الحلقة الأولى

اولا: المعنى القديم والمعاني الجديدة

1/ المعنى اللغوي العربي
يعرّف quot;المُعْجَمُ الوسيطُquot; مفهوم quot;الهُوِيَّةَquot;، فلسفيا، بأنها: حقيقة الشَّيء أو الشَّخص التي تميزه عن غيره. أما قاموس Oxford، فهو يعرفها بوصفها quot;حالة الكينونة المتطابقة بإحكام، أو المتماثلة إلى حدِّ التطابق التام أو التشابه المطلق. والكينونة، هنا، تتعلَّق بالشَّخص الإنساني. ونعني بالتطابق التام: ما بين باطن الشيء وظاهره، كما شبه الجرجاني ذلك بالثمرة ونواتها أو بتماثل التجليات الظاهرة لأي كينونةٍ مع جوهرها العميق، بلا انفصام أو انشطار مهما صغر وتضاءل، بحيث تتبدَّى الهُوٍيَّةُ، متخلخلة ومهزوزة مقارنة بما تعتز بها الشعوب الأخرى، ولقد ترعرعت عبر التاريخ، لكنها تبلورت في القرنين السابقين بتطور الفكر السياسي الحديث. ثمة تحديّات تواجه مفهوم quot; الهوية quot; في مجتمعاتنا سواء كانت: إيديولوجيات أم طوائف ومذاهب أم شوفينيات.. الخ

2/ المعنى الفلسفي الدنيوي
الهوية Identity: المعنى والمفهوم
الهوية التي تمثل بالنسبة لحاملها حالة (الأنا) أو ظاهرة (الـ نحن)، فهي رمز النوع الاجتماعي الذي يتصف به ضمن آليات التعدد.. إن المعتقدات التي تشترك فيها المجتمعات قد تجعل الناس تنأى عن هويتها الثقافية المحلية، لكي تغدو التجارب كلها ضمن سياق واحد نحو نقطة الترابط، وربما تتفوق الطبقية على الأعراق في مجتمعات كهذه، ولكن إن كانت المعتقدات متباينة، فمن المحتمل حدوث آثار مدمرة وغامضة..
الهوية هي الميزة الثقافية، لا التشدق الديني، ولا النزعة العرقية أو العنصرية أو الفاشية ولا التعصب القومي، ولا التعصب الطائفي.. وكلها تتوزعها مجتمعاتنا اليوم ونحن في بدايات القرن الواحد والعشرين. إنني اعتقد أن ثمة مجتمعات مجاورة لنا، قد بدأت تتخلص شيئا فشيئا من هذه الأمراض التي لم تزل تفتك بنا، فهي تتمايز بالتعددية الثقافية كسمة حضارية، ولا توزع أي مشروع أيديولوجي أو طائفي أو شوفيني.. لم تكن هكذا قبل عقود طوال من السنين، على سبيل المثال لا الحصر، غدت العلمنة التركية بديلا حقيقيا في تركيا عن العثمنة. وعندما اقر أتاتورك المبادئ الستة واقر السلم في الداخل والسلم في الخارج، فلقد نقل مجتمعه من هوية قديمة إلى هوية جديدة (1).. وعليه، سواء اتفقنا مع اتاتورك ام اختلفنا، فان تركيا لا تعيش أزمة هوية بقدر ما نعاني منها في مجتمعاتنا العربية ونحن في القرن الواحد والعشرين، وخصوصا في العراق الذي ابتعد عن العالم قرابة نصف قرن. إذن فان الهوية، هي السمة الثقافية في التصنيف الحضاري هذا اليوم، وكما نجدها متطورة في مجتمعات متقدمة سمتها التعددية في بلاد مثل كندا التي يجتمع على أراضيها عدد كبير من الثقافات، ويتعايش سكانها على أفضل ما يمكن من التعايش من خلال رعاية الدولة لهم حضاريا من خلال القانون أولا وحقوق الإنسان ثانيا. إن مجتمعات الشرق الأوسط، ومن ضمنها المجتمع العراقي بحاجة ماسة للخروج من الشرانق التي وضعوا أنفسهم فيها، مهما كانت سمات تلك الشرانق التي كانت وستبقى تخلق المشكلات، وتذكي الصراعات المتنوعة. إننا مطالبون للاستفادة من تجارب العالم الوطنية المتنوعة، لكي تغدو تجاربنا كلها ضمن سياقات منتظمة، وكلها تتمحور نحو نقطة الترابط مع وجود تنوعات في الثقافات، بعيدا عن شرانق الماضي وتقاليده البالية التي تعدّ العدو اللدود للهوية ومعرفة المجتمع لذاته وقيمته في الحياة. إن لكل مجتمع حسناته ومثالبه، ايجابياته وسلبياته، ولكن الوعي بالهوية لدى كل مجتمع، يمنحه القدرة على ان يجعل الايجابيات تتفوق دوما على السلبيات، وربما تتفوق الطبقية على الأعراق في مجتمعات كهذه، ولكن مجتمعاتنا بحاجة ماسة الى متغيرات كبرى خوفا من ان تتفسخ بعد ان تحلّ بينها الانقسامات إن كانت المعتقدات متباينة، فمن المحتمل حدوث آثار مدمرة وغامضة.. إن الهوية قد لا ترتبط بالأعراق، بل ترتبط بالثقافة والأنساق الإيديولوجية. ان العراق هو اخطر بلد اليوم في منطقتنا، تتعرّض هويته للخطر.. والاسباب واضحة وجلية للجميع.

