تكمن أهمية الحديث عن الدستور المغربي، من جهة، كونه أول تعديل دستوري يتم في عهد حكم العاهل المغربي محمد السادس، منذ اعتلائه العرش سنة 1999م، وهو التعديل السادس في تاريخ المملكة المغربية، ومن جهة أخرى، يتضمن مشروع الدستور الجديد بعض سمات دساتير الدول الديمقراطية.

السياق التاريخي لوثيقة الدستور الجديد:
لم يكن المشهد السياسي بالمغرب عموما، والحزبي خصوصا، منخرطا في صلب النقاش الدستوري، بإستثناء بعض الاحزاب اليسارية التي ترجع الأزمة السياسية للبلاد الى نصوص دستورية تحول دون انتقال الى نظام ديمقراطي حقيقي، أما بعض الهيئات الحزبية الأخرى، فقد انحرطت في مزايدات سياسية أكثر من انحراطها في إجراءات الاصلاح الديمقراطي والسياسي، أما المشهد الاعلامي المغربي فقد انشغل بالحديث عن انتهاكات حقوق الانسان والحريات..لكن التحولات الاقليمية المفاجئة (ثورتي تونس ومصر) أو ما يسمى بالربيع العربي، إضافة إلى رغبة القوى الدولية في إحداث تغييرات في البلدان العربية نحو الدمقرطة، فضلا عن تحرك الشارع المغربي عقب الثورة التونسية؛ والذي تجسد في ما عرف بحركة 20 فبراير التي دشنت جملة من الاحتجاجات رافعة مطالب سياسية واجتماعية وحقوقية، لعل أبرزها المطالبة بدستور ديمقراطي وبملكية برلمانية.
يبدو أن هذه الظروف جعلت النظام المغربي يستوعب الرسالة جيدا، ويفضل خيار التجاوب لا التجاهل لمطالب الشعب، وفي خطوة حكيمة تقرر المؤسسسة الملكية عصرنة ذاتها، لتواكب المستجدات والتحولات العالمية. لقد توج الحراك السياسي والاجتماعي بخطاب تاريخي للملك في 9 مارس/آذار الذي فاجأ الجميع بإعلانه عن محاور للاصلاح الدستوري. مباشرة بعد هذا الخطاب أصبح الكل هيئات حزبية ونقابية وسياسية ومدنية ونخب تتحدث عن نواقص وثغرات الدستور الحالى، وطبيعة التعديلات الملحة التي تجسد أحلام وتطلعات المواطن المغربي.

منهجية إعداد مشروع وثيقة الدستور الجديد:
عين الملك الفقيه الدستوري عبد اللطيف المنوني ليرأس اللجنة الاستشارية لتعديل الدستور، وهي لجنة موسعة مكونة من خبراء مغاربة، وعين الى جانبه رئيس لجنة آلية متابعة عملها مستشاره محمد المعتصم، وقد تسلمت اللجنة مائة مشروع وثيقة دستورية عبارة عن مشاريع ومقترحات لأحزاب سياسية ومركزيات نقابية وهيئات مدنية، وسلمت لهم النسخة النهائية للدستور الجديد يوم الأربعاء 14/06/2011
سبق هذه النسخة النهائية مسودة أولية، تأجج على إثرها نقاش حاد بين الإسلاميين(حزب العدالة والتمية المغربي) و العلمانيين(نخب ومنظمات) كاد أن يعيد المغاربة الى الصراع الذي كان حول خطة إدماج المرأة في التنمية بين مؤيدين ومعارضين لها، قبل أن يتدخل التحكيم الملكي ليحسم الأمر. أما الخلاف المتضمن في المسودة الأولية للدستور تركز حول قضايا تتعلق بهوية الدولة المغربية؛ فالإسلاميون يؤكدون على أن المغرب دولة إسلامية تكفل ممارسة الشعائر الدينية، كما في الدستور الحالي، في حين بعض الأطراف المسماة quot;علمانيةquot; تود أن يكون المغرب دولة علمانية، المواطن فيها له حرية المعتقد، وقد حسم مشروع الدستور الجديد الخلاف بمحافظته على الصيغة المتواجدة بالدستور الحالي ، وإن كان لم يعمق النقاش في هذه النقطة بالذات quot;حرية المعتقدquot;، الشيء الذي يراه البعض انتصارا للإسلاميين، بينما البعض الآخر يراه توظيفا سياسيا ذكيا للإسلاميين من أجل حفاظ النظام على الوضع كما هو.
ونشير أن اللجنة التي عينها الملك كانت مثار تحفظ البعض، خصوصا حزب اليسار الاشتراكي الموحد و مجموعات 20 فبراير، حيث طالبوا بجمعية تأسيسية منتخبة توكل لها مهام التعديل، لذلك أعتبروا مشروع الدستور الجديد بالدستور الممنوح، بينما رأى البعض: مادام أن هناك إلتزام ملكي بتحقيق استشارة على نطاق أوسع تضمن مشاركة الجميع في التعديل، وتكرس الديمقراطية التشاركية، فلا مجال للمطالبة بهكذا لجنة منتخبة.

