معنى لغة الصمت وأسئلة مواجهة
الصمت.. عالم صعب جدا، وقلما تناولته ثقافتنا العربية المعاصرة، بالرغم من تحليلات بعض الفلاسفة لمعانيه الكبيرة.. دعوني أتناول في مقالتي هذه، فلسفة الصمت، بجملة من الأفكار التي أريدها حافزا للناس كي يخرجوا عن صمتهم القاتل هذه الايام بعد موجات من التهريج والصخب في الشوارع والميادين العامة قبل اربعين سنة.. اذ ما كان الناس هكذا من قبل! ذلك أن ثقافتنا العربية لا تعرف الصمت، وان العرب ظاهرة صوتية ـ كما قالها الراحل عبد الله القصيمي ـ.. وإذا كانوا من أكثر الشعوب لغوا وكلاما.. ومن أكثر الشعوب نثرا وشعرا.. بل وغناء وطربا حتى جعلوا الأحجار تنطق، والسماء تزمجر، والأرض بتتكلم عربي! فهل هم اليوم كما كانوا عليه في الماضي؟ الجواب : لا ابدا! هل أدركوا أن quot; الصمت quot; ضرورة لهم ولأجيالهم القادمة؟ هل أدركوا حاجتهم للصمت..؟؟ لا ليناموا نومة أهل الكهف، بل ليتأملوا، ويصّلوا، ويفكروا، ويتدبروا، ويدركوا أن للصمت فلسفة جميلة.. انه لغة كاملة.. انه غير السكوت وقد سمعنا مذ كنّا أطفالا : إذا كان الكلام من فضة، فالسكوت من ذهب!
هذه جملة أفكار متواضعة، ازعم أنها تسهم في إثراء معرفتنا بفلسفة الصمت، وبغيتنا ان لا تبقى شعوبنا صامتة على الإذلال، ولا على الامتهان، ولا على الأحكام الجائرة.. لا نريدها أن ترضى بالأقنعة وتغلق ألسنتها عن كل ما يقترف بحقها! لا نريدها تخدع بالشعارات الوهمية، أو بالوصايا المرعبة، أو بالمواعظ الماكرة أو بالزواجر القاتلة؟ لا يمكن أبدا أن يسكت الشارع السياسي، أو المقهى الثقافي، أو المنتدى الاجتماعي، أو البازار والسوق.. لا يمكن للأحزاب أن تصمت، ولا النقابات أن تموت. إن الجيل الجديد قد لزم الصمت حيال قضايا مصيرية في حياته وحياة الأجيال القادمة.. فما الوعي الجديد الذي يسوده؟ وما الموجة الجديدة التي يركبها؟
دعوني في حلقتنا اليوم أعالج معنى الصمت فلسفيا ودوره في قتل الواقع.. كي أعود إليكم في حلقة قادمة معالجا الواقع من خلال الصمت سياسيا واجتماعيا..

1. الحياة ليست صامتة..
إنها، إن لم تنطق فهي تعبرّ عن قبح أو جمال.. الطبيعة لا تعرف الصمت، إنها تعبر عن أشكالها وألوانها ومضامينها بأروع الصور.. الكائنات ليست صامتة، كلها تبوح عن خلجاتها وسكناتها.. الإنسان هو أروع من يعّبر عن عواطفه كي لا يبقى صامتا.. إن الصمت هو قرين الموت ونهايات الأشياء وانعدام الحركة.. الصمت هو نقيض التعبير الرائع.. ولكنه، ضرورة إن كان البوح مجرد ثرثرة وترديد أصوات، واجترار كلام.. الصمت يصبح ضرورة عندما يدفع صاحبه ثمنا كبيرا إن لم يلتزم به! الصمت سيكون قاسيا جدا إن فرض على الإنسان بالقوة والإكراه! ولكن هل يستسلم أي كائن حي لهذا الصمت القاتل؟ ألا يبكي؟ ألا يئن؟ ألا يهمس؟ ألا يهذي؟ إن بقي صامتا صمت أبي الهول، فسيكبت طويلا كي ينفجر يوما، فيصرخ بوجه العالم ويمزق الصمت!

