مجتمعات تكلست مع مرور الزمن
ما من واقع تراكمت فيه خطايا الترسبات واختلاط الأمور بأسوأ مما يمكن تصّوره عبر مضي السنوات عن أحقاب الانحطاط، إلا ويستلزم التغيير نحو الأفضل.. واقع يمتد ليس كما أشيع لدى العرب وحدهم، بل انه متشابه لدى شعوب منطقتنا كلها، مع استثناءات بسيطة هنا او هناك، ومع اختلاف وتباين درجات الوعي والمستويات لدى النخب، ولكن يبدو أن الأجيال الجديدة تتقارب أفكارها وهي تطالب بالإصلاح بعد أن اعترفت النخب المثقفة والسياسية معا بضرورة quot; الإصلاح quot; مذ أدركت هذا الواقع المتهرئ الذي يعترف الجميع بحقيقة أمراضه وعلله وأورامه التي نصحو كل يوم على واحد منها ولا نسمع غير ولولة النساء وقيئ الرجال وصراخ الفضائيات وسذاجة المواعظ وصولا إلى القتل والنحر ومختلف البشاعات.. مع تباين سياسات الدولة وتخبطها في معالجة الأزمات والارتفاع بمستوى المجتمعات إلى مصاف التمدن.. ان مجتمعات عريقة في منطقتنا مثلا قد عادت إلى الوراء درجات مخيفة مقارنة بما كانت عليه قبل خمسين سنة، وانظر تجارب أفغانستان والباكستان وإيران ولبنان والعراق ومصر والجزائر والسودان.. وغيرها، وكم عانت من مشكلات وانقسامات وتراجعات!
ودوما ما أجيب على التساؤل القائل: ان المثقفين في مجتمعاتنا إن كثروا، فهل يقودون نحو التغيير؟ اقول: لو اجتمعت الآلاف المؤلفة من المثقفين لما استطاعوا النجاح إزاء قرار يتخذه مسؤول حكومي أو قائد أداري أو مؤسسة تشريعية أو رئيس حكومة.. بيد هؤلاء صنع القرار.. وهم يحتكرون ادارة دفة الدولة! طيب.. يسألني البعض: لماذا لم تتشكّل حتى ولو ارادة واحدة نحو التغيير في أي نموذج من نماذج بلداننا التي نعرفها؟ اقول: ليس بسبب إبقاء مصالح الحاكمين فقط ان يبقوا على كل التهرؤات، بل لأن سلطات اجتماعية جعلت مجتمعاتنا صلدة ومتكلسة تأبى التغيير.. أي انها غدت مكبوسة من خلال نفوذ سلطات اجتماعية قهرية تأبى ان يحصل التغيير من الناحية الفكرية باتجاه التمدن! او ان الناس يعيشون أوهاما ويتخيلون إنهم ينبغي ان يبقوا على مواريثهم التي ينساقون اليها بلا تفكير! والا ما معنى انك تقف إزاء بنية اجتماعية متحجرة في ظل سياسات معينة، وليس عندها أي ذرة من التفكير النسبي، علما بأن هذا الأخير لا يأتي هكذا بسرعة، بل انه بحاجة الى الوعي والتأمل طويلا والدرس المقارن.. وعلى القارئ الكريم ان لا يرى نفسه وحده في المجتمع، بل لينظر أحوال مجتمعاتنا كلها سواء في آسيا ام إفريقيا ومستواها وأحوالها.. وأين يكمن تفكيرها اليوم؟ إنها حقيقة مختزلة تقول: بأن البشر لم يفكروا يوما بأي أزمان أجهضت؟ انها دوما تخرج من كهوفها الحجرية بأرديتها البالية الممزقة.. لترفض واقعها بكل تقاليدها المهترئة!

