الحلقة الاولى

الحلقة الثانية

ابن بختيشوع

خضوع بلاد الرافدين للدولة العربية الإسلامية:
كان للصراع الدائر بين الروم والفرس دور في كره السريان ويأسهم من كلتا الدولتين، فكانوا يطمحون للتخلص من استبدادهم الاثنتين بأية وسيلة كانت، لذا رحبوا بالجيوش العربية الإسلامية عام637 م في بلاد الرافدين سواء السريان الشرقيين أم الغربيين أملا في بزوغ فجر الحرية، وقد حصلوا فعلا على عهود بالأمان من القادة والخلفاء العرب المسلمين.وانضم مسيحيون سريان إلى الإسلام من طي، وتكارتة، في وسط وجنوب بلاد الرافدين، طمعا بالمغانم أو تهربا من ويلات بعض رجال الدين أو بسبب عجزهم عن دفع الجزية التي كانت تفرض على غير المسلمين كضريبة حماية.
يقول المؤرخ جورج البناء في كتابه عن بطاركة الكلدان: quot; ظهر الإسلام في زمن البطريرك ايشو عياب الجدالي (630- 647م )، فأرسل هدايا إلى النبي محمد ومن جملتها ألف أستار فضة مع جبرائيل أسقف ميشان، وكاتبه وسأله الإحسان الى المسيحيين، فاستقبله النبي بكل ترحاب وأرسل معه هدايا إلى البطريرك ومنها عدد من الإبل وثياب عدنية وعهودا إلى كافة خلفائه توصية للمسيحيين في كافة أنحاء الدولة الإسلامية. كان المسلمون إذا أرادوا أن يفتحوا بلدا وجب عليهم أن يدعو أهله إلى الدخول إلى الإسلام، فان اسلموا كانوا وسائر المسلمين سواء، وان لم يسلموا دعوهم إلى أن يسلمّوا بلادهم للمسلمين ويبقوا على دينهم ويدفعوا الجزية، فان قبلوا ذلك كان لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم وكانوا في ذمة المسلمين يحمونهم ويدافعون عنهم ولهذا يسمون ( أهل الذمة )، وان لم يقبلوا الإسلام ولا الدخول تحت حكمه ودفع الجزية، أعلنت عليهم الحرب وقوتلوا quot; (الموسوعة الكلدانية، سلسلة بطاركة الكلدان، ص 71).


مركزية العراق الاسلامية من خلال الحيرة
ويتابع المؤرخ البنا قوله: quot; وعندما دخل العرب المسلمون الفاتحون العراق رحب بهم المسيحيون ترحيبا لا مزيد عليه، لأنهم عرب وملوا حكم وظلم الفرس. وانزلوا جنودهم في البيع والأديرة. وقدم البطريرك مار امة ( 647- 749 م) الميرة والأرزاق إلى جيش المسلمين، وساعدهم في فتح مدينة الموصل، فأرسل إليه الخليفة علي بن أبي طالب (ع) كتاب توصية له والى رعيته، ولا عجب في ذلك إذا لم تكن للمسيحيين مطامع سياسية، وقد تطوع قسم كثير من عرب العراق المسيحيين وحاربوا مع إخوانهم المسلمين وعاونوهم في معارك فتح العراق، وكان لسكان الحيرة المسيحيين دورا كبيرا في مؤازرة إخوانهم العرب المسلمين واتخذ الفاتحون مدينة الحيرة لحركاتهم، وتركوا فيها عيالات أهل الأيام وأرسلوا إليهم دقيقا وغنما وبقرا.. وبقيت المسيحية بين قبائل عرب العراق زمنا بعد الفتح في الحيرة والكوفة والانبار quot; (المصدر نفسه، ص 72 ). ويسجل روفائيل بابو اسحق انه عندما دخل خالد بن الوليد إلى الحيرة قدم معاهدة إلى أهلها وهذا مطلعها: هذا ما عاهد عليه خالد بن الوليد عديا وعمرا ابني عدي وعمرو بن عبد المسيح وإياس بن قبيصة وحيري بن آكال. ومنها عهد عمر بن الخطاب أمير المؤمنين لمسيحيي المدائن والى الجاثليق وقسانها وشمامشتها جعله عهدا مرعيا وسجلا منشورا وسنة ماضية فيهم وذمة محفوظة لهم.. ومما جاء فيه: quot; ولا يغير لكم أسقف من اساقفتكم ولا رئيس من رؤسائكم ولا يهدم بيت من بيوت صلواتكم ولا بيعة من بيعكم، ولا يدخل شيء من بنائكم إلى بناء المساجد ولا منازل المسلمين ولا يعرض لعابر سبيل منكم في أقطار الأرض، ولا تكلفوا الخروج مع المسلمين إلى عدوهم لملاقاة الحرب. ولا يجبر أحد ممن كان على ملة المسيحيين على الإسلام كرها quot; ( المصدر نفسه، ص 72-73).