ثانيا: استكشاف العراقيين للهوية: معنى الهوية العراقية
يختزل لوري كندال في دراسته المعنى والهوية استكشافاته عن الهوية التي تمثل بالنسبة لحاملها رمز النوع الاجتماعي الذي يتصف به ضمن آليات التعدد ـ كما يقول كارل مانهايم ـ.. وترى ليندا الكولف بان المعتقدات التي تشرك فيها المجتمعات قد تجعل الناس تنأى عن هويتها الثقافية
إن الهوية، إذا اعتمدت الأعراق، فينبغي فهمها بعد تعريفها على أسس تطورية، والهوية هي تعبير عن التقلبات في الظروف الزمنية، وخصوصا في المجتمعات المختلطة التي تنمو عندهم هذه الظاهرة من خلال ضعف القوى السياسية أو بالأحرى ضعف الدولة (2).. إن quot; الهوية quot; هي بالضرورة آلية مفيدة لتفسير عمليات تاريخية كالتي تتمتع بها عموما، أية طائفة في المجتمع، لكي تكرسها حفاظا على مصالحها ليست الآنية فقط، بل التاريخية والمستقبلية معا.. هنا، أريد القول من المعروف إن الأتراك هم ورثة الإمبراطورية العثمانية، ولكن الحقيقة، إن كل المجتمعات التي مرت في ظلال العثمنة، يمكن أن تكون وريثة للعثمانيين. ولكن متى بدأ المفهوم القومي يسيطر على التفكير والمشاعر.. لقد جاء ذلك بتأثير نضوج القوميات في أوروبا. إن كان هذا ينطبق على العثمانيين وتجاربهم التاريخية في كل من غرب آسيا وشرق أوربا وشمالي أفريقيا، فانه لا ينطبق على التجارب البريطانية في الهند أو مستعمرات أخرى مثلا، بسبب استخدام العثمانيين الهوية (= الملة العثمانية) أساسا في فرض إرادتهم على كل المجتمعات التي حكموها.