مجتمعاتنا ودولنا: إعادة التفكير في تنمية التفكير
لو عاشت بقية الأمم والمجتمعات مثل هذا الواقع المضني الذي يجتاح عالمنا بكل مستوياته وطبقاته، وبكل تنوعاته وتعددياته، لكانت قد تعلّمت شيئا معينا من المدركات والدروس والعبر والتجارب، وإنها قد أدركت حقا بأن تجديد الحياة لا يمكنه ان يبدأ من الأوهام ومن العدم..، بل يقضي دوره الحقيقي في كيفية التعرف على مواطن الزلل ومكامن الخلل والاستجابة للتحديات المريرة حينما تقدر الأمور حق قدرها وتتم عمليات موسعة للاستجابة والمشاركات.. اذ ليس هناك حلبات للشعارات والهتافات وترديد المقولات والخطابات والتصريحات والاكذوبات التي لا نفع بها ابدا! انني اخش على مجتمعاتنا بعد مرور قرابة مائة سنة على تكويناتها المعاصرة من هول التراجعات التي تمر بها.. وخوفي على الاجيال الجديدة التي ليس باستطاعتها الا الاستسلام للتردي والتخلف!
من يرحم هذه المجتمعات المليونية المتنوعة التي تتوسط استراتيجية قلب هذا العالم وهو يتحرك بسرعة لا يمكن تخيلها وهي واقفة جامدة كابي الهول..؟؟ كيف يمكننا نشر آليات الوعي وأساليب التفكير الحديث؟ هل من استجابة حقيقية لدعوتي منذ سنين الى ان تقرأ الاجيال الجديدة مادة مهمة جدا في كل المدارس والاعداديات اسمها quot; تنمية التفكير quot;؟ من يقرن القول بالفعل بحيث لا تتربى الأجيال على المخادعة وعلى تقديم الفكر المزّور وعلى تشويه الحقائق وعلى ترديد المفبركات وعلى زراعة الأوهام وعلى الاستسلام للواقع؟ من يفتتح طريقا في الزمن؟ من يقرع الأجراس الثقيلة ويطلق الوعي من مكامنه ويجعل الناس لا تفكر الا في حقائق الأشياء وسمو المعاني وقيمة الزمن؟ من الذي يحمي مجتمعاتنا بكل ما ورثته من قيم واديان وتجليات ومواريث حسنة بعيدا عن نزق الغلاة والمتعصبين والمتطرفين؟

التفكير المعاصر اولا!
من يتوازن نفسيا ويغادر خطابات الانفعال والانوية والتمجيد والمفاخرات والسكونيات والاتكاليات والكسل التاريخي والعبث الاجتماعي وضياع الزمن الثقافي بقضايا لا علاقة لها بمشكلات هذا العصر وطبائع هذا العصر؟؟ من يترك صفات الخمول والهروب الجماعي من العمل والإبداع والمنتجات؟ من يزرع شعلة الأحياء والتقدم في النفوس ويبهج العقول من اجل بناء أجيال جديدة مختلفة؟ من يتعلم من دروس التاريخ المعاصر وتجاربه شيئا؟
ان ما عاشته مجتمعاتنا على مدى مائتي سنة من تجارب واختبارات لا خيارات فيها تمثّل نضوجا هرما لدى شعوب ومجتمعات أخرى.. في حين أن نصف قرن مضى بكل فضائحه وهزائمه وانكساراته وخوره في تراجعاته وشراسة بعض حكامه وتخّلف فقهائه.. شكّل بالأساس ثقافة مفضوحة بكل معايبها وبروز عوراتها وكثرة تناقضاتها.. بالرغم من فيض بلاغتها وهياج خطبائها وصياح ضيوف فضائياتها.. انها ثقافة هجينة فيها ترسبات العجز التاريخي ولا تمثّل صميم مكابدات نخبوية وإبداعية وتشكيلية رائعة. ثقافة نرجسية خاوية لا تنجح في الاعتراف بالآخر! ثقافة مجتمعات منهكة لا ترى في الحياة الاعلامية الا الصخب والرقص واللف والدوران واستعراض المفاتن والعضلات.. وفي ركن آخر يمجدّون الماضي التليد ويتعصّبون ويحكمون بقبضتهم على مكامن الحياة والزمن والاحلام فيقتلونها قتلا! ان مجتمعاتنا قادرة على التغيير، ولكن بعد ازمان اذ ان فيها قدرات هائلة وابداعات ساكنة وامكانات جديرة بالاحترام.. إنني أناشد الأجيال الجديدة ان تعيد التفكير بكل التناقضات التي تحفل بها حياتنا، وتقرأ حال اجيال سبقت كيف كانت تفكر تفكيرا واقعيا.. ان تعيد التفكير بكل الطوباويات التي تخنقنا..