وكتب المار غريغوريوس صليبا شمعون مطران الموصل وتوابعها في بحثه الموسوم: quot; علاقة البطاركة والمفارنة بالخلفاء العباسيين quot; قائلا: quot; لقد رحب السريان بالعرب الفاتحين معتبرين إياهم محررين لا غزاة، لأن طابع الفتح كان دينياً وفكرياً وسلمياً، وقد مارس رؤساء الكنيسة مسؤولياتهم من منطلق قول السيد المسيح: laquo;كونوا حكماء كالحيات وودعاء كالحمامraquo; (مت 10: 16). ولما جاء العباسيون نحو سنة 750م كانت كلمة laquo;فاروقraquo; التي أطلقها السريان على الخليفة عمر بن الخطاب، مازالت متداولة تراود أذهانهم كما كان لماروثا مفريان تكريت (628ـ649)، الذي تميز بالحكمة وبعد النظر اليد الطولى في فتح أبواب تكريت أمام الفاتحين حاقناً بذلك الدماء quot;.


العهود والضمانات التي منحها المسلمون للمسيحيين

المناذرة والغساسنة
نعم، لقد منحهم الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ( رض ) حرية إقامة الشعائر الدينية والاحتفالات وترميم الكنائس والأديرة وإعفائها من الجزية وتعهد بحماية ديارهم، ضمن العهود والضمانات التي أعطاها المسلمون للمسيحيين. دعوني أتوقف عند تلك العهود والمواثيق، كما جاءت نصوصها في المصادر المسيحية القديمة والحديثة، ومنها تاريخ السعرتي وتاريخ الكنيسة السريانية الشرقية ن الجزء 2،وكتاب خلاصة تاريخية للكنيسة الكلدانية للكاردينال اوجين تسران وكتاب كنيسة المشرق الكلدانية الاثورية للأب الدكتور يوسف حبي وكتاب سلسلة بطاركة الكلدان للمؤرخ جورج البناء.. وغيرها. فما هي تلك العهود والضمانات؟
1/ كتاب أمان من الله ورسوله الى المسيحيين في نجران، وقد ورد نص هذا الكتاب في التاريخ السعرتي.
2/ كتاب النبي محمد (ص) إلى ايشوعياب الجدالي وردت إشارة إليه في مجدل صليبا، وان مضمونه مطابق لما نص عليه كتابه إلى النجرانيين.
3/ لقد اخرج الخليفة عمر بن الخطاب كل من اليهود والمسيحيين وأجلاهم إلى خارج الجزيرة العربية نحو بلاد الشام والعراق. وعليه، فقد بقيت الجزيرة العربية للمسلمين فقط!
4/ لم يفرض الخليفة عمر بن الخطاب الإسلام فرضا على عرب نجران المسيحيين، بل اكتفى بنقلهم إلى العراق، بعد أن أعطاهم كتاب ضمان ووهبهم أطيان وأراضي مقابل أراضيهم التي كانت ملكا لهم في نجران.
