استهلال: النموذج السائد
أيام كنا طلابا في الجامعة قبل قرابة أربعة عقود من الزمن، كنا عصبة عصية على الانقياد من خلال تساؤلاتنا وتعليقاتنا وحتى نقداتنا الساخرة.. نلتهم الكتب التهاما والتنافس على أشده في ما بيننا ضمن وسائل متنوعة، دخل علينا أستاذ جديد بمرتبة أكاديمية عليا وهو مغتر بحاله، قد نمّق نفسه ودهن شعره وجهد بحمل حقيبته السامسونايت، فوددنا اختباره منذ الحصة الأولى قبل أن يختبرنا كي نتعرف عليه قبل أن يتعرف علينا.. بدأ محاضرته مثرثرا عن نفسه وسفراته ومغامراته وحياته الشخصية بلهجته الفجة! فجرت بيننا طلبة وطالبات محادثة صامتة ساخرة كاملة من خلال استراقنا النظرات لبعضنا الآخر. سأله أحدنا سؤالا ماكرا: ما الحضارة؟ وهل مجتمعاتنا متخلفة أم متمدنة؟ أجاب بلا تفكير: نحن مجتمعات نامية مجرد سنوات ونستلم زمام العالم! فالحضارة هي البنايات الشاهقة والشوارع العريضة والاضوية الملونة التي نراها في الليل.. وطبعا نحن دخلنا المدنية من أوسع أبوابها لأن عندنا عمارات وطرقات ونركب سيارات فارهة ونستورد أغذية ومعلبات ونعيش في بيوت مريحة.. الخ ثم رجع ليحكي لنا عن مغامراته ويتفاخر بذاته البهلوانية.. لقد انطلت على البعض أحجيته، في حين سخرت الأذكياء من كلامه فعاجلته معلقا، لأقول: هذه ليست بنى تحتية حقيقية، فالتمدن عملية تاريخية معقدة تبدأ بصناعة البنى الفوقية المنتجة والمنظمة التي يمكنها أن تبدع في خلق البنى التحتية. أجاب بعصبية متشنجة: أنا لا افهم ما تقول من مصطلحات.. دعوكم منها.. تحتية وفوقية عيب هذا الكلام!! قلت له: هذه مفاهيم ومصطلحات شائعة وقد استخدمها انطونيو غرامشي في الفكر السياسي! فقال: أنا لا اعرف عمّن تتكلم.. فضحكنا منه وعليه ووضعناه ضمن تصنيفاتنا السرية.


هل نجحت دولنا ومجتمعاتنا في بنيوياتهم التحتية؟
هذا quot; النموذج quot; هو واحد من مربي قسمات مجتمع عربي في طور النمو أسوة بعشرات بل مئات وآلاف النماذج، لم يزل يحيا حتى اليوم بمثل هذه الأفكار الغبية وقد تخرج جيل كامل على يديه في الجامعات العربية.. فإذا ما سألناه اليوم: ما الفرق بين البنيتين؟ تلعثم أو ثرثر أو زاغ نظره قليلا كي يخترع من عنده أحجية بليدة وتافهة لأنه لا يعلم، ولأنه لا يقرأ، ولأنه بالأحرى لا يفقه، ولكنه غدا ndash; ويا للأسف ndash;واحدا من الذين يعتمد عليهم في صناعة قرارات أو التمثيل في مؤتمرات وبعثات ودبلوماسيات بعد أن جعلوه quot; أستاذ دكتور quot;! وببساطة، انه ضحية واقع عمره أكثر من خمسين سنة لم يفرّق عمليا بين البنيتين التحتية والفوقية. والسبب، إن كلا من دولنا ومجتمعاتنا لم تعتنيا بما هو فوقي أبدا، وانما اعتني البعض قليلا بما هو تحتي فقط!، وحتى هذه البنية التحتية في اغلب مجتمعاتنا بعموم المنطقة نجدها مشوهة ومعتلة وغير متكاملة!
