لقد تشكلت حول الجسد تشكيلة كبرى من الأخيولات والتصورات عبر تاريخ الثقافات الإنسانية، كما تأسست حوله نظم معرفية متنوعة، إما لتحديد ممارساته على مستوى الطقوس أو تقنين أفعاله. فالجسد كان وما زال الموئل الدائم لكل التجارب والرغبات والأماني، ولا يمكن أن توجد قيمة من القيم إلا من خلاله. لكن الجنس يبقى أهم حقائقه، فالجنسانية هي التي استطاعت اختراقه طولا وعرضا وعمقا وحضورا أو غيابا.
وبتتبعنا لمنتوج القدماء نلاحظ أن الجسد كان حاضرا بقوة بمختلف تجلياته. وهذا الانفتاح الذي تميزوا به، لم يكن مقتصرا على المتعة التي مارسوها على أجسادهم، بل تم تحويلها من موضوع استهلاكي إلى موضوع تأملي، أي لم يعد الجسد مجرد حقيقة فيزيائية بل أضفي عليه أكثر من تصور وقيمة اعتباريين عبر الارتقاء به إلى مستوى الخطاب بإعادته إلى نسق الثقافة بعد أن ظل موضوعة محورية في الطبيعة. في مقابل هذا الانفتاح كان ثمة من يدعو إلى الانغلاق والنزوح صوب الخارج والتعتيم على الجسد بدعوى الارتقاء والطهرانية، رغم أن كل سلوكيات اليومي تفضح نزوع الإنسان وتوقه إلى المقموع والمحظور.
وشأن العرب قديما في هذا المجال كشأن غيرهم من الثقافات الإنسانية الأخرى (حضارات بلاد الرافدين، حضارة النيل) حيث نلاحظ غزارة الجنس وتجدره في حياتهم، بحيث تظهر لنا مجموعة من النصوص التراثية مصادمة ومغايرة لما تضمنه الإسلام في نصوصه الكبرى (القرآن، السنة النبوية)، مما ولد مفارقة غريبة في الثقافة العربية الإسلامية، لعل أهم نتائجها، هذا الكم الهائل من المدونات التي تخص الجسد المعتبر ممنوعا، فلماذا هذا الاحتفاء بالجسد والجنسانية رغم كل الحظر الذي مورس من طرف السلطة الدينية ؟
لقد كانت النظرة للجنس قديما ثقافية، وليس كحالة للطبيعة، ويتضح ذلك من خلال العديد من النصوص التي احتفت بالجسد والجنسانية / الايروتيك ؛ حيث نجد أغلبها ضمن المحظور والمحرم الاطلاع عليه، ووسمت النصوص المعبرة عن ذلك من لدن الفئات المحافظة والمناهضة بالسفيهة والفضائحية، وكان من نتائج هذا الموقف؛ quot;ثقافة الإيروتيكّquot; في التراث العربي الاسلامي التهميش والقمع دينيا واجتماعيا وسياسيا، وما سمحت به السلطة الدينية والسياسية حول quot;الجنسquot; كان مؤطرا بجملة من الضوابط والضواغط للحؤول دون أنسنته وجعله- كما أشرنا آنفا- موضوعة ثقافية بإمتياز تحتاج إلى تأمل وتقليب النظر فيها.
اللافت للانتباه أن تجد المؤسسة الدينية -وبعض الفقهاء والعلماء- لا تفضل الخوض في مواضيع الجنسانية/الباه/ الايروتيك علانية دون حرج، رغم أنه لا حياء في الدين كما يقولون، لاشك أن العوامل الثقافية والسياسية والرقابية والمجتمعية تحول دون تحويل موضوعة الجنس من دائرة المحظور؛ اللامفكر فيه الى دائرة المطلوب الحديث فيه/ المفكر فيه- بحسب التعبير الأركوني- كما أن من مصلحتها الحفاظ على التربية والوعي الدينيين اللذان تشكلا وفق ثقافة الفقه، وتأطرا بنهج الموانع، وتسيجا بسلاح الضوابط والضواغط، لذلك بات من أوجب الواجبات - بنظرهم- التعامل مع التراث الاسلامي بإنتقائية حسب ما يناسب المؤسسة الدينية الرسمية، ويحفظ دين الأفراد وتدينهم من الانهيار.
