الحلقة الثانية: النهايات: احتباس التفكير

quot; إنني أدرك أنني هنا في الزمن المشؤوم، سواء أردت أم لم أرد. ان هذه القصة تخصنّا جميعا quot; البير كامو في الطاعون

4/ التحديات المركبة

الحلقة الأولى

ولم تستطع النخب الخاصة هذه من إجراء التحولات، كما يجب، بسبب إخفاقاتها هي نفسها أولا معبرا عن ذلك بتوفيقياتها وتلفيقاتها بين واقع مأساوي وبين مستوردات الغرب، وبسبب ما صادفته من ردود فعل صارخة ثانيا، معبرا عنها بانقلابات وثورات وتمردات، وبسبب الارتدادات نحو الماضي بشكل مخيف ثالثا، معبرا عن ذك بإحياء كل ما لا يستقيم وحياة هذا العصر.. هذه اللحظات التاريخية الثلاث مركبة بكل مفارقاتها حسب أزمانها لما بين الحربين العظميين

أولا، ولما بعد تأسيس إسرائيل ثانيا، ولما بعد تأسيس أول جمهورية إسلامية ثالثا. وأنني أقول بأن ليس هناك من آمال عريضة ببقاء أي موديل من الموديلات القديمة. ولكن؟ ما تداعيات ما أنتجه القرن العشرون على أجيالنا القادمة؟ هذه هو السؤال الحقيقي الذي ينبغي التفكير فيه قبل أن نفكّر بعيدا بآليات وأفكار وعقائد لا تتسق والواقع المتخلف أولا، ولا أن نبقى نهرج مع المهرجين عن أمجاد الماضي، وبطولات رجالات الماضي، ونعزف طويلا على بقايا تراث الماضي ثانيا، ولا أن نصفق لهذا الأتون الجديد الذي وجدنا أنفسنا فيه، والعالم كله يرفضنا.. ونحن قد اخترنا العزلة دون أن نحاور العالم.. بل وأوجدنا مشروعا لغزو العالم أو قتل العالم أو كراهية العالم.


5/ التشوّهات
كل هذا قد حدث ولم يزل يحدث في واقعنا الذي يزداد بتشوهاته القاتلة ومجتمعاتنا تعاني كلها الأمرين مما جرى ويجري.. ولكنها، لم تقتنع بعد أن العلاج بأيديها، وان ما حدث ويحدث هو بتأثير ما أنتجه القرن العشرون سواء قبل رحيله أم من بعد الرحيل. لم تقتنع مجتمعاتنا حتى اليوم، بأن الخطايا الجسيمة التي ارتكبت هي عوامل مولّدة لكل ما ينتج اليوم من رزايا وجنايات! لم تنجح حتى النخب المثقفة كلها بالتمفصل بين الماضي وحياة العصر! قل من تجده يتكلم بالقطيعة من اجل فهم الماضي لا البقاء في محرابه منعزلا عن الحياة من اجله! أما انعكاسات ما ترّبت عليه الأجيال في المدارس والإعلام، ولمّا تزل تعلن عن أمجاد وبطولات.. بحيث لا أجد أي بشر يقبل بالنقد، أو حتى يمارسه لا لغيره، بل لذاته! أما الشعارات، فهي لم تزل حية تزرق ومجتمعاتنا كلها تدرك أن خمسين سنة مضت على شعارات لم تزل رائجة ليس في الشوارع والإعلام الرسمي، بل مترسّخة في الذاكرة الجمعية!


6/ العزلة والاحتباس
لقد اختارت مجتمعاتنا طريق العزلة والاحتباس.. عزلة عن الحياة العامة.. عزلة عن المجتمع نفسه قبل العزلة عن الآخر.. عزلة عن المعرفّ به.. عزلة في اللباس.. عزلة عن إظهار الوجه الحقيقي.. عزلة اختاروها باسم الدين، فبدأ يهرب بانعزاليته إلى حضنه القديم، فهذا اختار طائفته، والآخر قبيلته، والآخر جهويته أو حارته وصولا حتى عائلته.. الخ هنا، نقطة نظام تقول، هل مثل هذه الارتدادات اجتماعية أولا أم سياسية أولا؟ أقول: لقد دخلت من باب السياسة ولم تخرج من المجتمع إلا بعد تمزيقه! أما المرأة، فلقد تراجع دورها كثيرا عمّا كان عليه سابقا.. كان للمرأة تأثيرها القوى في عدة مجتمعات تمضي للحصول على حقوقها الشرعية والمدنية بازدياد فرص التقدم لديها، ولكنها غدت معزولة ويتراجع دورها بازدياد فرص تأخرها في اغلب مجتمعاتنا.


