السياسات المائية العراقية
أولا: الفرات
مدخل: ما نفع العربة بلا حصان
قبل أسبوعين، جرى حوار علمي بيني وبين الصديق الدكتور حسن الجنابي المختص بالثروات المائية العراقية والسفير لدى منظمة الأغذية العالمية، معقبا بشكل شخصي على دعوتي بمقال لي عنوانه quot; هل سيختفي الهلال الخصيب quot; بشأن عدم حاجتنا إلى بناء أي سدود أو خزانات عراقية، إذ عقّب قائلا: ففي العراق سدود تكفي بل وتزيد كثيرا عن حاجتنا للتخزين وتصل حوالي 150 مليار متر مكعب، (للمقارنة معدل الإيراد السنوي لدجلة والفرات بحدود 60 مليار وإذا حسبنا إيرادات السنين الثلاثة الأخرى فلم تزد على الثلاثين) وبالتالي لا ضرورة لبناء سدود إضافية لأنها ستكون فارغة إلا من الهواء، إضافة إلى أن الأموال التي ستستثمر فيها ستكون أموالا ضائعة بنفس الوقت الذي يحتاج فيه قطاع المياه والفلاحة إلى تلك الاستثمارات في مشاريع أخرى..
هذا كلام صحيح، فالمشكلة تكمن اليوم في شح المياه من مصادرها في تركيا وإيران، بعد أن تجاوزتا الحدود المسموح بها في ما تمنحه كل منهما للعراق.. إذ أن نهري دجلة والفرات قد قلت مياههما كثيرا عما كان في السابق، فضلا عن انحسار مياه انهار أخرى وجفاف نهيرات كثيرة كانت تزّود الأرض العراقية بما تحتاجه، وصلتنا الأخبار بردود فعل قوية من قبل عراقيين يعبرون فيها عن سخطهم جراء جفاف نهر الوند، وما فعلته إيران فيه! إن سياسات كل من تركيا وإيران الاروائية، أو ما يجري فيهما من تغييرات سواء من خلال بناء السدود أو بناء خزانات أو تحويل مجاري انهر وينابيع قد اضر بالعراق كثيرا كدولة متشاطئة معهما.. وعليه، فان الضرورة باتت ماسة لدراسة نظم وأفكار ومشروعات في كيفية التصرف بما هو بين أيدينا.
مثالب السياسة المائية العراقية
تعرضت السياسة المائية في العراق ولم تزل لمجموعة انتهاكات غادرة وخطيرة.. أضرت كثيرا بالمشاريع التنموية العراقية سواء الزراعية أو الصناعية أو الخدمية.. إذ أنها كانت بأيدي ساسة جهلة لا فهم لهم ولا تخصص عندهم، بل وهم كانوا وما زالوا يفتقدون الحد الأدنى من المعرفة العراقية، وخصوصا الشؤون المائية كثروات وموارد طبيعية.. منذ أكثر من خمسين سنة والعراق قد ابتعد كثيرا عن دوره الذي كان قد خطط له أن يبدأ اكبر مشروع بتنفيذ أعظم ثورة زراعية، ولكنه انحرف انحرافات خطيرة منذ خمسين سنة.. وهو اليوم يتجه لكارثة بيئية قاتلة، والمجتمع العراقي لم يزل منشغل باحتياجاته وأدنى متطلبات خدماته.. يفكر بأمنه واستقراره.. يفكر بالنهايات التي ستجعله آمنا مستقرا على ترابه! إن دجلة والفرات قد هزلا هزالا شديدا، بل وسيصبح مجراهما مجرد سواقي مائية وسيخسر العراق ثروته السمكية وثروة الاهوار وثروة القصب وثروة زراعة الشلب.. سيهجر ما تبّقى من الإنسان أرضه، وهو المتبقي فيها منذ خمسين سنة على إتباع السياسات الهوجاء التي قادت البلاد إلى الهلاك. إن العظيمين دجلة والفرات على امتداد التاريخ، يبدو أنهما سيصبحان عبارة عن جدولين مائيين يمكن قطعهما سيراً على الأقدام.
