله / وأفلاطونية مخصصة للشعب/ وقال فرويد مستقبل وهم، وفويرباخ أنتربولوجيا تم تحويلها إلى ثيولوجيا، واعتبرتها المدرسة الوضعية مع أوكست كونت مرحلة من مراحل الفكر الانساني انقضت وتلاشت، وبتأثير من هذه المقولات نحت الحركة اليسارية والتقدمية في الخمسينيات والستينيات ذات المنحى، ونظرت للدين نظرة تشكيكية لامبالية بأدواره، حتى انبعث من رماده من جديد في مطلع السبعينيات ووصل أوجه في الوقت الحالي، لقد حملته الطبقات البئيسة والمضطهدة، وحمله الحكام، وكل فئة تستخدمه وفق غاية محددة.
homo religieux يقال الانسان كائن متدين؛ وان اختلفت تجليات التدين، وتباينت تعابيره في الحياة، تبعا لتنوع البشر واختلافاتهم، قال مطاع الصفدي في إحدى مقالاته حول الثورات العربية quot;الدين لا يزال هو المعبر عن عودة الكتل الجماهيرية إلى عش الهوية التقليدية التي تحس بأنها تختصر شخصيتها المفهومية في عين ذاتها أولا، لكن التدين في عصر الثورة هو الذي عليه أن يتلاءم مع معطيات الثورة وإلا جرفته أمواجها الطاغية..quot;
يلاحظ أن بعض التورات والانتفاضات العربية بدأت بمطالب اجتماعية صرف، ثم انتهت بمطالب سياسية، وهذا يدل أن الانسان يتوق الى ما هو أفضل وأرقى، بحثا عن معنى لحياته. يمكن القول أن الانسان هو الذي يصنع الدين؛ الذي لا يحتقره ولا يكبله؛ و يدفعه الى الامام؛ والتحدي المطروح كيف يجدد إنسان الربيع العربي تصوره وفهمه للإله/الدين في ظل مناخ الحرية التي ينعم بها في هذه اللحظة التاريخية. بنظرنا لن تكون تمثلات هذا الاله الا إلها محبا للحرية والعدالة والديمقراطية والكرامة لجميع الناس بمختلف ألسنتهم وألوانهم ومعتقداتهم.
quot;لو كنا نعيش بالخبز والماء لكانت عيشتنا راضية، ولكن غذاءنا الحقيقي الذي به نحيا ومن أجله نحب الحياة، ليس هو إشباع البطون الجائعة، بل هو إرضاء العقول والقلوب، وعقولنا وقلوبنا لا ترضى إلا بالحريةquot; أحمد لطفي السيد.