لإيران، مكانة كبيرة في التاريخ السياسي والحضاري العالمي، والإيرانيون مجموعة شعوب متنوعة، استطاع البارسيون (الفرس) أن ينشروا أنفسهم في كل مكان من الأقاليم التي تتكّون منها إيران.. والإيرانيون أناس حيويون ومنتجون ولهم تاريخهم الحضاري الممتد إلى أعماق الأزمان الكلاسيكية، وكانت لهم دولهم وأنظمتهم السلالية السياسية المتنوعة منذ العهود الساسانية حتى العصر الحديث وقد اقترن اغلبها باسم الشاهات (= جمع شاه / ملك) او الشاهنشاه (: ملك الملوك).. ولقد قفزت إيران إبان القرن العشرين قفزات كبيرة ومنذ الحركة الدستورية فيها عام 1906، واستطاعت أن تخلص نفسها من المحتلين ببراعة متناهية لتؤسس على أعقاب حكم القاجاريين مملكة البهلويين عام 1925 التي انتهت عام 1979. ومنذ هذا الأخير حتى اليوم وعلى مدى الثلاثين سنة الأخيرة تعيش حكم ولاية الفقيه الذي أسسه الإمام آية الله الخميني، وهو أول رجل دين يحكم إيران، بل وأول رجل دين يحكم في تاريخ الشرق الأوسط مؤسسا لتجربة دينية لها إيديولوجية سياسية تتخذ صفة مقدّسة، ولكنها استعارت تسميات معاصرة لنظام جمهوري وبرلماني. السؤال : كيف كانت تجربة إيران الإسلامية على مدى ثلاثين سنة 1979 ndash; 2009؟ وهل نجحت التجربة الدينية الإيرانية في عالم معاصر؟
ما طبيعة العام 2009؟
قلت في حوار سابق نشر لي يوم 4 آذار / مارس 2009 مجيبا على سؤال عن مخاوفي من العام 2009 وهل ستصيب توقعاتي التي أطلقتها عنه منذ قرابة عشرين سنة، قلت : quot; إنني اتوّقع في العام 2009، مخاضا جديدا لظاهرة تاريخية ستتبلور عن انقسام جديد، ولكن هل سيأخذ مجتمعاتنا إلى الحداثة والتقدم، أم سينتكس إلى الوراء لثلاثين سنة قادمة. إن سنة 2009 اعتبرها خطيرة جدا، وقد قلت ذلك عنها منذ الثمانينيات عندما تبلورت حالة المد الديني باسم تصدير الثورة في إيران أو باسم الصحوة الدينية عند العرب.. وكنت دوما اذكر أن 2009 ستقفل هذه المرحلة وهذه الظاهرة، ولكن ربما تبلورت ظاهرة أخرى لثلاثين سنة قادمة هي أتعس وأقسى! إذ أن مجتمعاتنا قد انتكست انتكاسات مريرة، ولم يعد لها القدرة الآن على الانطلاق لزمن طويل في ظل التحديات العالمية وفي ظل وجود سلطات غبية، وفي ظل مشاكل صعبة تعيشها مجتمعاتنا اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، فلقد أسهمت القوى الدينية الأصولية بالذات في تأخر المجتمع وتكبيل إرادة الإنسان.. فضلا عن أن كوجيتو العقل لم يزل صامتا وكأنه في سبات طويل الأمد. إن العام 2009 علامة فارقة في تاريخنا ووجودنا، وان لم يستطع احد اليوم من استيعاب ذلك، فان الأجيال القادمة في المستقبل ستقف طويلا متأملة في ما أقول!quot;.