(1) قصة الفرات
دعوني أسائل كل المسؤولين العراقيين؟
دعوني أتوقف قليلا من اجل بيان معيار الجدوى الاقتصادية في بناء السدود بين الدول المتشاطئة، فالجدوى المائية هنا هي غير دراسات الجدوى الاقتصادية، بسبب ارتباط الماء بالمتغيرات المناخية والسكانية.. فضلا عن صعوبة التحكم بمصدر المياه ودول أعلى النهر.. وعليه، فلا قيمة لبناء سد تخزيني إذا كانت الحصص المائية محدودة وغير كافية لتلبية حاجات العراق كله. هنا اجزي كل الشكر لكل من الدكتور حيدر كمونة والأستاذ صاحب الربيعي على المعلومات الممتازة التي سجلاها بهذا الصدد بفعل تخصصهما واهتمامها، ولقد كتبا كتابات مهمة في هذا الشأن، من المهم الانتباه إليها. دعوني أعالج في مساءلاتي نهر الفرات، وأعود في حلقة أخرى كي أعالج مشكلة نهر دجلة.
1/ إن العراق كان يعلم منذ العام 1957 ببدء تركيا مشروعاتها التخزينية على الفرات بانشائها سد كيبان وحتى افتتاحه عام 1974، لم يستطع العراق أن يفعل شيئا لحماية حقوقه، فالزعامات المتعاقبة كانت منشغلة بالهوس الثوري والشعارات القومية والتقدمية والاشتراكية والمسيرات الجماهيرية.. السؤال الكبير الآن: أين كّنا عام 1957 نحن العراقيين وأين صرنا عند نهايات القرن؟
2/ هل يعقل أن أول مفاوضات مائية تجري بين العراق وسوريا في العام 1962 بدمشق لتنسيق مواقف البلدين من مشروعات تركيا المائية على الفرات ويتم تشكيل لجنة سميت بـ (اللجنة الفنية المشتركة)، ولكنها لم تمارس أعمالها بشكل جاد حتى تفعيلها في العام 1980 ومن ثم أنضمت تركيا إليها في العام 1984.؟ أي مضى أكثر من ربع قرن حتى تجلس الأطراف الثلاثة معا. أبعد كل هذا من تقع عليه اللائمة؟
3/ دعوني أتوقف قليلا من اجل بيان معيار الجدوى الاقتصادية في بناء السدود بين الدول المتشاطئة، فالجدوى المائية هنا هي غير دراسات الجدوى الاقتصادية، بسبب ارتباط الماء بالمتغيرات المناخية والسكانية.. فضلا عن صعوبة التحكم بمصدر المياه ودول أعلى النهر.. وعليه، فلا قيمة لبناء سد تخزيني إذا كانت الحصص المائية محدودة وغير كافية لتلبية حاجات العراق كله.
4/ إن العراق كان يعلم منذ العام 1957 ببدء تركيا مشروعاتها التخزينية على الفرات بإنشائها سد كيبان، وتخبرنا أوراق مجلس الأعمار العراقي أن العراقيين كانوا يحثون الخطى في إكمال مشروعاتهم العملاقة، وان نوري السعيد كان يعمل سياسيا من خلال ميثاق بغداد على أن حماية حقوقه المائية، وشهدت اجتماعاته مع الجانب التركي برئاسة عدنان مندريس إصرار نوري السعيد على تضمين الميثاق ذلك.