فعلا لقد بنيت العمارات الشاهقة وفتحت الشوارع الواسعة وازدانت بالاضوية الملونة الساطعة.. على اعتبار الأخذ بقناعات مثل ذلك (الأستاذ الدكتور) الأبله! وكأن البنية التحتية تتمثل باستيراد الأغذية والسيارات والألبسة وفنادق الدرجة الأولى والأبنية الشاهقة.. الخ وغاب عن مجتمعاتنا مفهوم التحديث وطبيعته، والإنسان وقيمه المستحدثة، والمؤسسات وانظمة العمل والإنتاج والبرامج التربوية والصحية والعملية.. كما غابت عنهم أيضا كيفية بناء وتشكيل شبكات سكك الحديد في ما بين أقاليم وبلدان المنطقة، بدل تلك الخطوط التي كان (المستعمر) قد بناها! وغاب عنهم المنتج الثقيل في التصنيع! وغاب عنهم أيضا أن يعتنوا بأريافهم ودواخلهم الجغرافية بنفس القدر الذي يمنحونه للعواصم الجميلة التي أصبحت اليوم مدن فوضى أو مزابل قمامة! وغاب عنهم التخطيط العمراني المتطور إذ مازالت عشرات المدن كئيبة في حالة يرثى لها وكأنها خرجت توا من ظلام العصور الوسطى! وغابت عنهم أيضا صناعات عدة: الأرض الزراعية والسياحة المتفوقة والخدمات الصحية والبلدية والحدائق والطرق الممتازة والأسواق النظيفة والمقابر المزهرة.. الخ من البنى التحتية الحقيقية ولكن من جانب آخر، غابت عن مجتمعاتنا صناعة الفوقيات من اجل خلق التحتيات سواء في الاعتناء بالإنسان المواطن.. الطفل والمرأة والرجل.. أفضل عناية وتشكيله عقلانيا وتربويا وثقافيا وتخصصيا من جديد من خلال النخب الحرة المثقفة والمتميزة والمبدعة والمحترفة وأيضا تطبيق التربويات القوية والتعليم رفيع المستوى! نعم، لقد غابت عن مجتمعاتنا تشكيلات بنى فوقية حتى تستطيع أن تمتلك القدرة على مقارنة نفسها ببقية المجتمعات المتقدمة والمتحركة في العالم! هذا هو إذن المعنى الحقيقي للبنية الفوقية التي تضمن أي دولة الانسان المبدع والمحترف والمثقف والمنتج والمنّظم والمتحرك الذي يمكنه ان يخلق بنية تحتية من التشيؤات والمعطيات والمنجزات المادية..


معنى صناعة البنية الفوقية والكذبات الكبرى:
ولكن من الذي يخلق البنية التحتية في البلاد؟؟ انه ذاك الذي امتلك البنية الفوقية.. والأخيرة أصعب في تحقيقها من الأولى، لأنها غير قابلة للشراء والاستيراد أو للاستهلاك الرخيص.. إنها باختصار: صناعة للقوى البشرية الفاعلة بكل حراكاتها بما تمتلكه من خبرات وثقافة وتكوينات وتجارب وذهنيات وأفكار وخطط وإبداعات ومنتجات في كل ميادين الحياة وحقولها.. لقد مرت المجتمعات البشرية المتقدمة (وحتى المتحركة اليوم) بتجارب مريرة وصعبة وهي تتنافس في صناعة كل من بنيتيها، وخصوصا الفوقية فيها ولم تزل حتى اليوم تعمل على جذب الأذكياء في العالم واستقطابهم على عكس مجتمعاتنا في معظم بلادنا التي كانت وستبقى طاردة للعقول والأذكياء والقوى الفوقية! ومن أنكى التفسيرات الرائجة أن الاستعمار وراء كل هذا وذاك وغاب عنهم بأن كل الخلل إنما كان سياسيا داخليا جملة وتفصيلا سواء على مستوى الحكام والزعماء والقادة والمسؤولين المتنوعين الذين أساءوا بتخلفهم صناعة قرارات مجحفة ومتخلفة أضرت بمصالحنا الفوقية والتحتية معا.. وأيضا على مستوى النخب والفئات والأحزاب السياسية والدينية التي لم تعرف في تجمعاتها إلا الوصولية والانتهازية ولم تعرف في خطاباتها إلا الشعارات الجوفاء الإصلاحية، وترديد الأوهام الثورية . كم مهر الساسة والزعماء في أجهزة إعلامهم ودعاياتهم بخلق كذبات كبرى ونسج دعايات وفبركة خطابات وبث تزييفات؟؟ وكم توهم الناس إن بلدانا في منطقتنا اخترقت حاجز العالم الثالث فأصبحت دولا متقدمة (كذا)! والحقيقة غير ذلك أبدا، فهي لم تحقق أي نسبة من التقدم في بنيتيها التحتية والفوقية، فمن يراقب جملة من التقارير السنوية الصادرة عن مؤسسات رقابية أو أكاديمية.. سيقف مشدوها، فالأمية طاغية على أبنائها والإنتاج ضعيف والتخلف يزداد بشكل مخيف والثروات تبدد بشكل جنوني! وهنا لابد من التوقف قليلا، فكثيرا من الناس يتوهمون عندما يقارنون أنفسهم بالألمان.. يقولون كان لابد أن نكون مثلهم عندما رجعت ألمانيا بعد قرابة عشر سنوات من تحطيمها في الحرب العالمية الثانية.. ولا يدركون الفروقات الجوهرية بين الألمان وغيرهم من شعوب آسيوية وافريقية ، صحيح إن البنية التحتية الألمانية كانت قد تحطمت تماما، ولكنها المجتمع كان يمتلك بنية فوقية قوية جدا هي التي طورته بسرعة خارقة وليس مشروع مارشال بذاته!

مشروع قهري وراء كل التداعيات!
إن تداعيات مجتمعاتنا ودولنا لا أول لها ولا آخر وخصوصا عند أولئك الذين يصنعونها، إذ يبدو أن اغلبهم لا فهم لهم ولا ثقافة عندهم ولا إدراك متبادل لديهم.. لقد صنعتهم ظروف الحياة المغلفة بكل أصناف الغرابة والتزييفات والمحسوبيات والمنسوبيات والتعاطفات والعشائريات والبهلوانيات والشعارات والأوهام والأخيلة والعواطف والرومانسيات والبطولات الكاذبة.. منذ سنوات المدارس والجامعات بتربوياتها الهزيلة لكي تدفعهم نحو ميادين الحياة من دون أي مؤهلات قوية أو إمكانات حقيقية.. وما أن يصلوا مواقعهم حتى يقفوا ضد القوى الفوقية القوية التي يمثلها عدد معروف وواضح من الأذكياء والمبدعين والمتميزين من اجل النيل منهم وقهر مشروعاتهم وتحجيم أدوارهم وخلق المتاعب لهم.. إن الأغبياء والمعوقين والمهووسين بالجمود والتحنّط والتخلف هم ببساطة: مشروع قهري في استلاب تطور الحياة وإرادتها الحقيقية، وهم في الوقت نفسه يتمتعون بكل ما تنتجه البنى التحتية وآخر ما توصل إليه هذا العصر المتقدم، ولكنهم من ابعد الناس عن البنى الفوقية ومشروعاتها الحضارية المتمدنة.
إن الفرق كبير وشاسع اليوم بين من يريد بناء تحتيا مزيفا من اجل مصالحه الآنية وبين من يريد بناء فوقيا من اجل إنسان جديد يمكنه أن يحيا ويواجه معضلات القرن 21.. علما بأن المحصلة التاريخية ستكون للثاني لأنه سيخلق بالضرورة بنيته التحتية القوية، ولكن المشروع الأول مجرد نفخ طائش في الهواء.. إذ كمّن ادخل قطيعا من الأبقار المتدافعة في صالة رائعة تعزف فيها سيمفونيات رخيمة من الدرجة الأولى!