الثورة.. التداعيات
لست ساحرا ولا منجّما.. ولكنه مجموعة توقعات مستنبطة من دروس التاريخ الصعب.. إن جيلا يختتم اليوم حياته ليأخذ دوره، ربما بشكل غير متكامل، جيل من نوع آخر.. جيل له غير المفاهيم التي أعلنت وشاعت على امتداد ثلاثين سنة مضت.. نعم، أن العام 2009 هو من اخطر الأعوام التي تقفل من خلاله مرحلة جيل العام 1979 بعد مرور ثلاثين سنة على ما اسمي بـ quot; الثورة الإسلامية في إيران quot; وما نتج عنها من تداعيات كبيرة جدا على الشرق الأوسط والمنطقة العربية والعالم الإسلامي.. إن ما يدور في الشوارع الإيرانية هو تعبير جيل جديد يريد أن يفتتح مرحلة جديدة لثلاثين سنة قادمة، وبالتأكيد ستكون مختلفة عن مرحلة الجيل السابق.. إن ما يجري في شوارع إيران اليوم هو تعبير ساخط وبمنتهى الحيوية لرفض كبت عمره ثلاثون سنة.. ولد اليوم في العام 2009 كي يقول : ها ذا انتهى دوركم ليس يا حكام إيران، بل انتهى دور الإسلام السياسي الذي اثبت للعالم كله فشله في الإدارة والزعامة وبناء المجتمع وانقسام الأمة.. لقد ثبت فشله من خلال عناصره الفكرية والقيادية التي بدا واضحا أنها لا تعرف أي فلسفة للحكم، ولا تدرك طبيعة المناورات السياسية، ولا تفهم التراجع أبدا كونها تعتمد في السياسة نصا إلهيا لا يأتيه الباطل أبدا في قضية ولا تعتمده في قضايا أخرى.. إنها قادرة على أن الغاية تبرر الوسيلة ما دامت سياساتهم صامتة ولا يعرف الناس ما الذي يريدونه وهم يقفون حائلا أمام أي حكم مدني، وأمام أي دستور مدني، وأمام أي ديمقراطية حقيقية!
المبادئ تستلهم.. ولا تصدّر بشاحنات!
إن إيران في نظامها الجمهوري الإسلامي لو اقتصرت ملتزمة سياساتها في الداخل الإيراني، ربما كانت ستنجح لثلاثين سنة أخرى.. ولكنها، أخذت بعدا إيديولوجيا تسويقيا، والتزمت دورا تبشيريا ليس للمذهب الجعفري نفسه الذي نعتز به جميعا، بل لإيديولوجية (ولاية الفقيه) وشرعت بتصديرها باسم تصدير الثورة. ثالثا إن الثورة والجمهورية والإمام معا قد اخذوا دورا مقدسا وكما يعلنون دوما، وأنهم وحدهم فقط يحتكرون الحكم الإلهي، وهذا بحد ذاته يشكل بعدا مخيفا! ربما هناك كثير من الناس لم تزل معجبة بالديمقراطية الإيرانية، ويصّرون على أن إيران تتمتع بديمقراطية من دون أن يسألوا أنفسهم سؤالا واحدا : لماذا بقي نظام ولاية الفقيه في السلطة بإيران أكثر من ثلاثين سنة؟ ومن يقبض على كل السلطات في نهاية الأمر؟ ولماذا يضرب كل المتظاهرين في الشوارع ضربا مبرحا؟ وهل ثمة أحزاب مدنية ليبرالية، أو راديكالية تمارس أدوارها السياسية الحقيقية في إيران؟
إن تجربة رجال الدين وهم يحكمون إيران لأول مرة في التاريخ، قد أثبتت فشلها الذريع، كون أصحابها لم يستطيعوا، وببساطة شديدة، أن يوفقّوا بين الدين والسياسة لاستحالة ذلك، ولم ينجحوا في استعارة الديمقراطية لحكم ثيوقراطي يتحدث باسم الآلهة.. ولم ينتصروا للإرادة الإيرانية في أن تكون مثلا أعلى للعالم الإسلامي كله.. كما أنهم خرجوا إلى العالم المعاصر بأثواب قديمة، وقد جعلوا من أنفسهم قديسّين في عصر لم يعد يحتمل المطلقات الساذجة! ووعدوا الناس المنتظرين بوعود خيالية لم تتحقق أبدا من دون أن يتراجعوا عن أخطائهم كونهم رجال دين! قاموا وما زالوا بتصدير أفكارهم ودعاياتهم وحملاتهم ومبادئهم في العالم الإسلامي كله.. مساهمين ليس في خلخلة امن دول وسياسات أنظمة.. بل في زعزعة المجتمعات وانقساماتها والانحراف بتفكيرها والتأثير على ثقافاتها.. وكان وراء هذه quot; السياسة quot; صرف مليارات الدولارات من أموال الشعب الإيراني على الصحف ووسائل الإعلام.. والكل يعلم مدى الاختراقات التي حدثت في بلدان عربية وإسلامية تأكلها المشاكل الأمنية والسياسية، وفي مقدمتها : لبنان والعراق والجزائر والسودان واليمن.. الخ
متى تنتهي موجة القداسة؟
