ما رسالة هذا المقال؟
الدولة هي الفكرة الارتكازية الحديثة في دراسة السياسة، و quot;الدولة quot; مجموعة كبرى من المؤسسات التي يسيرها رجالات دولة ـ كما اصطلح على تسميتهم، إذ ينضوي معهم نسوة أيضا يتمتعن بخصائص رجال دولة ـ. إن الكثير من الناس، لا تعرف من تكون هذه الكائنات الرائعة التي تسمى بـ quot; رجالات دولة quot; ولا يدرك كل الطموحين، ما الوظائف التي يمارسها أولئك الرجالات، وخصوصا في ثقافاتنا السياسية العربية والإسلامية. إن هذا quot; المقال quot; لا يكتفي بتقديم خصائص رجل الدولة، بل انه سيعالج من هو رجل الدولة في منطقتنا وفي العديد من دولنا الجديدة في حلقة ضافية.. دعوني أقدم اليوم الخصائص النظرية التي رآها بعض فلاسفة الفكر السياسي الحديث..
هنا، علينا أن نؤمن إيمانا حقيقيا بأن أي رجل دولة معاصر لا يمكن أن ينجح في عمله ومهامه، إلا إن كانت دولته تضم مجتمعا مدنيا، وان دولته تنتمي انتماءا حقيقيا إلى العالم الحديث بعيدا.. فالدولة الحديثة هي دولة مؤسسات لا دولة أحزاب وجماعات تنتمي انثربولوجيا إلى العصور الوسطى.... إننا أمام خيارين لا ثالث لهما، أما أن نؤمن بالدولة الحديثة التي عرفها العالم المعاصر لنا، أو نؤمن بكيانات هزيلة تتشرذم أفكارها وأنظمتها وأحزابها بين الماضي والحاضر! إنني أهدف من هذا quot; المقال quot; بحلقتيه أن أوصّل رسالة معينة إلى كل المسؤولين العرب وغير العرب في مجتمعاتنا مقدما خصائص رجال الدولة ومدى استفادتنا من تاريخنا المعاصر.. وهل كان هناك من رجالات دولة في عالمنا العربي أو في دول المنطقة؟ وكنت أتمنى أن يعالج مثل هذا quot; الموضوع quot; من قبل المختصين في العلوم السياسية والفكر السياسي في ثقافتنا العربية.. ربما سوف لا نقف على نتائج تحّل مشكلات الحياة السياسية وتفاقمها، ولكنها ستفتح الطريق أمام الأجيال القادمة لمعرفة من يستوجب أن يكون رجل دولة بحق..

رجالات الدولة.. هم بناة التاريخ
عندما نقف أمام أي كيان ناجح، أو إزاء أي خلق مبدع، أو حيال أي فكر وقّاد.. يستشهد المؤرخون برجالاته، فيقال رجال فكر ورجالات دولة.. رجال علم إزاء رجال دين وقد قيل بأن لكل زمان دولة ورجال. ونقرأ عن الرجال البناة الذين لهم خصائصهم سواء كانوا من المفكرين الوطنيين، أو القادة السياسيين، أو المسؤولين الإداريين، أو الجنرالات العسكريين.. ورجل الدولة قد يكون زعيما سياسيا أو يكون إداريا مدنيا، أو يكون جنرالا عسكريا.. فهو الذي يتميز بحمل صفة رجل دولة، ومهما صنع الآخرون لتقليده أو تمثيل دوره، فهم ليسوا بقادرين على حمل قدراته الخاصة، ذلك انه الوحيد القادر على صناعة تاريخ دولة بين الدول، ويمكن أن يشار إليه بالبنان، نظير القرارات الصعبة التي اتخذها، أو المشاريع الإستراتيجية التي صنعها أو قام بإدارة صنعها.
يخبرنا التاريخ الحديث أن مفهوم الدولة يرتبط ارتباطا حقيقيا برجالاتها.. وان رجل الدولة لا يمكننا أن نجده بين ركام السياسيين الذين لا خبرة لهم في إدارة شؤون الدولة من كل النواحي. وان الدولة لا يمكن أن تنجح مؤسساتها، وتتناسق معا.. إلا بعد أن يتوّلى شأنها أناس لهم خبرات عالية المستوى بتصريف شؤون الدولة، كما أن أهم ما يمكن أن يتصف به رجل الدولة معرفته العميقة بشؤون مجتمعه ومتطلبات شرائحه وكيفية التعامل مع المشكلات التي تحدثها العلاقة بين كل من الدولة والمجتمع.