5/ ولما كان العرب المسلمون يقاتلون الفرس الساسانيين، كانت إلى جانبهم قبائل عربية مسيحية تقاتل معهم ضد الساسانيين، وكانت لهم حصتهم من غنائم الحرب.
6/ يعزى السبب في وقوف المسيحيين العراقيين إلى جانب الفاتحين المسلمين، واستقبالهم لهم، إنهم كانوا مضطهدين اضطهادا شديدا من قبل الساسانيين، فوجدوا في العرب مخلصين لهم ومحررين لهم من الظلم والتعسف والاضطهاد.. فضلا عن معاملة العرب لهم بالحسنى والتعهد بحمايتهم ودمائهم وأعراضهم وأملاكهم وأرزاقهم.
لما قارنت كل من الروايات الإسلامية والمسيحية حول مسألة الضمانات والعهود الممنوحة من قبل المسلمين للمسيحيين، وجدتها متشابهة إلى حد كبير في المصادر الإسلامية والمسيحية معا، وتدور كلتاهما حول المحاور الأساسية التالية:
ان المسلمين يحمون المسيحيين ويجعلونهم يعيشون بسلام. ولا يضطرونهم للذهاب إلى الحرب بمعيتهم، كما يضمنون لهم حرية العبادة وبناء الكنائس والأديرة وإصلاحها.. ولا يقسرونهم على اعتناق الإسلام، بل ويحترمون شرائعهم وعاداتهم وتقاليدهم.

الاستجابة المسيحية
لقد جاء في تقويم بطريركية بابل الكلدانية سواء في ما يخص تاريخ الكنيسة أم البطاركة أن كنيسة المشرق عانت من اشد المحن على العهد الساساني الأخير، وكان المسيحيون ينتظرون الفرج والاستقرار، وما أن لاحت بيارق العرب المسلمين، حتى انضمت إليهم القبائل العربية المسيحية من مناذرة الحيرة وغيرها، وحاربوا جنبا إلى جنب مع العرب ضد عدوهم المشترك، وافلحوا في اقتحام هذه المملكة ودحرها في معركة القادسية، واستقبل المسيحيون هذا النصر بابتهاج وارتياح لثلاثة أسباب رئيسية:
1) إنهم ملّوا من ظلم الساسانيين واضطهادهم المتلاحق للمسيحيين.
2) ولأن لغة العرب الفاتحين متقاربة من لغتهم السريانية، بل تنتمي كلتاهما إلى عائلة واحدة هي الآرامية.
3) ولأن الفاتحين كانوا على الإيمان بالله الواحد، عكس الفرس المزديين..
تقول الرواية المسيحية القديمة انه عند فتح المسلمين لمدينة الموصل حمل مارامه الارزني المتوفى سنة 649 م الميرة والأرزاق إلى جنود المسلمين، وساعد رئيسهم عبد الله بن المعتم على الفتح، وكتب له الخليفة علي بن أبي طالب (ع) كتاب توصية بالمسيحيين ورعاية ذمتهم. وكان الخليفة عمر من قبله قد وقّع على العهدة العمرية، وهي وثيقة لحفظ حياة المسيحيين ودمائهم وأعراضهم وأملاكهم وأرزاقهم في ذمة المسلمين شريطة دفع جزية وهي ضريبة لبيت المال مقابل ذلك، وهي وثيقة تاريخية أشاد بها كل المسيحيين العرب والأوربيين كونها تضمنت عهدا حضاريا راقيا بين أصحاب ديانتين سماويتين كما يقول المؤرخ ألبرت حوراني.. وتضيف المصادر الإسلامية حقوقا أخرى للمسيحيين، إذ يتم الاستفادة من الخدمات العامة كالمعالجة في البيمارستانات (= المستشفيات ) سواسية مع المسلمين، ورعاية الخيول والأنعام في المراعي العامة، ويحق لهم اللجوء إلى القضاء الإسلامي إذا تعرضوا إلى أي ظلم، ويحق لهم الإقامة والتنقل في كل أرجاء الدولة باستثناء مكة والمدينة، ولهم حق ممارسة التجارة والعمل في أي مكان باستثناء مكة والمدينة، ولهم حق العبادة وإقامة الشعائر والتكهن والدراسة والرهبنة في كل مكان من أرجاء الدولة.. وعليهم ألا يخالفوا تعاليم الإسلام كبيع الخنزير والخمر، ولكن في مدنهم وقراهم لهم الحق في ممارسة ذلك.. ويخضعون لممارسة قوانينهم في ما يخص جوانب حياتهم ولا تنطبق عليهم أحكام الإسلام، إلا ما يخص المعاملات المدنية والمواد الزجرية كالقتل والزنا وارتكاب المعاصي...

