إن الفكر الإسلامي والعقلية العربية الإسلامية مرت بمراحل، كان أولها مرحلة الفتح الإسلامي والتأسيس، والسؤال الذي طرح في تلك الفترة يتعلق بالعبادات والمعاملات والعظات، ولم تبدأ الأسئلة الكبرى إلا في الفترة العباسية حيث اختلطت بالأسئلة الوافدة من الثقافة اليونانية وحضارة الفرس والصين، ولكن لم تكتمل الإجابة عنها؛ لتعرض الحضارة العربية وقتها للانهيار تحت ضربات الأفرنجة والمغول والتتار، وبعدها انبعث الصراع السياسي، وبرزت الدويلات والمماليك، ولم تنجز الإجابات عن الأسئلة الكبرى... بعد هذا الركام الذي انتهى بسيطرة الأتراك وتوسع إمبراطوريتهم في العالم العربي باستثناء المغرب وقسم من أوربا، إلى أن انهارت الخلافة العثمانية عام 1924م، بعدها سيعود المثقف العربي لطرح أسئلته القديمة وتنضاف إليها تساؤلات جديدة تحت تأثير الصدمة الأوربية حول قضايا تحرير المرأة، وحقوق الإنسان والحريات، والنظام السياسي، والدستور والديمقراطية... هذه القضايا والموضوعات هي الأخرى لم تجد طريقها إلى النفاذ إلى بنية المجتمع العربي الفكرية والاجتماعية تبنيا واستيعابا وممارسة، نتيجة تعرض جل الدول العربية لحكم الأنظمة العسكرية الاستبدادية، ومع توالي الهزائم العربية أمام الكيان الصهيوني، وعجز النخب الفكرية والسياسية أمام هذا الوضع وانكسار المشاريع الفكرية التي طرحت خلال هذه الفترة، حيث اجتاح الفكر الغربي لهذه الدول فاهتزت منظومتها التقليدية ، ومما زاد في تخلفها ونكوصها وارتدادها التطور الحاصل في مجال الاتصالات والتكنولوجيا والتقانة؛ فتعاظمت القضايا والإشكالات وتوالت الأوجاع والضربات نتيجة رياح الحداثة ومحمولاتها في بنية المجتمع وثقافته، وساهمت الحركات الاجتماعية والمنظمات السياسية في ترسيخ حالة التردي والجمود، بدليل سقوط شعاراتها ومقولاتها التي ظلت تنادي بها، فضلا عن تراجعها أفقيا، واهتزاز منظومتها المعرفية والسلوكية، فتمت مواراة الثرى عن فكر بدايات النهضة، وإجهاض أسئلتها الجوهرية فانبعثت أسئلة أخرى على الهامش إلى جانب الأسئلة الكبرى، التي ظلت مطروحة ومعلقة دون مقاربة علمية ومنهجية، وأُنْسِينَا أن كل مرحلة فكرية تطرح أسئلتها النوعية المالكة لمصداقية تاريخية ومعرفية ملائمة.
لقد مضى زمن طويل، وبقيت الأسئلة هي ذاتها، فإما أنها زائفة وبالتالي لا معنى لها، ولا جواب لها، وإما أن الواقع راكد لم يوفر أجوبة لها، وهذا لا يستقيم مع صيرورة التاريخ، لأن ثمة علاقة وطيدة بين الإمكانية /الممكن والتاريخ، فلا نستطيع أن نطرح أسئلة إذا لم تكن لها إمكانية واقعية وناجمة عن جدل مع الواقع، والسؤال هنا: هل واقعنا قابل لأن يكون كما يجب أن يكون؟
بدأ المثقف العربي والإسلامي يطرح أسئلة أخرى خارج سياق المجتمع وغير نابعة منه، وتم الاكتفاء بما هو جاهز ومعد من أجوبة فكرية تعود للفترات السالفة من العصور، فأضحت ثقافة الجواب النهائي والمعد على مقاس طلابه، هو السائد بدلا من التفكير والنظر والتأمل، وتحريك المصموت عنه واللامفكر فيه في تراثنا، فلم تعد نخبنا المثقفة منشغلة بهموم المجتمع والإنسان وقضاياه المصيرية، وانتظاراته وأحلامه الطبيعية، فإما أن هذه النخب انسحبت مكرهة أو مختارة، وارتمت في أحضان السلطة تقتات على موائدها، أو وضعت يدها في يد السياسي تبرر أعماله ومواقفه، حين توارى المثقف العضوي بشكل ممنهج، بعدما أقصي وهمش، بقيت الساحة الثقافية خالية ممن يطرح الأسئلة وأشكلتها، ويستدعي القضايا المستحيل التفكير فيها ويجعلها في دائرة المفكر فيه، فأصبحت أجيال ونخب المجتمعات المتخلفة عن ركب الحضارة، تتلقى وتستقبل سلبيا الإجابات وتنتظرها بين الحين والآخر، ونشأ في ظل هذا المناخ جيل من الشباب المتعلم والمثقف محبطا ويائسا ومتنكرا لكل شيء لا تشده روابط ولا تربطه جذور، فضمر الإبداع والابتكار والإنتاج والاجتهاد العلمي والنظري، بغياب ثقافة التساؤل/السؤال، في مقابل ذلك، تعاظمت الرؤى الرافضة لكل شيء لا تريد الخضوع لمنطق التساؤلات التي ينتجها زمن الحداثة، فكانت النتيجة الانغلاق والنكوص إلى الماضي.
يقول مارتن هايدجر: quot;أن تكون قادرا على طرح السؤال فهذا يعني أن تكون مستعدا لانتظار الإجابة العمر كله.

[email protected]