كانت الحياة السياسية العراقية ولمّا تزل في مأزق منذ زمن طويل، واضطهد المجتمع العراقي كثيرا مذ تخبّط العراق في دوامة من بحر عواصف سياسية وانقلابية على أيدي أبنائه، وبمؤامرات الطارئين عليه، وتدخلات الآخرين فيه بحصاراتهم واختراقاتهم واحتلالاتهم، وكنت ولم أزل أطالب كل العراقيين أن يتفقوا على مبادئ عراقية موحّدة كي يجسدوا أدوارهم الحقيقية في معالجة إمراض العراق وتناقضات مجتمعه وخوف أجياله من المجهول.. لا أقول أن هناك من سيقّدم حلولا سحرية، بل أن الزمن كلما يتقّدم نحو الأمام، فان مشكلات العراق تبدو أكثر تعقيدا.. وهي بحاجة الى البدائل الأساسية التي سأذكرها بعد قليل..

أسئلة ينبغي الاجابة عليها
يسألني العديد من الأصدقاء والقراء الكرام: هل من رؤية جديدة للعراق يمكنها أن تشعل أمام المستقبل ضوء اخضرا؟ وهل سيكّف أولئك الذين وجدوا العراق ميدانا رحبا ليلعبوا فيه كيف يشاؤون من دون أي روادع ولا أي خطوط حمر؟ وهل ثمة ساسة وقادة وإداريين وتكنوقراط يمكنهم أن يلعبوا بأوراق عجز غيرهم عن اللعب بها وخصوصا في إدارة الأزمات التي لم يخلص منها العراق في أي عهد من العهود التي مّرت عليه؟؟ وما الحالة التي سينتهي إليها العراق اثر الانتخابات العامة القادمة التي يتحفّز لها كل العراقيين المشتركين في العملية السياسية أو غير المشتركين وحتى المعارضين؟ وهل سيقع كل العراقيين في نفس الفخ الذي وقعوا فيه سابقا؟ وخصوصا بعد تصويتهم على الدستور الذي انقسم العراقيون على مضامينه؟ ولماذا يتسّرع البعض من اجل قسمة العراق وفدرلته على أسس غير طبيعية معمول بها في العالم؟ وهل يعد هذا البعض ما يريد تحقيقه يقع في إطار العملية السياسية التي أخفقت، كما اعتقد، أم انه يقع منذ اللحظة التاريخية الأولى في إطار العبث بالمبادئ الوطنية العراقية؟ وإذا كان هناك من يسخر من هذا الكلام كونه يعّبر عمّن يؤمن بالمبادئ العراقية التي تجمعنا على تراب واحد.. بل وأصبح يعّد كل من يقول به متهما بالشوفينية والبعث كيلا يمرروا أجندتهم الانقسامية التي لم تقتصر على تزييف الواقع، بل إنها تلاحق التاريخ القريب لتزيفه أو تسحقه! وعليه، إلا يحق لنا أن نسأل : ماذا حقق العراقيون حتى يومنا هذا من ادوار في إطار العبث بالمصالح العليا التي تهمنا وتهم أجيالنا من بعدنا؟

العراقيون اضاعوا انفسهم
ربما كان العراقيون من الوطنيين القدماء في النصف الأول 1909 ndash; 1959 أكثر حظا وتعبا ونزاهة وإخلاصا في أن يقدموا للعراق عدة مشروعات سياسية في بناء العراق، بعد ان كان ثلاث ولايات عثمانية قديمة متلاحمة (الموصل وبغداد والبصرة)، وقد خرج من الحرب العالمية الأولى ضعيفا ومحتلا من قبل البريطانيين.. أولئك لم يفشلوا في مشروعاتهم وجهودهم، وعلى الرغم من أخطائهم، ولكن وقف ضدهم من قام بإعاقة أدوارهم التي كانوا سيسلمونها إلى الجيل التالي الذي كان سيتسّلم المسؤولية منهم بالتقادم، بعد أن حدثت تطورات واسعة في المؤسسات والأحزاب والصحافة والخدمات والنقابات وتآلف المجتمع العراقي مع بعضه الآخر! إن العراقيين اليوم، لم يعرفوا كيفية معالجة أمورهم في ما بينهم أبدا، على عكس غيرهم من المجتمعات.. مع فقدان النزاهة، وتسّيد الجهلاء، وغلبة المحاصصة، ودسترة الانقسامات تحت مسميّات أنيقة! لقد أضاع العراقيون طريقهم منذ زمن طويل، وعانوا من الانقلابات والأحادية والعسكريتاريا والحروب والحصارات والدكتاتورية والتخلف.. مع مشاركة الجميع في التصفيق للأقوى.. فهل ننسى المسيرات والتطبيل والتهريج والتزمير..؟؟ هل ننسى الرقص على اهراق الدم العراقي وتمجيد الشعراء الشعبيين للحروب المجنونة وسكوت رجال الدين على قتل العراقيين، ودبك الدباكين على صراخات المغنين في الراديو وشاشات التلفزيون، مع جموع المصفقين والمهللين والهتافين والممثلين في الشوارع والميادين..؟؟