مجتمعاتنا: لماذا غدت ساخطة وهاربة؟
وليس هناك من يجادل في التي هي أحسن، لأنه اعجز على فهم ما يدور في هذه الدنيا. والعاجزون عن بلوغ المستوى الإنساني هم أعداء الحرية. ويشكل عدم الاعتراف بالخطأ في أوساطنا السياسية والثقافية والإعلامية على مستوى المجتمع والدولة من كبائر الامور التي اخّلت بموازيننا في هذا الوجود الصعب.. اننا نعالج الأمور بالعواطف الساخنة والتأوهات الدافئة والصياح بحيث تصم آذاننا وتعمي عيوننا عن أعمق تجليات هذا العصر واقصى تحدياته.. ليس لأمور تافهة بل لو أدركت دولنا ومجتمعاتنا ما تحتاجه ألاجيال في المستقبل عندما يختزل التاريخ دوراته، لادركت انها ستجد نفسها خارج الزمن! إنهم يسارعون بتخلفهم على تفكيك تصلباتهم وتدمير حياتهم بدءا بذواتهم وهويتهم وتكويناتهم وانتهاء بموضوعاتهم وحساباتهم ومنتجاتهم الى حيث المصدر المجهول.. وان الحقن والمعالجات والمهدئات والمسكنات سوف لن تنفع البتة، فالوعي مستلب والاغتراب قائم.. والاوطان مفتقدة! ولا يظنن أحد بأن الآخرين قد أطلقونا في الصحاري، فتاهت علينا الطرقات.. بل بقينا نشعل في أنفسنا التناقضات حتى وصلنا الى درجة اختلطت علينا روح المقاومة بين الخير والشر.. وغدا المجرم بثياب راهب، وهو يقتل الأبرياء وبدأ الواقع المنكود يّفّرخ ارهابا وارهابيين..
ومن هو المسؤول عن بناء الأجيال اليوم وهي لا ترى في بيئاتها الا ما هو سطحي وبليد ومتخلف دوما؟ هل صياغة المستقبل تحددها الأناشيد السخيفة والأغاني الهابطة والمواعظ المكررة والمهرجانات العقيمة والمؤتمرات والندوات الفارغة والفضائيات التافهة؟ ان سخط مجتمعاتنا قاد الى هروب الاجيال الجديدة الى المجهول.. الى الروح.. الى الاغتراب.. الى التشرد.. الى الهجرة!
وعليه، متى تتم صياغة الانسان من جديد لفهم مرجعياته وتأصيل هويته بعيدا عن التعصب والانغمار في امواج بحر الظلمات؟ وهل ضمن حياته وأولاده وسكنه ورزقه وعمله وعيشه وكرامته الانسانية؟؟ كلها أسباب جعلت دنيانا مخترقة من قبل الآخرين.
من الذي قام بسد أبواب العقل وغلق التفكير وحجّر الذهنية ونفى العقل.. بحيث لم يعد يفّكر إلا في توافه الأمور وسخف الأشياء؟ وكيف غدا الإنسان مقلّدا لا يفكر ولا يحّكم عقله أبدا ولا يجتهد أبدا ولا يقارن في تناقضاته أبدا؟

هل من علاجات؟
وأخيرا، اذا يسألني احدكم عن اية علاجات او اقتراحات.. فانني اجيب بضرورة تنمية التفكير.. والمدني بكل ضروراته لمواجهة مشكلات العصر.. ان تحديات هذا العصر لا يمكن ان يعالجها فقهاء دين او قطيع من السياسيين او نخب من المثقفين او الشعراء او من يتبعهم من المبدعين.. ولكن يعالجها المربون ورجال التمدن والعلماء والقانون. ان تنمية التفكير لا يحتاجها الكبار فقط، بل يحتاجها الاطفال والشباب في كل مؤسساتهم التربوية والتعليمية.. وان يقلبوا المعادلة ليفكروا في المستقبل قبل الماضي؟ مشكلات الماضي لا تنفعنا ابدا، بكل ما انتجته لنا من رواسب عقيمة وانقسامات فاضحة واحقاد بليدة.. وعلينا ان نفكّر سائلين: هل يمكننا تخّيل العالم كيف سيصير بعد مائة سنة من اليوم؟ أليس من الأجدى بناء وعي جديد واستعادة العقل من جموده وتجديد الذهنية والانطلاق للتعامل مع كل العالم في الإبداع والإنتاج والتخلص من التواكلية والاستهلاك وقتل الزمن في توافه الأمور؟؟ الضرورة تقضي تقليل من التناقضات المريعة التي يعيش عليها واقعنا كله؟ وان تقوم مجتمعاتنا بمطالبة السلطات ايا كان نوعها سياسية ام إعلامية ام اجتماعية بضرورة التغيير.. اليس من المهم ان نقلل من شعاراتنا وخطاباتنا ومواعظنا ونكثر من قراءتنا وإنتاجنا وتثمين زمننا واحترام حياتنا؟ ان حياتنا في مجتمعاتنا من أخصب ما تعرفه البشرية، نظرا لما تتمتع به من جماليات وعلاقات وروحيات.. فهل بالامكان استعادتها بعد ان قتلها الاشقياء؟

www.sayyaraljamil.com