المسيحيون على العهد الاموي
أما في العهد الأموي، فلقد بقي المسيحيون على حرياتهم، ووجدوا ضالتهم في انتعاش حياتهم، ووصولها إلى مرتبة الرفاهية، وبرز العديد من الأدباء والشعراء من بينهم، بل وان العديد من الخلفاء الأمويين اعتمدوا على العديد من المسيحيين في تصريف شؤون الدولة مترامية الأطراف، وكانت بعض زوجات الخلفاء مسيحيات، كما تأسست العديد من الكنائس والأديرة في أصقاع متعددة من الدولة، ومنها في العراق ( أكّد ذلك الكاتب المشهور يوحنا بن فنكايي كما ورد في تاريخ الكلدان، ص 101 ) وكانوا يحتفلون بأعيادهم ويمارسون عباداتهم وطقوسهم بحرية كاملة، ولهم محاكمهم الخاصة ( نصارى العراق لروفائيل بابو اسحق، ص 60 ).. وتحولت الصراعات الدينية المعقدة في المسيحية نفسها إلى جداليات فكرية وحوارات رائعة بعد ان بلغت أقصى مداها في القرنين السابع والثامن الميلاديين، وكان قد حضر مجمع القسطنطينية خمسة من اكبر المطارنة على العهد الأموي من الشام.. وانبثق عن تلك الحوارات التي مورست بأقصى درجة من الحرية المناظرة التاريخية المشهورة بين خالد بن يزيد بن معاوية ويوحنا الدمشقي وثيودور ابو قرة وبولص الانطاكي.. ويعتبر يوحنا الدمشقي من أكابر المفكرين العقلانيين الذين ابدوا آراءهم بكل حرية عهد ذاك. وكان من نتائج ذلك الجدل العقائدي الذي دار بين المسلمين والمسيحيين بحرية كاملة نشوء بعض الفرق والحركات الدينية والفكرية.. وبالرغم من ذلك فقد حدث أن نهى الخليفة عمر بن عبد العزيز عن دق النواقيس وعدم الترتيل بصوت عال، علما بأنه كان يمنحهم المال من بيت مال المسلمين كما اصدر الخليفة يزيد بن عبد الملك سنة 120هـ أوامره بتكسير الأصنام والإيقونات والصور.. وبذلك جرت مخالفات واضحة لما سّن من عقود ومواثيق وكانت هذه محصورة بسياسة هذا الخليفة فقط، أما بقية الخلفاء، فكانوا على علاقة قوية بالمسيحيين من خلال رعايتهم لهم.. كان يزيد بن معاوية من أم مسيحية، وكان الوليد بن عبد الملك يتفقدهم حتى في المستشفيات.. وكانت روح التسامح والالفة قد سادت في المجتمع من دون أن يحدث ما يسئ أبدا، وكان التعايش السلمي على أفضل ما يكون، اذ كثرت الزيجات منهم.. ويسجّل المؤرخ الطبري بأن حياتهم الاقتصادية كانت قوية وتمتعوا برفاهية عالية، ولم يدفعوا الجزية في كثير من الأحيان لكثرة الأموال وحقق قسم منهم ثروات طائلة.. وحظيت الثقافة العربية بنصيب كبير من إبداعاتهم، وعلى رأسهم الشاعر الأخطل الذي كانت له مكانته السامية في البلاط الأموي، برفقة رعيل كبير من العلماء والأدباء والمثقفين والمثقفات.. كما أسندت الدولة وظائف ومناصب عليا إلى العديد من المسيحيين ( راجع ما كتبه كل من المؤرخين فيليب حتى والبرت حوراني وعزيز عطية وغيرهم ).