لم نزل عند مفترق طرق صعبة
إنهم كانوا وما زالوا على مفترق تاريخ، فالدلائل تشير ـ اليوم ـ إلى أن هناك أجندة متصادمة بين هذا الطرف عن ذاك! وان شبح الحرب الأهلية يطل دوما بشن الأزمات والمشاكل حول قضايا مختلقة لم نكن نسمع بها من قبل! لقد أرادوها سلة واحدة باستطاعة الأقوى أن يستحوذ على ما فيها، وهم يدركون أن العراق بحاجة إلى أن يستعيد عافيته، وان المجتمع العراقي الذي عانى الويلات، ينبغي عليه أن يتنفّس الصعداء، ويخّلص نفسه من مشروعات أمريكية وإقليمية ومحلية ويستعيد حريته بعد أن افتقدها طويلا.. كي يرّتب شؤون بيته.. إن تجارب كل الشعوب التاريخية تعلمنا أن أبناءها الحقيقيون يتوّحدون في لحظات التحدي، وبرغم كل الظروف، حتى يحققوا مشروعهم الوطني، ومن ثّم يتناظرون أو يتجادلون حول حقوقهم وواجباتهم.. حول مطالبهم أو مصالحهم.. كان على الساسة والمتحزبين العراقيين الذين اندفعوا لتّولي شؤون العراق منذ انبثاق مجلس الحكم حتى هذه اللحظة أن يكونوا على درجة عليا من الوطنية العراقية.. وعليهم أن يعترفوا بأخطائهم، ويعلنوا لكل الناس بأنهم قد فشلوا.. إنهم يحاربون اليوم بعضهم بعضا عند الشدائد، ولكنهم يتجمهرون لقسمة المصالح والأدوار.. إن بعضهم لا يقبل بنجاحات غيره، ولا يرضى بأن يبارك للآخر انتصاره.. إنهم في حلبة صراع كالديكة حينا وستجدهم أصدقاء عند الاقتراب من موعد الانتخابات العامة!

الزعامات الجديدة
أتمنى على الشعب العراقي أن يطالب بانتخابات عامة على الأسماء وليس على القوائم، إذ لا نريد أن تعاد مأساة الماضي.. ربما تتغير وجوه وتأتي وجوه، ولكن كلها من سلة واحدة وجوهها معروفة للعراقيين، وهي مالكة ليس للعراق، بل للزمن العراقي اليوم.. إنهم الزعماء الجدد. لقد كان عليهم بعد مسيرتهم الصعبة في بحر العواصف أن يتعلموا من التجارب الثورية الراديكالية، أو الحرة الليبرالية، أو الانقلابية العسكرية، بل ومن التجربتين الدينية والقومية.. الكثير، وأن يلمّوا شملهم السياسي من خلال المشاركة والمعارضة معا تحت زعامة وطنية تجمعها مبادئ عراقية واحدة (طالبت بها منذ 2003)، لا زعامات متنوعة، لا يعرف اغلبها فن الزعامة، ولا أسلوب المناورة ولا جدل المفاوضات، ولا القدرة في الأخذ والمطالبة بالمزيد.. ولا مشاركة الناس حياتهم الطبيعية: زعيم لا يريد أن يكون أبا للعراقيين كلهم، فهو باق على رأس حزبه! وزعيم يريد أن يهب إيران المليارات تعويضات حرب! وزعيم مخضرم يريد تقبيل أعتاب الأمريكان على الرغم من إرادة العراقيين المجروحة! وزعيم يهدد بالانفصال عن العراق من حين إلى آخر! وزعيم فشل في تأسيس إقليم البصرة! وزعيم يهدي رامسفيلد سيفا من ذهب! وزعيم يهدد بالانقلاب العسكري بين زمن وآخر! وزعيم يريد عودة الماضي إلى الحياة! وزعيم يريد خصخصة الموارد النفطية العراقية! وزعيم معارض يبارك الإرهاب!