رجل الدولة.. متى يحضر؟
لقد وجدت من خلال قراءاتي ومحاضراتي في تاريخ العالم الحديث، أن المجتمع والدولة معا بحاجة ماسة إلى رجل الدولة أثناء الأزمات وأيام الحروب الصعبة، وهذا ما طالب به الفيلسوف توماس هوبز منذ القرن السابع عشر.. فمن ينتصر لذلك المجتمع، يصبح بطلا أو ماردا ومن يفشل في أداء مهمته فان التاريخ يطويه بين طياته! وبعد التطورات التي لحقت بالدول الأوربية الحديثة اثر سقوط الإمبراطوريات القديمة.. كان رجل الدولة يبحث عن تأسيس توازن بين تطوير المؤسسات وبين ما يحتاجه المجتمع من قوانين. وان quot; القانون quot; هو أهم ما يمكن أن يلتزم به رجل الدولة ليكون مثلا أعلى أمام المجتمع.. وان التاريخ الحديث يخبرنا ببروز رجالات دولة سواء في أيام المحن والشدائد عندما تنتقص سيادة الدولة أو سواء على أيام التحرر والتمتع بالسيادة والاستقلال والحالة الطبيعية..

خصائص رجل الدولة
أكد الفيلسوف ماكس فيبر على أن أهم خصائص رجل الدولة، شخصيته القوية التي يفرضها على الجميع، وقوته في ادارة المواقف والمرؤوسين على رأس الهرم الذي يقف عليه، وكيفية صنع قراراته سواء كانت تكتيكية أم إستراتيجية، وقدرته في الدفاع عن آرائه من دون أن يخرق القانون العام، أو أن يستخدم أية وسائط غير مشروعة، ربما يناور ولكن بمهارة وذكاء لتحجيم الخصوم وعدم الالتفات للمارقين والسفهاء.. إن من أهم الخصائص التي ينبغي التمتع بها: خبراته في الشأن البيروقراطي، واعتماده على أناس أكفاء في تسيير شؤون مؤسسته.. إذ باستطاعته أن يدّور العجلة كي تستمر بالدوران من دون أن يساهم كل يوم بدفعها، ولم يبق عليه الا مراقبتها، وانه يضيف بين فترة وأخرى قوة جديدة لها. وهو الذي له القدرة على صياغة الأسئلة ونوعيتها التي يسألها لمستشاريه.. انه لا يهتم بالخطب والأقوال والشعارات بقدر ما يهتم بالأفعال وترجمة ذلك بمنجزات تحسب له لا عليه.
إن هوبز وغيره لا يقبلون أن تكون السلطة بيد أناس تتمرن على القيادة، أو أن تكون الدولة حقل تجارب لأناس ليست لهم خبرات عميقة بشؤون المؤسسات. وعليه، فلقد وجدنا أن رجالات الدولة في تاريخ العالم الحديث، لا يمكنهم أن يأتوا إلى السلطة من فراغات، ولا من ثكنات ومعسكرات، ولا من بيع وصوامع وجوامع وحسينيات.. أو من أوكار حزبية أو مقاه ومنتديات.. أو من شوارع وحواري وكابريهات! إن رجالات الدولة يأتون من خلال اختيارات صعبة ضمن حكم مدني، أو ضمن حكم عسكري خلال ظروف صعبة، أو ضمن حكم امني طوارئ في ظروف حرجة.. إن عدا ذلك، فلا يمكن أن يقبل رجال دين، أو يقبل ثوار شعبيين، أو يقبل ضباط انقلابيين لتسلم الحكم.. إذ أن النتيجة ستنقلب ضدهم كونهم سيتخبطون بشأن الدولة التي ستتفكك المؤسسات على أيديهم.. أو أنهم سوف لا يتمتعوا بقدرات إدارية وخبرات سلطوية في إعادة شؤون المؤسسات وتسييرها.. إن تجاربنا الفاشلة لم تستفد من تاريخ بناء الدول الحديثة في أوربا والعالم. لقد كان القرن السابع عشر بالنسبة للتجربة التاريخية التي مرت بها انكلترا خير دليل على تأسيس الحكومة المدنية.. والنظر الى الدولة كونها حالة طبيعية لا علاقة بالالهة بها مهما كانت طبيعة تلك الالهة! ولا يمكن أن تجد رجالات دولة في العالم الحديث يلبسون قلنسوات البطاركة أو عمائم الملالي.. أما إن اخذ البعض بتجربة إسرائيل، فهي لم تكن قدوة لنا عبر خمسين سنة، حتى يقتدى بها في واحد من رموزها التاريخية!