لكي لا تشغلنا قضايا متفرعة ذات علاقة بالموضوع، نتوقف سريعا عند مفهوم الايروتيكية وهي كلمة ليست عربية، وفي ترجمتها قيل حولها الكثير، قيل شهوانية، وقيل جنسانية، وقيل بورنية(نسبة للفظ الهندو-أوربي) وقيل ثقافة تعرية، وقيل جسدية، وخلاعة، وخليعة... وقيل الإيروسية بمعنى الشهوة (للمزيد حول الموضوع ينظرمجلة ألواح العدد8سنة2000 عنوان العدد الايروتيكية) وقال العرب قديما الباه، وعلم الباه وهو كبقية العلوم له أهميته وأثره البالغ في الحياة. لكن في عصرنا الحالي لا تزال الإيروتيكية أو الحنسانية أو علم الباه حقلا مجهولا لدى الكثيرين، وإن كان حجم التداول في السر كبيرا، رغم أن أهم كتب التراث تضمنت بعض القضايا والفصول حول هذا العلم؛ من قبيل كتاب: الأغاني، الحيوان،البيان والتبين، ألف ليلية وليلة، طوق الحمامة، العقد الفريد.... فضلا عن الكتب الدينية التي تضم في بعض أبوابها مسائل النكاح وآداب الجماع... ومما زاد في طمر واندراس هذا العلم الخوف الشديد لدور النشر في بلداننا من إصدار مثل هكذا كتب، رغم هذه العوامل، فإن الله قيض لهذا العلم رجالا لإحيائه وبعثه من مرقده، من أمثال: صلاح الدين المنجد، عبد الكبير الخطيبي، عبود الشالجي، جمال جمعة -الشاعر العراقي والباحث في التراث العربي الذي حقق العديد من المخطوطات الإيروتيكية- وغيرهم، و نذكر منها: quot;نزهة الألباب بما لايوجد في كتابquot; للتيفاشي، quot;الروض العاطرquot; للنفزاوي...، وكذلك لا ننسى مجهودات المحدثين الذين أثروا الخزانة في هذا المجال كالباحث السوري إبراهيم محمود؛ له كتاب بعنوان quot;الجنس في القرآنquot;....، والدكتور عبد الوهاب بوحديبة صاحب كتاب quot;الجنسانية في الاسلامquot; المترجم من الفرنسية الى العربية عن دار سراس التونسية، وهي ترجمة شرعية، أما الترجمة التي صدرت بعنوان الجنس في الاسلام؛ فإن صاحبها يتبرأ منها.
ومن كتب التراث الإسلامي نجد كتب: quot;رجوع الشيخ الى صباه في القوة على الباهquot; لابن كمال باشا، وللسيوطي quot;شقائق الاترنج في دقائق الغنجquot; تحقيق عاذل العامل، و quot;نواضر الأيك في معرفة النيكquot;، وكذا quot;الوشاح في فوائد النكاحquot; تحقيق طلعت حسن عبد القوي، ثم quot;أسرار الجماع عند الرجال والنساءquot; تصنيف أبو سيف الكندي، الجاحظ، ابن سينا، تحقيق فريد المزيدي. وقد اعتبر هذا الكتاب من لدن البعض، أنه يتمتع بمواصفات تحقيق رديئة، وكانت طبعة بمقاييس الربح التجاري. ثم نجد كتاب quot;الجنس في أعمال الإمام جلال الدين السيوطيquot;، دراسة وتحقيق حسن أحمد جغام، وquot;تحفة العروس ونزهة النفوسquot; للتيجاني....
والملاحظ أن من دون في هذا العلم، أغلبهم من الشيوخ والفقهاء والعلماء، حيث تطرقوا لمواضيع عدة وبشكل مفصل دون تحرج، بخلاف الفقهاء المعاصرين الذين منعوا الخوض في أمور الجنس، وأمر بعضهم بحرق وتحريم النظر في مؤلفات الباه.
هذا فيض من غيض فيما يخص النصوص النثرية، أما النصوص الشعرية فأبرزها quot;النصوص المحرمةquot; لأبي نؤاس، تحقيق جمال جمعة؛ الصادر عن رياض الريس، وquot;ديوان أبي حكيمة: في الأيرياتquot; لراشد بن اسحاق الكاتب المتوفى 240 ه) تحقيق محمد حسين الأعرجي حيث يتمحور الديوان حول فكرة مركزية هي رثاء عضوه الجنسي بعدما أصيب بالعجز الجنسي. وكتاب quot;ثلاثة نصوص في الجنسquot; للسيوطي، دراسة وتحقيق أبوحسان الماجد، ويتضمن قصيدة quot;الزنجبيل القاطع في وطىء ذات البراقعquot;....
ولاندعي أننا أوردنا كل عناوين النصوص المتعلقة بموضوع الإيروتيك في التراث الاسلامي، فهذا عمل يحتاج الى جهود وبحوث، وحسبنا أننا أثرنا موضوعة الجنسانية في الإسلام للنقاش والتداول فيها انطلاقا من هذا الإرث الذي تركه لنا الأجداد والأسلاف، وفي ضوء المعطيات المعاصرة للمدارس الفلسفية المختلفة في هذا المجال.