بين خطاب 9 مارس/آذار و خطاب 17يونيو/حزيران2011:
وجه الملك محمد السادس يوم الجمعة 17يونيو/حزيران خطابه للشعب بشأن التعديلات الدستورية مبرزا الخطوط العريضة لها، حيث سيعرض المشروع للإستفتاء يوم فاتح يوليو/تموز بعد حملة تستمر عشرة أيام(من21يونيو/تموز إلى30منه)، لقد رأى البعض أن مشروع الدستور الجديد لا يختلف عن دستور1996؛ على اعتبار أن بنية النظام السياسي المغربي لم يطالها تغييرا جذريا، ولا يزال الملك يحظى بصلاحيات واسعة، ويحكم ويسود، بيد أن فريقا آخررأى في هذه الاصلاحات الدستورية، ثورة سياسية هادئة، وبمثابة ثورة أخرى للملك والشعب، وخطوة حكيمة quot;غير مسبوقة في العالم الاسلاميquot;، وخطوة في الاتجاه الصحيح، والحسم بين الموقفين سيكون يوم الاستفتاء العام.
صادق المجلس الوزاري برئاسة الملك -وبحضور عباس الفاسي آخر وزير أول في تاريخ المغرب، طبعا بعد التصويت بنعم لهذا الدستور الجديد- على مشروع وثيقة الدستور، ومن المفترض أن تمنح الدولة الحق للمعارضين للدستور للتعبير عن موقفهم الرافض له، في وسائل الاعلام العمومي. وفي السياق ذاته عبرت تنسيقيات 20 فبراير عن رفضهم للمشروع؛ لأنه لم يستجب لمطلبهم الجوهري؛ أي التأسيس لملكية برلمانية على الطراز البريطاني / الإسباني، وقد دعوا للتظاهر يوم الاحد 19/06/2011
وتجدر الإشارة الى أن حركة 20 فبراير الشبابية تدعمها فصائل سياسية معارضة لنظام الحكم في المغرب، أبرزها الفصيل الاسلامي(جماعة العدل والاحسان) وفصيل يساري رديكالي( النهج الديمقراطي) الأول يدعو لخلافة على منهاج النبوة، والثاني يدعو لنظام جمهوري ودولة علمانية.

وقفة سريعة مع وثيقة الدستور الجديد: شكلا ومضمونا:
ورد في الخطاب الملكي ليوم الجمعة 17/يونيو/ حزيران أن الدستور المعروض للاستفتاء من صنع المغاربة ولأجلهم جميعا، وقد أعده قانونيون وخبراء مغاربة(18خبيرا)، على عكس الدساتير السابقة، ويتضمن خليطا بين الطريقة الفرنكفونية/ الفرنسية في إعداد الدستور، وكذا الطريقة الانجلوساكسونية، وتضمن ديباجة/تصديرمطول، إضافة الى زيادة في فصوله من 108 فصل في الدستور الحالي الى180 فصل في الدستور الجديد، كما تم تقسيم الفصل 19 المثير للجدل بين الفاعلين السياسين الى فصلين اثنين41 و42 أحدهما يحدد الصلاحية الدينية للملك، والآخر يحدد الصلاحية السياسية، وذلك لإزالة الخلط والتداخل بين السلطة الدينبة والسلطة السياسية.
كما تم التغاضي عن بعض المصطلحات والكلمات التي كانت تثير اللبس، فبدلا من شخص الملك مقدس (في الدستور الحالي)، الى شخص لا تنتهك حرمته، وللملك واجب التوقير والاحترام، وقد أثارت هذه الكلمة لغطا كثيرا في الصحافة المغربية، أجاب عنه الملك عبر مستشاره حين اجتمع بقادة الاحزاب قائلا: :سيدنا ndash;ويعني الملك- يبلغكم بأنه ملك مواطن والقدسية للهquot;. كما استبدل اسم الوزير الأول بإسم رئيس الحكومة، ومن الحديث عن quot;القضاءquot; بصفة عامة، الى الحديث عن quot;السلطة القضائيةquot; ومن المجلس الدستوري إلى الحديث عن محكمة دستورية.
فيمايلي نعرض بشكل مجمل لبعض التعديلات الواردة في المشروع، على مستوى هوية الدولة، ثمة إقرار بتعدديتها، حيث أن مكونات الهوية المغربية هي العربية- الاسلامية والامازيغية والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإيفريقية و الأندلسية والعبرية والمتوسطية، ونظام الحكم بالمغرب نظام ملكية دستورية برلمانية ديمقراطية واجتماعية، والاسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية...ويعين رئيس الوزراء من الكثلة البرلمانية الفائزة في الانتخابات التشريعية، وإقرار الامازيغية كلغة رسمية الى جانب اللغة العربية، وإحداث مجلس أمنى أعلى برئاسة الملك، وفي الباب المتعلق بالاحكام العامة الفصل 12 وهو فصل جديد يتعلق بالمعارضة والتي ستمثل في أجهزة البرلمان لتقويتها وممارسة دورها الرقابي، وتمت إضافة ثلاثة فصول تتعلق بمغاربة الخارج ؛حيث أصبح من حقهم التصويت والترشح.. إضافة الى دسترة هيئات الحكامة الجيدة، كما حافظ الملك على الثالوث ( الأمن والجيش والدين) وفصل للسلط وغير ذلك من الحقوق المتعارف عليها والحريات العامة...