منذ ثلاثة عقود من الزمن ونحن ننادي بأن العام 1979 كان من اخطر أعوام القرن العشرين، كونه حوّل الشرق الأوسط كله إلى طريق غير الطريق الذي كان لابد أن يسلكه.. ثلاثون سنة ونحن نقول بأن العام 2009 سيكون محور انعطاف، ونقطة توقف تاريخية، لما كان يجري على امتداد ثلاثة عقود ضائعة من تاريخ الشرق الأوسط بأكمله! ثلاثون سنة، هو عمر القداسة السياسية التي فجّرت المجتمعات قاطبة عندما زعزعت تفكير الناس وأخرجتهم من نزعاتهم الوطنية لتقودهم في متاهة عواطفهم الدينية، مع اختلاف المذاهب والطوائف والمدارس الفقهية العلنية والباطنية.. بل والأخطر من ذلك يتمّثل بخلق الانقسامات الطائفية! ثلاثون عاما ومجتمعاتنا لم تعد تفكر بالسياسة والفكر السياسي ولم تعد تجدد اتجاهاتها، أو تمارس أدوارها الدنيوية، أو تطور نزعاتها المدنية والدستورية وأفكارها الاجتماعية وإبداعاتها الثقافية باسم المحرمات، وكره الأشياء، وتكفير المخالفين.. كونها انشغلت بتصدير الثورة الدينية، وبالصحوة الدينية، والدولة الدينية، والحرب الدينية، والمؤسسات الدينية، والإمام المنتظر، والعصمة الدينية، والحركات الدينية، والقرارات الدينية، والمرجعية الدينية، والإسلام السياسي لا الحضاري.. وصولا إلى الصحافة الدينية، والفضائيات الدينية، والحوارات الدينية، والمذاهب الدينية، والقوى الدينية، والبرامج الدينية.. الخ ثلاثون سنة مضت بعد العام 1979، وقد حصدت الحركات الدينية تاريخ الحركات السياسية والوطنية في كل أرجاء منطقة الشرق الأوسط، بل ولم تبق عليها، وقامت بتشويه مبادئها ورجالها وكل عناصرها.. مستفيدة من فشل التجارب الدكتاتورية.. ومن فشل تجارب بعض الأحزاب القومية والشوفينية.. إن الإسلاميين، وخصوصا، في إيران حصدوا على مدى ثلاثين سنة نتائج تاريخ القرن العشرين، وبدل أن يحققوا حلم ملايين الناس التي كانت تفكر بان الإسلام هو المنقذ، وان أسلوب العودة إلى الدين هو العلاج، بات الناس اليوم أمام تجربة اقل ما يقال عنها أنها شوّهت الدين وتجلياته وأنزلته من سموه في النفوس، وهبطت به من عليائه في التاريخ، كي تستخدمه في مستنقعات سياسية وجداليات عقيمة.. وتنال من طقوسه لتحّول الخطبة الوعظية إلى خطبة سياسية، والتقاليد الخاصة إلى دعايات مضادة، ورجال التابو إلى قادة سياسيين.. وتّحول رجال الدين سواء كانوا علماء دين أو صغار ملالي إلى (علماء جهابذة بشهادات مزوّرة) في السياسة والاقتصاد.. أصبحوا رجال علم وتاريخ.. أصبحوا رجال دولة وقانون.. أصبحوا رجال سلطة يخشى منهم في البازار، وفي الشوارع، وفي الحدائق العامة، وفي مؤسسات البلاد وفي المدارس والجامعات.. وتغلغلهم في كل مفاصل المجتمع.
وأخيرا: متى تعود الاوطان المفقودة؟
اليوم وعند منتصف العام 2009، تنكشف الحقائق التي كانت مغطاة ولا يعرفها أحد أمام العالم كله.. اليوم، وبعد مرور ثلاثين سنة، ينهض جيل جديد يبحث عن حريته المفقودة.. ويبحث عن وطنيته المطعونة.. ويبحث عن دور معاصر له في الحياة.. ويبحث عن الروح المدنية والانفتاح على الثقافات.. ويصنع له تجربة رافضة تقول بفشل التجربة الإيرانية في الحكم والحياة.. ليسأل حكامه المعصومين عن موارد ثلاثين سنة لبلد هائل بمساحته الجغرافية، وغني جدا بثرواته الطبيعية والبشرية وهو اليوم يعاني من البطالة والتشرد وكل التحديات.. ليقول للعالم: ها نحن نبحث عن أوطاننا المفقودة تحت ركامات القهر والقمع.. ويعلن للتاريخ بأن أي نظام ثيوقراطي لا يمكن له أن يعيش في مثل هذا العصر.. وان الديمقراطية لا يمكنها أن تكون مزيفة ولها مقاسات معينة على حجم ما يريده ولي فقيه، أو ما تستعمله قوى معينة.. أو أحزاب أو نخب رجال دين ترى في جلوسها مع ليبراليين وراديكاليين وعلمانيين وقوميين وغيرهم تحت قبة البرلمان كفرا وإلحادا!
www.sayyaraljamil.com
التعليقات