المسيحيون في العصور العباسية

بيت الحكمة ببغداد
تشير السجلات المسيحية أن ثمة حالة صعبة مرت إبان فترة انتقال الحكم من الأمويين إلى العباسيين سنة 750م، إذ كان المفريان بولص يجلس على كرسي المفريانية في تكريت، وكانت له علاقات وثيقة مع قادة المسلمين من جانب، ومع جاثليق كنيسة المشرق القديمة من جانب آخر. لقد سجل المؤرخ الرهاوي المجهول صورة سلبية عاشتها الكنيسة عن بداية العهد العباسي وبخاصة في عهد الخليفة أبي جعفر المنصور، بسبب اختلال العلاقة بين الكنيسة ونظام الحكم أولا، وبسبب الاضطراب الكنسي حول كرسي البطريركية ثانيا، وبسبب التحّول التاريخي من حكم الأمويين إلى العباسيين ثالثا، وبسبب تدخل أبو جعفر المنصور في شؤون بعض البطاركة وحبسهم رابعا.. إذ لم تنفرج الحالة، إلا بعد وصول ابنه المهدي إلى الحكم، فأخذت تباشير السلام تلوح في سماء الكنيسة.. وتشير المصادر المسيحية إلى أن الخلفاء العباسيين وجدوا في الأديرة المسيحية مكاناً هادئاً يصلح للاستجمام والراحة والابتعاد عن مشكلات الإدارة والسياسة والحكم، فغدت مكانتها سامية ورفيعة لديهم، باعتبارها منتجعات لهم، وكانوا ينفحونها بالهدايا الثمينة، ويتعاملون مع المطارنة بصداقة عالية المستوى، ويصغون بإرتياح إلى أحاديث الرهبان. وتقول إحدى الروايات أن الخليفة هارون الرشيد اعتاد أن يزور مدرسة دير مار زكا في طريقه إلى الرقة، وهو يسلك الطريق الصحراوي الذي يصل بين بغداد والرقة، فكان يقضي وقتاً ممتعاً هناك بعيداً عن متاعب البلاط، ويتبادل الأحاديث مع رئيس الدير وسكانه، فتكونت لديه صورة لامعة عن الكنيسة السريانية الأرثوذكسية وتقاليدها وحياتها الروحية، خصوصا وانه كان يعشق السفر..
أما الخليفة المهدي، فيروى عنه سنة 770م انه حسم في زيارته الموصل شكوى قدمت إليه بخصوص كنيسة مار توما التاريخية وهي أقدم كنيسة مسيحية في الموصل، ومفادها أن خلافاً نشب حول قطعة أرض مجاورة للكنيسة أدعى ملكيتها كلٌّ من المسيحيين والمسلمين، ولما لم يتوصل الطرفان إلى حل، رفعت القضية إلى الخليفة المهدي في الموصل، فأصدر قراراً بإعطاء 400 ذراع من الأرض المتنازع عليها للمسجد المجاور للكنيسة والبقية وهي المساحة الأكبر لكنيسة مار توما.