7/ تصدير التخلف
المشكلة أن هذه المجتمعات التي يهرب منها كل الناس المختلفين، لم تقتصر على أن تبقى مشاكلها الداخلية معها، بل بدأت تصدّر تلك quot; المشاكل quot; بأثواب جديدة إلى بقية أنحاء العالم، وخصوصا إلى غربي أوروبا وأميركا الشمالية! ولقد زادت من سطوتها، ليس بسبب قوتها وارتجاج تلك القوة، بل بسبب استخدام آخر تكنولوجيات العصر في عزلاتها، وهي تدرك جملة من التناقضات التي أخذت تحف بالحياة في مجتمعاتنا.. تجدهم أصحاب أيديولوجيات متراجعة عن هذا العصر إذ كانت رائجة قبل خمسين سنة.. تجدهم ما زالوا ملتزمين بتلك الأيديولوجيات علما بأنها عقائد سياسية بدائية كما تبدو لنا اليوم..


8/ شيزوفرينيا المثقفين
لا استطيع تفسير أية سايكلوجيات تقبل بعض الذين يسمون أنفسهم بـ quot; مثقفين طليعيين أو ساسة تقدميين quot; وهم يتلبسون مواريث غير معقولة تركها الماضي لنا، ولكنهم يستعرضون عضلاتهم باسم الديالكتيك وصراع الطبقات أو الإيديولوجية العربية المعاصرة؟ ولا ادري هل أدركوا قيمة الجدل والحوار ليس مع الآخر، بل مع أنفسهم؟ هل حاوروا عقولهم؟ هل افترضوا أسئلة وبحثوا عن إجابات لها؟ هل يعقل أن يبقى الإنسان في هذا العصر يرّوج لشعارات لم تتحقق، ولم يسأل نفسه أبدا: لماذا لم تتحقق؟ هل كان الواقع غير صالح لها أم أن الاستعمار وأذناب الاستعمار هم السبب؟ وكما جرى قبل خمسين سنة يجري اليوم، ولكن بدل شعارات قومية ويسارية غدت الشعارات دينية وطائفية! وبقدر ما يؤمن من يرّوج لها أنها ستكون أداة للسيطرة على العالم، بقدر ما يقول واقعنا المعاصر بأن لا مجال لها في الحياة.


9/ انعدام الرؤية الجديدة
في القرن الثامن عشر الذي يسمونه بعصر الأنوار، أطلق ديدرو على لسان دالاميير في ( حلم دالاميير 1769 ) إنها quot; رؤية جديدة إلى الأشياء quot;. فما بال مجتمعاتنا إن بقيت تحلم من دون أن تتحقق أحلامها؟ وان تتنبأ من دون أن تجد نبوءاتها حقائق على الأرض؟ هل من العقل أن تفتقد العقلانية تماما من مجتمعاتنا واغلب أنظمتنا السياسية؟ وهل من العقل أن تمارس الشعوذات وتبادل الخرافات وكل المعطلات بأدوات آخر ما توصل إليه العصر من وسائل وأجهزة اتصالات والكترونيات؟ هل يعقل أن تخلط الأمور خلطة عمياء.. بحيث يروج منذ خمسين سنة في بلداننا بـ quot; جاهلية القرن العشرين quot; وبث روح الكراهية إزاء العصر أو الزمن الجديد.. وتذهب الآلاف المؤلفة من المثقفين يقرأون ما راج عن quot; سقوط الحضارة الغربية quot;! وان السقوط قريب للغاية، بحيث سنستلم نحن مقاليد العالم! كل هذا وذاك، اضرّ بتفكير الجيل الأخير في القرن العشرين، وجعله يرى نفسه اكبر من الآخرين.. فإذا كان قد ورث مفهوم quot; العنف الثوري quot; الذي روجته أحزاب بدائية التفكير، وهي تسمّي نفسها بـ quot; تقدمية quot;.. فكيف سيكون مصير جيل اليوم؟ وإذا كانت الخطابات السياسية رائجة قبل خمسين سنة وبكل استعراضاتها وصداها والتهريج لها عبر أجهزة الراديو.. فان المواعظ الدينية هي المسيطرة اليوم على الإعلام التلفزيوني الذي يدخل كل البيوت، ويعتمد عليه كل الناس. وعليه، فكيف سيكون وعي الناس بعد كل هذه الأعاصير التي لم يزل يدافع عنها أصحاب المصالح والمتوهمون والمغيبون وكل المجانين؟