2. هل الصمت ضرورة؟
إن لم تكن بحاجة إلى الكلام.. فأصمت ودع الآخر يتكلم! إن لم توصل رسالة لها معنى معين، فأصمت ودع غيرك يوصلها! إن اكتشفت أو وجدت خطأ، فلا تسكت أو تصمت، وإلا فأنك تسجّل خطيئة كبرى! إن لم تستطع، فلا تتقّبل الأخطاء حتى وان جاء رفضك معبرا بحركة أو التفاتة أو انفعال أو إيماءة.. فهو يحكي صمتك ويعّبر عن موقفك! الصمت ضرورة لمن لا يريد أن يصرخ أو يصنع ضجيجا أو جعجعة بلا طحن! الصمت كهف يحتمي به أي كائن من صخب الحياة! الصمت ضرورة إذا كان النطق بليدا.. وكم من بشر دفع ثمن ما نطق به لسانه، أو ما عبّر عنه موقفه! الصمت ضرورة إن كان خطورة في عالم مجهول والنطق فيه قد يودي إلى كارثة.. لحظات الصمت تسبق أي عاصفة!

3. الصمت غير السكوت!
الصمت لغة تحوي كل اللغات، وهو مشاركة لا تعني السكوت.. الصمت اكبر بكثير، فهو تواصل يعبر الآفاق و يتجاوز المسافات... ويخترق حواجز الجفاء والفراق...والبعد... إن من يحلم ليس صامتا، من يهذي ليس صامتا.. من يغضب ليس صامتا.. من يشتاق لن يصمت..
من يبتسم لن يصمت.. من يتّغزل لن يصمت.. الصمت حركة وإيماءة وتعبير.. الصمت لغة الصامتين.. المعذبون لن يصمتوا، والمضطهدون ساكتون ولكنهم ليسوا بصامتين.. ليس الصمت هو القبول في كل الأحيان، ولكن السكوت ـ كما يقولون ـ علامة الرضا! وهل الصمت حكمة؟ إن كان يعني السكوت عن الكلام، فهو قول صائب، ولكنه إن كان يعني الصمت، فانه قول خاطئ..

4. الكون ليس صامتا: غابات يسودها الصمت!
استوقفني البرت اينشتاين في نصوص له، وهو يحكي قصة الحياة بأبعادها التي أدركها اثر اكتشافه البعد الرابع.. دعونا نتأمل ما قاله : الكون مثل غابات يسودها الصمت، وهي مدعاة للتأمل العميق، ولكنك تخشى منها في ظل عتمة ذلك الصمت الهائل، ولكنك تفزع عندما يكسر الصمت بحركة أو رشقة أو رنين أو حفيف أو فرقعة عظيمة.. تحدثها ظروف غامضة.. إن التهيؤات لا شكل لها بتأثير كثافة التشيؤات.. ولكن الأمور تبدو طبيعية عندما يعلن الصمت عن تعبيره بأشكال مستنيرة، فتتوالد أشياء جديدة لم نألفها.. إن اختراقات الصمت قد تأتي في حالة تصور الصمت من عدمه، لا غير، فالأصوات تكسر الصمت، ولكن التنوير يعبر عنه.. الكون كله حالة كبرى ولكن الأرض هي حالة معينة من نوع آخر!

5. حياتنا ازدادت صمتا
إن الإنسان لا يمكن أن يتمتع بمطلق الحرية أن لم يكسر حواجز الصمت من حوله، ويبدأ بحرية التفكير ونشوة التأمل، وهي ملاحظة أساسية في أن يكشف الإنسان عن ظواهر العالم والوجود والكون في كل لحظة.. أجد الحياة قبل خمسين سنة من اليوم تتكلم أكثر مما هو عليه الحال اليوم.. كانت الشوارع السياسية تفيض بالمظاهرات والمسيرات والشعارات التي تعبر عن إرادة سياسية أو اجتماعية أو حالة جوع.. اليوم خفت الحال وصمت الجميع.. وكانت المقاهي يسودها الضوضاء وتختلط الأصوات مع بعضها البعض.. اليوم، وكأن الحياة مجرد صالة سينما الكل صامتون ولا تسمع الا صوت الممثلين أو حركاتهم وأصوات سيارات أو شاحنات أو صواعق أو هواجس..