5/ هل يعقل أن أول مفاوضات مائية تجري بين العراق وسوريا في العام 1962 بدمشق لتنسيق مواقف البلدين من مشروعات تركيا المائية على الفرات ويتم تشكيل لجنة سميت بـ (اللجنة الفنية المشتركة)، ولكنها لم تمارس أعمالها بشكل جاد حتى تفعيلها في العام 1980 ومن ثم انضمت تركيا إليها في العام 1984.؟ أي مضى أكثر من ربع قرن حتى تجلس الأطراف الثلاثة معا. أبعد كل هذا من تقع عليه اللائمة؟
6/ إنني أسأل: لماذا رفض العراق في نهاية العام 1967 الاقتراح السوري عندما باشرت سوريا ببناء سد الطبقة، إذ اقترحت على العراقيين: توزيع لنسب المياه بدلا من توزيع الحصص (وهذا ما تطالب تركيا به اليوم كل من الجانبين العراقي والسوري) وكان المقترح السوري ينص على حصول العراق على نسبة 59% وتحصل سوريا على 41% من الفرات، إذ حددت الأراضي الزراعية العراقية بنحو 67%، أما سوريا بنحو 33%، ثم يتم توزيع فائض المياه مناصفة بين الطرفين، ولكن الطرف العراقي رفض المشروع السوري وفشل المشروع!
7/ ولكن عاد العراق عن رأيه، ففي آذار 1972 طالب العراق سوريا اعتماد تقرير 1967 بين الجانبين لتقاسم نسب المياه (59 % للعراق ولسوريا 41 %) ولكن رفضت سوريا العودة لتبني اقتراحها السابق. وعندما اكتمل سد الطبقة عام 1975 وشرعت سوريا بالتخزين، ساءت العلاقات بين البلدين مع تدخل أطراف عربية ودولية.. وبقيت بلا اتفاق حتى العام 1990
8/اتفق البلدان بتاريخ 16 / 4 / 1990 على تقاسم نسب المياه مع سوريا بنسبة 42 % لسوريا ونسبة 58 % للعراق. وأن قرابة ربع قرن من أهم الأزمان ذهبت سدى نتيجة خلاف سياسي وعقائدي بين الطرفين الحاكمين وكم ذهب من ضحايا تلك الخلافات.. إن زمننا ذهب هدرا، كان يكفي أن تؤسس فيه إرادة مشتركة كفيلة بإنتزاع اتفاق مائي مع تركيا لتوزيع عادل لحصص المياه.
9/ ان شروع تركيا عام 1983 بتنفيذ مشروع جنوب شرقي الأناضول (ومختصره الكاب GAP) من دون أية اتفاقيات مسبقة مع دول الجوار لم يجد أي ردود فعل عربية قوية إزاء مشروع عملاق سيؤثر تماما على مستقبل الحياة، اذ انه يضم 13 مشروعا رئيسياً (7rlm;) منها على الفرات و (6rlm;) اخرى على دجلة ويضم المشروع سدودا كبرى تقرر على 80% من مياه الفرات و20% من مياه دجلة.. وقسم المشروع الذي انتهت مخططاته ودراسته الهندسية والهيدروليكية عام 1963 الى عدة مراحل من القرارات تنتهي جميعها عام 2005 rlm;. ومن اشهر السدود التركية: كيبان وقره قاية واتاتورك ونفق اورفه وبيره جيك وهناك مشاريع اخرى قيد الانشاء والخطط لها وهي مشروع سورج - يا زكي، مشروع ري يميان - كاهاتا، مشروع ري ادي يامان- اوكهر - اريان، مشروع غازي عنتاب، مشروع ماردين جيلان- بينار ومشروع بوزوفا..
10/ ينبغي ان تتوحد جهود البلدين العربيين الشقيقين سوريا والعراق من اجل انقاذ ما يمكن انقاذه بشأن الفرات، فالحياة العراقية الفراتية سيصيبها الدمار، فأن الحاجة الفعلية لمياه نهر الفرات تبلغ سنويا في تركيا 13.64 مليار م3 rlm;وسوريا7.95 rlm; مليار م3 rlm;والعراق19 rlm; مليار م3. فهل من الانصاف والحق الدولي ان يتعّرض العراق للفناء، بعدم صلاحية (1.3rlm;) مليون دونم في العراق وان سبع محافظات تقع على النهر اضافة الى 25 فضاء و 58 rlm;ناحية وما يقارب 4000 قرية يسكنها5.5 rlm; مليون مواطن وان 40% من مجموع الطاقة الكهربائية في العراق يعتمد انتاجها على مياه نهر الفرات ستتأثر مباشرة بسبب نقص مياه النهر.