10/ نحن والعصر بين تفكيرين
يجمع علماء المستقبل في العالم بـ quot; أن ما حققته البشرية في العقد الأخير من القرن العشرين، لم تستطع الإنسانية تحقيقه في عشرات القرون quot;. إن من مصائب مجتمعاتنا إصابتها بعظمة الذات، بحيث لم تزل تجد نفسها أعظم ما خلقه الله وأفضل من كل البشرية. وعليه، فهي تستهين بكل ما هو قد تحقق على أيدي الآخرين وبفكرهم وتنظيمهم وعلومهم.. بل والانكي من ذلك، فهي تستخدم كل منجزات هذا العصر من دون الاعتراف به! ومن قوة تناقضاتها أنها تستخدم كل المنجزات المادية، ولكنها بعيدة كل البعد عن فلسفات هذا العصر وكينونته وأفكاره وتجاربه.. إنها تمقت روح هذا العصر وفلسفاته وطرقه ومناهجه ونظمه وقوانينه.. ولكنها تستخدم مواصلاته وإعلامياته وأدويته ومخترعاته سياراته وطياراته ومطابعه وأسواقه ومستشفياته وأغذيته ومصنوعاته كلها!

وأخيرا: نحن الى اين؟
هذا سؤال لا يستطيع أي إنسان في كل مجتمعاتنا أن يجيب عليه إجابة حقيقية أو تأملية أو متوقعة.. ذلك أن حياتنا مليئة اليوم بالمشكلات الصعبة التي خلقتها تحديات داخلية وخارجية.. فضلا عن فقدان المعادلة في كل المجتمعات واختلال حياتها لأسباب سياسية معقدة ورثناها عن القرن العشرين.. إضافة إلى موجات الغلو والقسوة جعلت الناس تهاجر على امتداد القرن العشرين، مما خلق فراغات اجتماعية! لم تتغير العقليات نحو الأحسن إلا قليلا. صحيح أن الأمية سيقضى عليها، ولكن الجهل سيبقى سيد الموقف. إذا كانت عمليات الإصلاح قد حكي عنها كثيرا، بل واستجاب البعض من القادة والزعماء قبل سنتين أو ثلاث، ولكنهم لم يفوا بعهودهم. وبقيت مسألة الإصلاح حبرا على ورق. إن أهم خطوة يمكن أن تحقق لمجتمعاتنا مردودا حقيقيا يتمثل بإلغاء كل المناهج القديمة، وإبدالها بمناهج جديدة، كي تكون ثورة حقيقية لثلاثة أجيال قادمة. إن حاجة الأجيال القادمة إلى مناهج جديدة لا علاقة لها يما تم العمل به في القرن العشرين، بات ضرورة جوهرية.. فضلا عن التغيير الذي يستوجب أن يطال الإعلام والميديا كاملة. فالإعلام لابد من انتشاله والانطلاق به في رحاب آفاق سياسية جديدة. وهنا نأتي إلى مقتل مجتمعاتنا التي هي اليوم بأمس الحاجة إلى أمرين أساسيين: خدمات وفرص عمل وامن وضمانات اجتماعية. والأمر الثاني يتمثل بجملة من المعاني القيمية: الحريات وتنامي الديمقراطية وفرص الحوار وتجديد للقوانين..
ليست هذه quot; مثاليات quot; بعيدة عن التحقيق. ربما ثمة صعوبات ومشكلات في التطبيق، ولكن لا يمكننا نرى الأمم الأخرى بأنواع مجتمعاتها بمنظارنا نحن، ولا نرى ما يعرضه العالم من منظورات عنّا.

www.sayyaraljamil.com