تساؤلات على هامش وثيقة الدستور الجديد:
- لقد تحدث الملك في خطاب سابق (20غشت/شباط2010) في معرض حديثه عن اللامركزية، أشار إلى ضرورة إعداد الأحزاب لنخب جديدة تقوم بتسير الشأن الجهوي في إطارالإعداد لتطبيقquot; الجهوية الموسعة/ المتقدمةquot;، والسؤال مفاده: ماذا أعدت الأحزاب في هذا الشأن، من ذلك التاريخ إلى الآن؟ المغاربة يدركون جيدا حجم هذه الأحزاب على مستوى بعض الجهات ومشاكلها الداخلية، ووسائل اشتغالها، ومقراتها التي لا تفتح إلا في موسم الانتخابات، فهل للأحزاب من الكفاءات ما يجعلها تقوم بتدبير للشأن الجهوي بحكامة جيدة، الشيء الذي سيجعل تطبيق ما تحدث عنه الدستور الجديد بشأن المجالس الترابية بعيد المنال على المدى المتوسط، ربما في هذا السياق قد نفهم قولة أحد أعضاء لجنة نعديل الدستور محمد الطوزي:quot;عدم أهلية النخب المغربية لملكية برلمانيةquot; رغم أن هذه القولة تنطوي على تجريح، وتنعت المغاربة كأنهم قاصرين.
- وثيقة الدستور الجديد كنص، راقية ومتقدمة عن سابقاتها على مستوى المضمون، لكن التنفيذ والتطبيق والتمثل لنصوصه بشكل صحيح، يعد المشكل الحقيقي في المغرب، فإذا كان النظام المغربي صادقا في رغبته العبور الى عهد جديد ثان؛ فالاختبار الحقيقي له في العمل على تطبيق نصوص الدستور بشكل سليم، وعدم ترك المجال للتأويلات الفاسدة، ولذلك فلا بد من توفر الإرادة السياسية لتفعيل بنوذه على أرض الواقع، قصد العبور إلى مصاف الدول الديمقراطية.
- نجد كثيرا من نصوص الدستور إلى جانبها عبارة؛ quot;وسيصدر قانون منظمquot;؛ quot;لحق من الحقوق أومؤسسة من المؤسساتquot;، وأثبتت التجربة أن بعض القوانين المنظمة قد تتأخر مدة طويلة لكي تصدر، وقد لا تصدر؛ على سبيل المثال، ينص الدستور على ما يلي: quot; حق الاضراب مضمون، ويحدد قانون تنظيمي شروط وكيفيات ممارسته (الفصل29 من المشروع الجديد). مع العلم أن تلك القوانين التنظيمية -وهي كثيرة في مشروع الدستور الجديد- يفترض أن تصدر قبل نهاية الولاية التشريعية الأولى بعد الانتخابات.
- ثمة من يرى بضرورة عرض الأجهزة الأمنية للمحاسبة، وهي غير قائمة، بالرغم من ورود في الباب الأول :أحكام عامة، الفصل الأول من الدستورالجديد quot;...وربط المسؤولية بالمحاسبةquot;، فكل من لديه مسؤولية /سلطة، يجب أن يحاسب، لكن واقع الحال أن الأجهزة الامنية لاتخضع للمحاسبة.
- بالرغم من وجود نصوص في الدستور تعمل على الفصل بين السلط، وتوازنها وتعاونها، والديمقراطية المواطنة و التشاركية، ومبادىء الحكامة الجيدة...حسب ما جاء في الفصل الأول، هل يعد هذا التنصيص كافيا للقضاء على مظاهر الفساد والاستبداد، علما بأن نسق الاستبداد مرتبط بالذهنية الفردية والجماعية، ومرتبط أيضا بتاريخ طويل من السلطوية.
ثمة بعض التحديات المطروحة على الدستور الجديد، لا تنفي غياب التفاعل الايجابي معه، بل يجب أن تكون عاملا محفزا لتغيير العقليات، وانخراط الجميع نخبا ومؤسسات في نقاش هادىء وعميق، ينفذ إلى القضايا المشتركة والمصرية بين كافة المواطنين، ويعمل على المحافظة على المكتسبات التي ناضلت من أجلها أجيال، ولا تزال.