ما العمل؟ ما مستلزماته؟
إن العراقيين اليوم يعيشون أزمة حقيقية صعبة ومتنوعة (سياسية واقتصادية واجتماعية تهدد العراقيين بكارثة)، بل أن اغلب العراقيين يعانون من جفاف وقلة مياه، فضلا عن شحة الأمطار، وأنهم في مشكلة، واعتقد أن العراق اليوم من الضعف بمكان بحيث لا يستطيع التأثير على سياسات تركيا وإيران بعد انسحاقه اثر حروبه وأوبئته السياسية وشعارات أحزابه واحتلاله.. فهل نحن بحاجة إلى سياسة أروائية عراقية متقدمة أم لا؟ إذا لم نكن بحاجة ماسة إلى سدود وبحيرات جديدة، لقلة ما يردنا من مياه، فهل سنبقى عاجزين عن فعل شيء كما عجزنا عن الانطلاق بثورة أروائية على امتداد قرن كامل؟ السنا بحاجة إلى إحياء اهوار العراق وإحياء عمليات البزل وغسل الأملاح؟ السنا بحاجة إلى توليد كهرباء؟.. وعليه:
1)علينا أن نكون أذكياء في التعامل مع القانون الدولي للحصول على حصصنا المائية (أو النسب المتوفرة والفائضة) كما وردت في الاتفاقيات كافة. والعمل على إصدار ميثاق جديد بين الدول المتشاطئة للغرض نفسه.
2)الاستئناس بما يقوله المختصون في شأن المياه العراقية، إذ لا يمكن المجازفة من دون الاستفادة من خبراتهم وآرائهم، وان تعتمد الحكومة العراقية على كل الخبراء العراقيين بتأسيس لجنة أو مجلس خبراء.
3)جعل مسألة المياه ذات أولوية أساسية في أي مباحثات مشتركة بين الدول المتشاطئة في الإقليم: العراق وتركيا وإيران وسوريا. وان تستند حقوقنا على اسس اعتمدتها دول أخرى لها مشاطئتها مع دول أخرى.
4)لابد من تأسيس منظومة أسس في التعامل مع واقع صعب، ينبغي استخدام المعرفة في هذا الباب، بعيدا عن الأزمات السياسية، فالمسألة تتعلق بحياة العراق ومستقبله قبل ماضيه وحاضره.
5)أن تكون المسألة المائية واحدة من أولويات العراق والعراقيين، فالماء وحقوقنا المائية أهم ما يمكن التفكير به عراقيا بعيدا عن كل الخلافات السياسية والاجتماعية بين العراقيين.
كيف؟
لقد أهملنا نحن العراقيين ثروتنا المائية في العهود العسكرية والحزبية منشغلين بالشعارات السياسية والثورية والدينية وبالصراعات والحروب والوحدة القومية والاشتراكية.. لقد أهملنا تطوير سياساتنا الإقليمية الحيوية مع كل من إيران وتركيا باعتبارهما من مصادر ثرواتنا المائية، أيضا، إننا كعراقيين بأمس الحاجة للاستفادة من تجميع مياه الإمطار في كل من فصلي الشتاء والربيع وتغذية كل الأراضي الصالحة للزراعة في الموصل وبادية الجزيرة التي تعد من أكثر المناطق العراقية غزارة في الأمطار
المطلوب اليوم من الآخرين، واقصد بهم كل المختصين بالثروات والموارد المائية العراقية أن يقوموا بأعمال استثنائية يسهموا بآرائهم وأفكارهم علنا وإمام الناس والمسؤولين، ونحن نرى أي إدارة وأي فلسفة وأي منهج يتبعه من تولى حكم العراق منذ خمسين سنة بصدد ثرواتنا المائية، والى أين وصلنا اليوم!
في المقال القادم، تكملة لمعالجة الموضوع بدراسة مشكلات نهر دجلة، وخصوصا روافده من ايران.
المؤلف: حقوق النشر لايلاف وحدها فقط
www.sayyaraljamil.com
التعليقات