رجالات الدولة.. ضمانات مجتمع مدني
نظر جون لوك إلى الدولة الحديثة مثل قانون من قوانين الطبيعة، وان يتم من خلالها تأمين اتقاء الضرر إزاء المجتمع الذي يسّيره القانون بما في ذلك تأمين صحة البشر وحرياتهم وممتلكاتهم.. ولا يمكن أن يقوم بذلك إلا رجل دولة The State Man.. إن مثل هذا quot; الكائن quot; قد لا نجده نسخة طبق الأصل لكل الرجالات الناضجين. وكان جان جاك روسو في القرن الثامن عشر على خلاف هوبز، إذ دعا إلى أن يكون رجل الدولة صريحا مع شعبه وغير منعزل عنه أبدا، كاساس طبيعي من أسس التلاقي بين الدولة والمجتمع، شريطة أن يكون المجتمع مدنيا.. وقال عمانوئيل كانط بأن ليس هناك رجل دولة إلا من خلال تكوين مدني لضمان السلام الدائم.. ويدعو ديفيد هيوم في كتابه عن أصل العدل والملكية إلى ركام التجربة وتكوين الخبرات، إذ يرى بأن من يمارس دور صانع القرار، عليه أن يكون ابن الدولة نفسها، وان جاءها متأخرا، فعليه أن يبدأ من نقطة الصفر لمعرفة ما يمكن عمله يوميا.

واخيرا: رجالات عصر جديد
لقد طّور جون راولز نظريته في الدولة وممارسة العدالة إبان القرن العشرين، وأضفى عاملا أساسيا على رجل الدولة، إذ ألزمه بالإلمام بشؤون البلاد ومعرفته بمشكلاتها شرط أن لا يكون طرفا فيها.. رجل الدولة عليه أن ينظر نظرة عمودية للحياة في بلاده لا نظرة أفقية.. وان لا ينحاز لأي طرف من الأطراف، حتى وان كان هو نفسه جزءا من أية مشكلة في البلاد، ولكن بشرط أن يكون مخلصا لحياديته، وغير مصطنع لمواقفه أو مضطرب في قراراته.. وكان ماكس فيبر قد رأى في رجل الدولة حالة جديدة مع القرن العشرين عقب مرور مائة سنة على الثورة الفرنسية وتداعياتها القومية على عموم أوروبا.. مطالبا بتحرر المجتمع السياسي من قوالبه القديمة للانطلاق في مسارات جديدة، وعلى رجل الدولة أن يستمد رؤيته من قوة العصر الذي يعيشه، لا أن ينظر إلى الوراء أبدا. فهل سنجد في مقال قادم مثل هذه الخصائص.. أو أن نجد رجالات دولة في حياتنا الحديثة؟؟

ملاحظة: للمقال صلة بتقديم اجوبة وامثلة تاريخية وحية في مقال قادم
www.sayyaraljamil.com