ويعد عهد الخليفة المأمون هو الأكثر انفتاحاً وتسامحاً، إذ تبنّى الرجل سياسة المساواة نسجاً على منوال والده، واهتم بشكل كبير بالناحية الثقافية والعلمية والحضارية من خلال مؤسسة كبرى عرفت باسم laquo;بيت الحكمةraquo; التي طارت شهرتها في الآفاق بفضل المأمون، وكانت محتشدة بالعلماء والمترجمين وطلبة العلم وزخرت بالإبداعات الكبرى على أيدي العلماء السريان، ولم يكن ينظر عصر ذاك إلى دينهم أو جنسهم أو طائفتهم. وكانت علاقة المأمون كبيرة بالبطاركة جميعا، وخصوصا البطريرك التلمحري الذي أعجب بشخصيته وقيادته وكلفه بمهمات خطيرة نجح في حسمها، وخصوصا عند تحدث مظالم من قبل الولاة في الأقاليم.
إن عهد الخليفة المتوكل لم يكن متسامحا، إذ ازداد خلاله هدم بعض الكنائس والأديرة، وتقلّص عدد المسيحيين في مؤسسات الدولة، وأقيل من كان يخدم في البلاط، ومنع الناس من رفع الصلبان في الاحتفالات الدينية المسيحية، ومنع قرع أجراس الكنائس.. ويشير بعض المؤرخين المسيحيين إلى أن المتوكل نفسه كان قاسيا حتى على المسلمين!! واعتقد ان المجتمع العراقي قد ازدادت مشاكله منذ ان جلب الخليفة المعتصم كمّا هائلا من الجنود الترك الذين بدأوا يؤثرون بالضد على كل القيم السائدة! ولكن بعكس المتوكل كان حفيده المعتضد بالله كما يروي المؤرخ ابن العبري، واقتفى أثره ابنه المكتفي متبعا سياسة مسالمة ومتسامحة مع كل الأديان، واحتفظ لكل الموظفين المسيحيين في البلاط، وكان يرعى شؤون المسيحيين الذين اعتبرهم أصدقاء له، ونصبهم في مناصب عدة افتقدوها مع كل الامتيازات على عهد المقتدر.
ويخلص المطران صليبا إلى مجمل القول: إن العصر العباسي يعتبر عصر ازدهار ورقي واستقرار نوعي بالنسبة إلى السريان الذين كانت لهم اليد الطولى في الازدهار العلمي والثقافي، فنعم المسيحيون في هذا العهد بحرية لم ينعموا بمثلها سابقاً أو لاحقاً، إذ أن المسيحيين خسروا كل امتيازاتهم التي كانت لهم في العصر العباسي إلا أن فتوراً في علاقة الكنيسة مع الخلفاء أو الأمراء والولاة كان يحدث بين الحين والآخر، ويعود ذلك إلى عدة عوامل منها:
1) تصرفات الولاة الذين لم يحترموا العهود المعطاة لرؤساء الدين المسيحيين.
2) زيادة عدد المثقفين المسلمين، مما أدى إلى إسناد الوظائف الهامة إليهم، في حين كانت تسند من قبل إلى المسيحيين.
3) الأثر السيئ الذي تركته ما تسمى خطأً laquo;بالحروب الصليبيةraquo; لكونها حروباً إفرنجية استعمارية ولئن دثرت بدثار مسيحي رياءً ونفاقاً.
4) كما لا ننسى العوامل الداخلية في الكنيسة والتي لعبت دوراً كبيراً في اضطراب العلاقات مع الحكام.