هل المشكلة منحصرة فقط في الحكام والقادة الذين يعتمدون على بعض من المستشارين وحواشي الوصوليين والنرجسيين والمازوشيين؟ أم أن المشكلة اكبر من ذلك، اذ لا يمكن أن يكون الحكام سببا في كل المصائب! فثمة مشكلات معقدة مغروسة في أنظمتنا الاجتماعية.. وثمة جماعات وأحزاب سياسية وعصبيات اجتماعية لا تقبل أن تغير من أنماط تفكيرها أبدا، ولكنها اندفعت في أحايين مختلفة لإشباع رغباتها من خلال السلطة والنفوذ.. انه الرضى بالجهالة والتخلف والمقنع تحت شعارات شتى وعناوين براقة! وعليه، فالأمر ليس سهلا وهينا أن تسير مجتمعاتنا في ركاب العصر! ومن أسوأ ما تتصف به حياتنا في مجتمعاتنا اليوم جعلها المظاهر الكاذبة والخادعة والبراقة والعابرة بمثابة حقائق كبرى وتبني عليها كل الأشياء! ولا أريد أن يفسر كلامي هذا تفسيرا سياسيا استلابيا، بل أريده نقدا فكريا واجتماعيا من اجل بناء مستقبل أفضل لأجيالنا القادمة.

من اجل بنى فوقية عربية وتكوينات جديدة:
اعتقد اعتقادا راسخا بأن صناعة جديدة للبنى الفوقية كفيلة في تخليص مجتمعاتنا من معضلاتها وأزماتها ومشكلاتها التي يقف التخلف في مقدمتها وانتهاء بالفوضى والهمجية.. إن نجاح أي مشروعات جديدة تستوجب أن يغير العديد من الزعماء والساسة والمسؤولين من فهمهم للحياة، وان تبدأ مشروعات حيوية وخصبة وإستراتيجية دائمة من اجل منح مجتمعاتنا حرياتها المتنوعة التي يفتقدونها مع تطبيقات صارمة لسيادة القانون وإصدار تشريعات ضد البلادة والتخلف والأمية وضد القمع والدكتاتورية وضد الأمراض الاجتماعية وضد العادات البالية.. ناهيكم عن مشروعات تربوية وتعليمية وصحية وتضامنية وإنسانية عالية المستوى يستفيد أي مجتمع من تجارب غيره.. إن القضاء على الجهل والأمية لم يعد مشروعا كافيا اليوم حتى يعد منجزا خارقا كما يوهمنا البعض، إذ كان لزاما على السياسات الحكومية أن تختزل الزمن في صناعة بنى فوقية لضمان تقدم مجتمعاتنا في القرن العشرين.. وتولي الأذكياء والنشطاء والأمناء مكانتهم الحقيقية وصناعتهم للقرارات وتنفيذها.. ولكن للأسف لم يحدث كل هذا وذاك.
وعليه، لابد أن تتغير الذهنيات الجامدة وتتغير القياسات في كل المعالجات من أحادية المطلقات إلى التفكير النسبي بعيدا عن المفاخرة والتنطع الفارغ وصناعة الأكاذيب والشعارات وتمجيد البطولات وتقديس الزعماء والعيش في مستنقعات الأوهام.. مع وجوب احترام مواريثنا ونقد تواريخنا وتقويم الشأن العام وتقديس المال العام والعناية بالصالح العام.. نريد بنى فوقية لها القدرة في صناعة مستقبلنا وتطوير مصالحنا العليا، لكي تنجح في تسيير مجتمعاتنا المعاصرة وسط بحر العواصف وما ينتظر أجيالنا القادمة.. فهل هناك من يسمع ويستجيب في بناء فوقيات تغدو لها القدرة في تطوير إستراتيجية عليا لنا تحت شمس القرن الواحد والعشرين؟

ملاحظة المؤلف:كنت قد نشرت مقالا مختزلا حول هذا الموضوع في جريدة النهار البيروتية يوم 14 ديسمبر 2002، وها أنا ذا أقدم محاولة إضافية له بطلب ملّح من بعض الطلبة والزملاء كونهم يعتبرونه واحدا من أهم الموضوعات الحيوية.