البديل: خمسة مستلزمات من أجل حياة عراقية مدنية جديدة
سيتهمني بعض المتشرذمين مع هذا الحزب، أو تلك الجماعة، أو ذاك التحالف.. بأنني اكتب رافضا ومعارضا من دون تقديم البديل ـ كما جرت عادتهم ـ، وبعض البائسين يتهمني بالحنين إلى الماضي الدكتاتوري الذي كنت ولم أزل أدينه، كوني مؤمن بالديمقراطية والسلام، وكنت من أوائل الذين أدانوا ذاك الجحيم، وكلهم يدركون أنني ارفض العودة إلى الماضي رفضا قاطعا، ولا يمكن للعقل أن يستوعب أن العراقيين بعد كل ما أصابهم وفرقهم وزرع الأحقاد في قلوبهم.. أن يعودوا كي يرهبهم زعيم واحد، أو حزب واحد، أو حزب قائد.. وعليه، فان البديل عندي واضح جدا وقد صرّحت به مرارا وتكرارا، وهو يطالب :
1. بتعديل الدستور العراقي تعديلا جذريا وعلى أيدي هيئة تتألف من كبار رجال القانون العراقيين المستقلين عن تأثير أي حزب من الأحزاب الحاكمة أو غير الحاكمة..
2. العمل على بلورة إستراتيجية عراقية جديدة لحل المعضلات التي خلقتها العملية السياسية الحالية بثلاث محاور : قضية العراق المدولنة أولا، ومشكلة جعله حقل ألغام إقليمي ثانيا، ومعالجة مشكلاته الداخلية التي كان من ورائها ساسة متحزبون أغرقوه بالحرب الأهلية الطائفية والمليشيات العرقية من خلال جماعاتهم وجيوشهم وقواتهم الخفية والعلنية..
3. ان شعار دولة القانون شعارا ممتازا، فالعراق لا يمكنه أن يتقدم بلا قانون.. ولكن أطالب بتفعيل هذا الشعار وممارسته ضد القتلة والمجرمين والعصابات والمرتشين والمزورين والإرهابيين وضد كل مسؤول يثبت انه متورط أو متهم تثبت إدانته.. الخ
4. إسباغ الشرعية على وجود جيش واحد وشرطة واحدة (وقد طالبت منذ العام 2003 بتأسيس درك عراقي وقوة حدود مسلحة)، وإلغاء كل المليشيات والجماعات المسلحة والقوى الخاصة في عموم العراق من شماله حتى جنوبه.. مع تحريم السياسة على الجيش والشرطة واستئصال الاختراقات.
5. إن محاولة تطبيق كل ما تقدم أعلاه، سيتيح المجال مباشرة لتطوير خدمات العراقيين ومستلزمات حياتهم الصعبة.
6. إن محاولة تطبيق كل ما تقدم أعلاه، سيتيح المجال لتخفيف المحاصصة وإلغاء التوافقية والقضاء على الانقسامات العرقية.. ومنح المواطنين العراقيين فرصهم في التعبير وعودة المهاجرين، والحد من هجرة العراقيين، وتوفير فرص الحوار.. الخ
7. إن محاولة تطبيق كل ما تقدم أعلاه، سيتيح المجال أمام كل العراقيين كي يكونوا كأسنان المشط في التوظيف والمناصب والمكاسب.. وتقليل الفجوات بينهم باعتبارهم أبناء وطن واحد يتساوى الجميع أمام القانون في حقوقهم وواجباتهم.. ولا تميزهم الا كفاءاتهم وقوة عطائهم وإنتاجهم.
8. إن محاولة تطبيق كل ما تقدم أعلاه، سيتيح المجال أمام العراقيين ليخرجوا على العالم بهيئة جديدة وبصورة جديدة.. يطالبون العالم كله، وأمريكا على رأسه، بحقوقهم وتعويضاتهم.. وإعادة تعمير العراق والارتقاء به.
9. لا يمكن المضي بأية انتخابات عامة، إن لم يصدر قانون مدني متطور للانتخابات وقانون للأحزاب..
10. تلقى المسؤولية كاملة لكل من يريد إقحام العراق بالمشكلات ويدوس القانون بقدميه.. ويسرق أموال الشعب العراقي.. ويعمل ليل نهار على انقسام العراق، وشرذمة شعبه، ولا يعمل من اجل طمأنينة العراق والسلام في العراق والأمن في العراق وتطور العراق..

واخيرا: لكل زمان دولة ونسوة ورجال
ان ما قدمته الآن من بدائل لا أجدها تعجيزية أبدا، ولكن بالإمكان أن تتبلور شيئا فشيئا على ايدي عراقيين ليس لهم إلا الصالح العام والحفاظ على المال العام.. عراقيون يؤمنون بالتغيير والتطور.. عراقيون عندهم القدرة على الاعتراف بالخطأ والتعلّم منه والاعتذار أمام الناس.. عراقيون عندهم القدرة على التنازل في الوقت المناسب.. عراقيون من نوع جديد حتى يمكننا القول: إن لكل زمان دولة ورجال، ولكنهم من أفضل كائنات العراق نسوة ورجالا.

www.sayyaraljamil.com