ماذا نرى في هذا المجال؟
تعد العصور العباسية امتدادا للعهد الأموي في العمل بمبادئ المواثيق الأولى والعهدات التأسيسية في علاقة المسلمين بالمسيحيين مدنيا وحضاريا، وان المجتمع بقي متوازنا، ولكن حدثت بعض المشكلات من قبل الدولة وسياساتها، واعتقد أن ذلك يحصل دوما مع تطور العلاقات وتوالي السنين والرقعة الجغرافية الهائلة التي امتدت عليها الدولة. نعم، ونحن لا نعتمد هنا فقط على المصادر العربية والإسلامية فقط، بل وان جلّ اعتمادنا على المصادر المسيحية، لكي نجد أين الحقيقة من الكذب.. نعم أن بعض الحكام والولاة المسلمين في الأقاليم وبعض الأمصار البعيدة، بدأوا بمضايقة السريان وإرهاق المسيحيين بالضرائب والإكثار من الجزية، ولكن سياسة بغداد المركزية كانت تراقب الوضع وتسمع للشكاوى والتظلمات. وقد اقتصر دور السريان الاجتماعي والثقافي في بداية عهد الإسلام على الأمور الدينية فقط، بل إن نشاطهم الاجتماعي والثقافي والأدبي والعلمي برز بشكل خاص على العهد الأموي، ولكنه تطور وتألق كثيرا في العصر العباسي الأول، فلقد قضى علماء السريان وأدبائهم على اختلاف مذاهبهم أكثر من مائة عام في ترجمة العلوم القديمة من السريانية واليونانية والفارسية إلى العربية وبفضل جهودهم وأوضاعهم العلمية والثقافية جعل السريان من الشرق منارة وضاءة كانت أساسا للمدنية الغربية الحالية، وازدهر الشرق مدة ثلاثة قرون بمدنية ناضرة 650-950 م.
يقول المار غريغوريوس: quot; وقد تعشق السريان الأرثوذكس العلم فأولوا له اهتماماً خاصاً بتأسيسهم المدارس وإقامة المعاهد في الكنائس والأديرة خاصة، إلى درجة أن كل كنيسة في فترة الحكم العباسي كانت ملحقة بها مدرسة أو معهد، فأنجبت تلك المعاهد الثقافية والعلمية وجبات تلو الوجبات من المفكرين ورواد العلم والمعرفة اللائقين باحتلال مراكز كنسية عليا، إكليروساً كانوا أم علمانيين، ممن طارت لهم شهرة واسعة في الأدب والفلسفة والعلوم الأخرى، والذين خلفوا بحوثاً ومصنفات في مختلف العلوم والمعرفة عصر ذاك، إذ كانت ثقافتهم متعددة الجوانب quot;.

الدور الحضاري للمسيحيين العراقيين
وقد استعان العرب المسلمون بالسريان في ترتيب أمور الدولة وتنظيم الأجهزة الإدارية وتنظيم الحياة الاجتماعية والثقافية والعلمية ومن أشهر علماء السريان وأطبائهم الذين أتحفوا الإنسانية بعلومهم، علماء أمثال: حنين بن اسحق وأبي بشير ويوحنا بن جلاد ويحيى بن عدي والكندي وآل بختيشوع وغيرهم، الذين ألفوا وترجموا ونقلوا مختلف العلوم من طبية وفلكية وعلمية ومن اللغات السريانية واليونانية والفارسية إلى اللغة العربية أتحفوا المكتبة العباسية بمصنفاتهم وعلومهم، ولم يدم هذا الازدهار الثقافي بسبب فقدان العرب السلطة وسيطرة الأجانب عليهم وحتى بيت الحكمة (=المكتبة العباسية) وكان يديرها البعض من السريان الشرقيين. لقد نقل المترجمون المسيحيون مؤلفات الطب والفلك والهندسة من اليونانية إلى العربية، أو من خلال وسيط اللغة السريانية كونهم يتقنون اللغات الثلاث. وان وظيفة طبيب الخليفة كان يشغل دائما من قبل طبيب سرياني، واشتهر آل بختيشوع بمزاولتهم للطب وتمرسّهم فيه زمنا طويلا ببغداد العباسية. لقد نبغ من آل بختيشوع امهر الأطباء واعتمد عليهم الخلفاء وقربوهم ونادموهم، وكان زعيمهم جيورجيسبن بختيشوع ( ت 770م) الذي طبّب الخليفة أبو جعفر المنصور وشفاه، وتلاه ابنه بختيشوع (ت 898م ) وكان طبيب الخليفة الرشيد، وخدم جبرائيل بن بختيشوع الامين والمأمون ( الموسوعة الكلدانية، تاريخ الكلدان، ص 102).