ثالثا: المعنى الجغرافي العراقي
ليست الهوية الوطنية بنيةً مغلقةً على ذاتها وإنما هي ظاهرة جوهرية مُتَحَوِّلةٌ دوما، ومرتبطة بمحور ثبات يتمثل بالتراب الوطني. إنها مفهوم يعّبر عن ذاته بذاته عبر الزَّمن ومعاييره، وفي سياق علاقة تبادلية بين الجغرافية إزاء التاريخ، وهي تنهض في تفاعل، متحقِّقٍ، أو تصمت وتتعرّى في حالة توتر وانكسار تاريخي أو انهيار مكبوح، من مرحلة إلى أخرى سواء في وجود نسيج المدن أو في مكونات المحيط ! وبمعطيات حركة الحياة الوطنية المتنوعة. ومن الطبيعي أن يعتز أي إنسان بهويته، ولكن شريطة إلا يتعّصب لها على حساب إنكار أو تهميش من يعايشه منذ آلاف السنين لأي سبب من الأسباب. ان الغلو والتعصب في العقائد والإيديولوجيات يفقد الإنسان هويته الوطنية باعتبارها قيمة مدنية دنيوية راقية. ان جغرافية العراق هي التي كانت وراء الحفاظ على هوية العراقيين، وانها كانت اساسا وراء بقاء العراق ووحدة ترابه من خلال وادي الرافدين العريق. وأنها كانت وراء زخم العراق الثقافي ـ كما سأشرح ذلك لاحقا (3) ـ، كما وأنها كانت وستبقى الحصن المنيع لوحدة العراق المستقبلية مهما بلغت التحديات، ومهما انتهت إليه الأجيال، وسيكون هذا، مجال موضوعي القادم، وسأتوقف عند أربعة ركائز أساسية جيو ستراتيجية، هي
1/ أحادية قطبية العراق في الجغرافية التاريخية للعالم (العامل التاريخي).
2/ ثنائية الدواخل والأطراف.. المركز والمحيط (العامل الجغرافي).
3/ ثلاثية البنية الاجتماعية: المدينة والريف والبادية (العامل الاجتماعي).
4/ رباعية الهوية الجغرافية: شرق دجلة وغرب الفرات وما بين النهرين وشط العرب (العامل الثقافي).

أخيرا: هل من اجوبة واضحة على الاسئلة التالية؟
الاسئلة التي تفرض نفسها على كل عراقي اليوم من اجل ان نستعيد المعنى والجذور لهويتنا العراقية تقول:
هل هويتنا العراقية: هوية دولة أم هوية مجتمع؟
هل تتعرّض الهوية العراقية اليوم لتحديات قوية ستؤثر على أجيالنا القادمة؟
هل ستبقى الهوية العراقية.. ثقافية، أم أن تحولات التاريخ الصعب سيجعلها منقسمة او مشتتّة؟!
عاشت هويتنا العراقية في العصر الحديث على ثلاثة ركائز أساسية.. هل ستبقى هذه الركائز، أم أنها ستختفي، وتحّل بدلها ركائز أخرى من نوع جديد؟
هذا ما سأحاول الإجابة عليه، ولكن من خلال المحاضرة التي أشرت إليها.. وعنوانها: الهوية العربية: محاولة استعادة لتشكيل المعنى والجذور..

ملاحظات

(1) راجع التفصيلات عن هذه المفاهيم في كتابي: العرب والأتراك: الانبعاث والتحديث من العثمنة إلى العلمنة، ط1 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1997).

(2) راجع التفاصيل في:
Robert D. Putnam, The Comparative Study in the Theory of Political Elites, Contemporary Politics Series (Englewood Cliffs, NJ: Prentice- Hall, 1976), pp. 72-8.

(3) أعد القراء الكرام أنني سأنشر لاحقا نص محاضرتي التي ألقيتها مساء يوم الأحد 16 مايو / آيار 2010 في الجمعية العراقية الكندية بمدينة مسيسوغا الكندية، وكانت بعنوان: quot; الهوية العراقية: محاولة استعادة للمعنى والجذور quot;.
www.sayyaraljamil.com