quot;ما جادلت جاهلا إلا وغلبني وما جادلت عالما ًإلا غلبتهquot;.. قول منسوب للإمام علي
الرأي: معناه وتعريفه
إن طريق الديمقراطية في مجتمعاتنا محفوف بالأخطار ومجابه للتحديات.. والديمقراطية ليست مجرد عنوان أو شعار يرفعه كل من يطلب سلطة أو منصب أو قوة.. وعندما يتمكن من هدفه يلغي كل ما أشاعه على الناس زورا وبهتانا.. وأريد بهذا quot; المقال quot; أن أقف وقفة مطولة عند فلسفة الرأي، لنعرف متى يمكننا أن نصنع رأيا، مهما كانت طبيعة هذا quot; الرأي quot;؟ ومتى نقبل بالرأي الآخر لكي نقابله بالبديل الآخر.. هنا نحن بحاجة إلى طرفين أو أكثر، أي أن ضرورة الحياة تقضي بولادة رأيين أو أكثر. ولكن ما هو الرأي؟ ما تعريفه؟ ما طبيعته؟ إن الرأي Opinion هو الفكرة الواحدة التي يعلن عنها صاحبها، أو تلك التي يتبناها قائلها، أو تلك التي يتداولها جماعة معينة، وجمعها (آراء)، فإذا ما وجد ما يقابل الرأي مخالفا له أو متمما عليه، فيعد ذلك رأيا آخر. إن quot; الرأي quot; هو باختصار تعبير عن ضمير برهاني لشخص أو مجموعة أشخاص، فهو خاص، أما إن انتقل إلى المجتمع كي يتبناه، فيصبح عند ذاك quot; رأي عام quot;. ومن المفترض أن يكون الرأي مفهوما، ويزداد قوة بالبرهنة عليه، وعندما تسبق البرهنة طرح الرأي، فمن المفترض ان يغدو مفهوما صائبا، يفحم ما أمامه من آراء.
الرأي: فلسفة وممارسة عند العرب القدماء
إن الرأي يبدأ بوجهة نظر، وعندما تمتلك الصفة والبرهنة عليها، تغدو قوة معّبرة عن ضمير.
ولابد أن يميّز المرء بين الرأي والمعلومة، فالرأي قد يختلف عليه، ولكن المعلومة لا يمكن الاختلاف عليها.. الرأي هو شعور واعتقاد بأمر ما، يريد صاحبه من خلال طرحه أن يقنع الآخر به، فان خالفه الآخر، فليس معنى أن كلا منهما على صواب أو خطأ، هالا في حالة إثبات أيا منهما مبرهن عليه، والرأي عرفته ثقافة العرب القديمة في الشعر وعلم الكلام والخطاب والفقه والنقد والجدل والاستماع والأتباع.. ولهم فيه مذاهب شتى، فالرأي عند المتنبي قبل شجاعة الشجعان، والرأي عند ابن حزم مدرسة للاستحسان، والرأي عند الجرجاني قول نقدي.. وهكذا عند الجاحظ والمعّري وابن خلدون وغيرهم. إن فلسفة الرأي في التفكير السياسي قد تطورت في أوروبا كثيرا في العصر الحديث، واتخذت لها سبيلا للتعبير عن عقيدة أو إيديولوجية أو فكر معين أو شعور خاص أو عام.. إن الرأي صناعة صعبة جدا إن استطاع صاحبة أن يقنع الآخرين به، أو على اقل تقدير زرع أسس كافية لاستبعاد رأي آخر مخالف له في الأبعاد والمضامين.
تطور حرية الرأي والتعبير غربيا
لقد اهتمت حكومة وودرو ويلسون الأمريكية عند مطلع القرن العشرين بالرأي مهما كانت قيمته او حقارته.. وان تكون ديمقراطيا ينبغي عليك الاستماع للرأي الآخر واحترام صاحبه الذي يخالفك التفكير والتعبير معا بدءا بوجهات النظر الفردية وانتهاء بصناعة الرأي العام للشعوب. ان تبادل الآراء المتباينة أصبح سمة لحرية التعبير، فمعنى أن القانون (أو: الدستور) في البلاد المؤمنة بالديمقراطية ينبغي عليها إن توفر مساحة كبرى لحرية التعبير وصناعة الرأي وان تقبله سواء عملت به أم لم تعمل.. إن مجتمعاتنا لم تستطع حتى الآن صناعة الرأي حتى يمكنها أن تمارس حرية التعبير.. وعليه، فان من أولى متطلبات الديمقراطية انك تزرع الوعي بالرأي المخالف.. وتمنح المجال أمام كل الناس ليعبّروا عن آرائهم بكل حرية.. شريطة ان يتم الاعتداء على مشاعر الآخرين، وشريطة تحريم استخدام الحرية للطعن والسباب وإيذاء المشاعر والشتائم والتجريحات للآخرين.. انك في أي بلد حر، باستطاعتك ان تعّبر عن أي رأي تريده، ولكن ضمن حدود ما يسمح به القانون.. وان يفّكر طويلا المرء قبل ان يمارس حرية التعبير التي قد تنطوي على خطورة وعواقب مخيفة.. وكما يقول جون ستيوارت ميل بأ، هناك حاجة للحماية.. ضد طغيان الرأي السائد والشعور.. في حين يؤكد كارل بوبر في فلسفته بأن الرأي يستلزم قواعد متطورة مع الزمن، وليس لدينا قوانين طبيعة.. أما والتر ليبمان فيذكر بأن تباين الآراء مهما كانت قوتها ينبغي ان تعمل ضمن مصلحة عامة.. ويرى ويلز بأن الرأي غير المقنع، لا يمكنه أن يأخذ حيزا او جهدا..