وقد كان لتدهور سلطة الدولة العربية الإسلامية وغزو التتار والمغول لبلاد الرافدين دور كبير في اضطهاد السريان الآراميين عامة، وقد عانوا الأمرين من جراء الظلم والاضطهاد والتدمير وتخريب الأديرة وحرق المصنفات والكتب الدينية والتاريخية، وبالرغم من اضطراب حبل الأمن في مناطق سكنى السريان أحفاد الدولة الآشورية، فقد ظهر بعض العلماء المشهورين من أمثال: حنين بن اسحق ويوحنا المعدني وميخائيل الكبير وأبي الفرج ابن العبري وموسى بن كيفا ويعقوب ابن الصليبي والقرداحي وعبد يشوع الصوباوي والرهاوي المجهول وداود الفينيقي وغيرهم، فكان لهم الدور الكبير والمؤثر في نشر الثقافات الأدبية والفلسفية وعلوم الطب والرياضيات والهندسة وغيرها، وقد نشر هؤلاء مختلف الكتب والمقالات الدينية والفلسفية التي كان لها دور كبير في نمو الوعي الفكري في العصور الوسطى ( انظر: بهنام فضيل عفاص، الحضارة المسيحية في العراق عبر العصور )، ودور الشعوب الغازية التي دمرت معالم الحضارة في الشرق بالكامل تقريبا، وانتشرت الأديار (: الأديرة ) في العراق وازدهرت وسجّل بعض المؤرّخين أخبارها، فالمؤرّخ أبو الحسن الشابشتي يذكر في كتابه quot;الدياراتquot; سبعة وثلاثين ديرًا في العراق وحده منتشرة في بغداد وتكريت وسامراء والبصرة والحيرة والأنبار وذي قار وغيرها من المدن ( كتاب الشابشتي، حققه ونشره: كوركيس عواد، بغداد، 1951). ومن أعظم ديارات الحيرة، التي غاب أثرها، ديرالملكة هند بنت النعمان بن المنذر، فهي التي quot;بَنَت هذا الدير وترهّبت فيه وسكنته دهرًا طويلاً، ثمّ عميتquot;. ويقال إنّها سألت خالد بن الوليد يوم دخل الحيرة: quot;هؤلاء النصارى الذين في أيديكم تحفظونهمquot;، فأجابها: quot;هذا فرض علينا، قد وصّانا به نبيّناquot;. ( نقلا عن ابو عبيد البكري، معجم ما استعجم، القاهرة، 1947، ص 362).
لكن سقوط بغداد على يد المغول أعطى للمسيحيين فرصة للانتعاش السياسي والاجتماعي فقد كان للمسيحية تأثير كبير على زعماء المغول وعلى رأسهم هولاكو ومانكوخان الذي كانت والدته مسيحية. ولكن بعد إسلام الحاكم المغولي غازان سنة 1303 م، وتسمّى بمحمود، تغير الأمر كثيرا بالنسبة للعلاقة بين المسيحيين والسلطة الحاكمة التي فرضت عليهم الجزية وتحكمت ببعض حرياتهم المدنية والدينية. وهكذا، ومع نهاية القرن الخامس عشر، يخفت دور السريان في الشرق، وتقّلص العمل باللغة السريانية / الآرامية لتصبح لغة التسابيح والصلوات في الكنائس، بعد أن بقيت لغة متحضرة للعلم والأدب في الشرق لأكثر من ألفي سنة متتالية.

انتهت الحلقة الثالثة وتليها الحلقة الرابعة: التعايش والاضطهاد
www.sayyaraljamil.com