ماذا علينا ان نفعل؟
تثبت الأيام يوما بعد آخر، أن مجتمعاتنا لا تعرف معنى الجدل، وإنها لا تميز بين الاستماع للقول أو محاججة الرأي أو المجادلة.. وان ثمة خوف داخلي في مجتمعاتنا من قول الحقائق التي يؤمن بها كل فرد من الأفراد.. وليس بالضرورة أن تكون تابعا لرأي أو متبوعا لآخر، بل إن حاجة مجتمعاتنا اليوم إلى الوعي بتبادل الرأي من دون أية تعصبات أو تشنجات أو ممارسة أية تجريحات.. إن كانت هناك بنية صلدة من تفكير معين، أو أسلوب قائم، أو إيديولوجية لا تتزحزح عن أمكنتها.. فلا يمكن أن نجد أي مفهوم للحريات يصلح في مجتمعاتنا! إن بقيت هناك خطوط حمراء أو كواتم صوت على تفكير الناس ودرجة وعيهم وعلى ما يمكنهم أن يقولونه من أفكار وآراء.. فليس من الهين أبدا أن تمارس ديمقراطية مزيفّة لا أساس لها في الضمائر.. إن لم تجد في ثقافتك آراء شجاعة في أن تقول ما تؤمن به، فليس هناك أي مجال، بل ولا أي هامش من الحريات! إن لم تجد هناك اعترافات صريحة وذكريات صريحة وتعابير صريحة وفكر منفتح على كل الدنيا.. فلن يكن باستطاعتك أن تصف نفسك أو مجتمعك بالتقدمية أو الليبرالية الحقيقية.. إن لم يصطدم العقل صدمات عدة، وتتكسر انغلاقاته، كي يباشر انفتاحا حقيقيا على الحياة بكل نقائضها.. فليس هناك أي مجال للتغيير! إن لم يعترف المرء (مهما كانت درجته أو قوته في الدولة والمجتمع) بأخطائه في الرأي أو المعلومات.. فلن تتبلور أي حياة صحيحة.. إن لم تتخلص حياتنا من الزيف والأكاذيب، فستبقى فضاءات الاستبداد تسود في كل مكان وهي تورث الكراهية والأحقاد والصراعات.. إن صواب مجتمعاتنا ومصداقيتها ستجعل الأجيال القادمة، لا محالة، أكثر نظافة وأكثر مقاربة لحقائق الأشياء.. ثمة مقولة تتوالد وتتناقل من جيل إلى آخر في ثقافات مجتمعاتنا.. تقول: quot; ما كل ما يعرف يقال quot;! طيب.. لماذا لا يقال إن كان صوابا أو خطأ كي نتعلم من التجربة؟ لماذا لا تعترف حكوماتنا بهزائمها وأخطائها.. بل تبقى تمارس الأكاذيب على الناس؟
التعددية: لماذا لا يتقبلونها؟
لماذا تصفق مجتمعاتنا للأحادية؟ لماذا لا تتقبل حكوماتنا ومؤسساتنا أي نقد يوجه اليها؟ لماذا يجن جنون قادتنا من سماع أي رأي فيهم؟ لماذا يغدو الاختلاف في الرأي عداءا بعد جولة من صراخ وقطيعة شخصية.. هذا إن احتفظ المرء بكرامته وحريته الشخصية؟ ان السلطة في البيت قد تفرض حجرا على الأفكار.. وان السلطة في الحارة أو المدرسة أو الجامعة أو أي مؤسسة من مؤسسات التعليم.. تضع خطوطا حمراء أمام الإنسان لتغدو تقاليده تسيطر على تجديداته! أو التهديد بالعواقب اكبر من ممارسة أية حريات..
إن أهم ما تحتاجه مجتمعاتنا، وبالأخص أجيالنا الجديدة، احترام الآخر ورأي الآخر ومعتقدات الآخر وطقوس الآخر وموجودات الآخر وافكار الآخر.. إن على مجتمعاتنا أن تستوعب التعددية، وقبول وجود الآخر ورأيه في الحياة.. فضلا عن أن التعددية تقبل على حلبتها كل الآراء المخالفة بعيدا عن التشويه وبعيدا عن التجريح وبعيدا عن الفظاظة.. إن من يجادل سفيها فقد خسر، وان من يناقش جاهلا فقد انهزم.. إن من يحاور متطرفا أو متعصبا، فقد باء بفشل ذريع! فهل سيأتي ذلك اليوم على مجتمعاتنا، نجد فيها بشرا يدرك قيمة الرأي والرأي الآخر، بل ويدافع عن الرأي المخالف له بعد أن يسود الاحترام بين كل الأطراف.
وأخيرا: متى تتغير مجتمعاتنا؟
إن العواطف والهوس والخوف وسياسات الدولة وسلطات المجتمع.. كلها عوامل تغلق الأبواب امام التغيير. ومرة أخرى ننادي بأن إصلاح نظم التربية والتعليم وترسيخ الواقعية وحسابات العقل. إن الديمقراطية لا يمكنها أن تمارس من دون حريات تعبير.. وان حريات التعبير تطال كل شيء يمكن إبداء الرأي فيه.. دون أي حجب أو أستار.. حريات التعبير عن الرأي تكشف كل مستور وتفضح كل مسكوت عنه.. إنها تقبل التعددية بحكم ولادة أفكار جديدة..
إن مجتمعاتها كفاها تعيش النزعة الأبوية الأحادية في التسلط والتصفيق للرأي الواحد.. سواء في البيت أو المدرسة أو الجامعة أو مؤسسات أخرى تخدم المجتمع؟! إن أي تجربة ديمقراطية لابد أن تخلق لها أرضيتها وظروفها وعناصرها لتحيا طويلا..
التعليقات