6. الصمت اصبح بديلا
أجد العالم كله يتقدم نحو الصمت، ويترك لغة الكلام.. الكلام لم يكن كله يمتلك المعاني الخصبة.. اغلبه لغو وثرثرة وجعجعة وصياح وزعيق وهتافات وأغنيات فجة تقتل الأذواق.. العالم كله يتحرك نحو الصمت بعد ان انتفت الحاجة الى بدائله.. يترك لغة الكلام إلى لغة العقل.. ومن استهلاك الألفاظ إلى إنتاج المعاني.. الصمت في العمل والدراسة والسياسة والمجتمع.. ضرورة ما دام هناك مستحدثات جديدة في إن التواصل لم يعد من خلال الأحاديث والإسهاب والإطناب والخطاب.. الخ بل من خلال لغة العيون باستخدام الشاشات، أو لغة الأذان باستخدام أجهزة السمعيات الصامتة، او تأمين الضرورات من خلال ثورة المعرفة والاتصالات والديجاتل..

7. الصمت صلاة روحية.. ولكن؟
الصمت نفسه يعد منتجا خصبا للإنسان كونه بمثابة صلاة روحية.. ستغدو دين المستقبل الطبيعية والروحية، إذا أمن الناس مصالحهم وحاجاتهم وخدماتهم.. واستعيدت حقوقهم وكل سعادتهم.. إذ أن الصمت يريح الإنسان كثيرا.. وسيتعود أولئك الذين تربوا على الثرثرة والتكرار أن يتخلصوا من هذه الآفة اللعينة التي لا تجدي نفعا.. ربما سيعترض البعض كونهم لا يجدون متعتهم إلا في الكلام ونقل الكلام.. إلا في التغني وإلقاء الشعر.. إلا في الحوارات السياسية الفارغة.. ولكن ستكون الأجيال القادمة أكثر صمتا وأكثر إنتاجا.. أكثر صمتا وأكثر حيوية ونشاطا.. ولكن ليس في عالم يقهر فيه الإنسان، وتنتزع حقوقه، وتسحق كرامته، ويهان أهله، وتسرق أمواله، ويباح دمه.. هنا، لا تنفعه الهمسات ولا جدارات الصمت! بل تنفعه بدائل الصمت بكل ما تنتجه من معاني كبرى.. نعم، اتفق مع من يؤمن إن الصمت صلاة روحية، ولكن لا يمكن للإنسان ترك ميدان حياته ليصمت بحجة صلاة روحية!

8. الصمت لغة حضارية.. ولكن؟
وربما يعترض شخص آخر على الصمت، إذ يفّسره بمعنى السكوت، والساكت عن الحق شيطان أخرس.. هذا إذا كان هناك من يمارس النقد الحقيقي، ولكن الصمت هنا غير السكوت.. فالإنسان يصمت وهو يتحرك قبل صمته صمتا نهائيا، ولكنه إن سكت عن الكلام المباح، فربما لأنه استخدم قلمه أو ريشته أو مشيته أو حركاته.. وكلها تعبّر عن أكثر من حالة وهو ساكت.. الصامت ملتزم بفلسفة الصمت، وان البوذية هي من أكثر الأديان الصامتة في هذا العالم ويقابلها كثير من الأديان البدائية الأكثر صخبا وضجيجا.. وعليه، فلقد كانت المجتمعات المقتربة من الصمت أكثر إنتاجا وتفكيرا وإبداعا من تلك المجتمعات الصاخبة التي لا تعرف إلا الضوضاء! ولكن الأقوياء لا يفسرون الصمت إلا ضعفا وانكسارا، فالصمت لغة حضارية، ولكنه مشروع مؤجل.


9. التعبير هو الخروج عن الصمت
أقف متأملا لأرى بأن ثمة لحظات تمر على الإنسان، يشعر مرة واحدة بحريته من القيود التي صنعتها السلطات وخلقها الجبابرة على الأرض.. في لحظات أخرى تصورات معينة لشخص يقف داخل بقعة صغيرة على الأرض، وهو يحدق في الكون بدهشة باردة.. سيكون هناك صراع بين التفكير والمشاعر.. بين الحركة والجمال.. بين سبر الأغوار وتدفق الحياة.. هنا ستكون الحياة والموت واحد.. فليس هناك تطور ولا مصير سوى التفاعل.. والتفاعل حوار وحركة، لا يمكن للإنسان أن يصمت عن حاجاته وضروراته.. عن حقوقه وكرامته.. عن أي جور وظلم يلحق به! الإنسان هو جزء من كلّ، انه جزء من الأرض، والأرض نطفة في هذا الكون.. انه جزء محدود في الزمان والمكان.. وهو المعّبر عما في هذا الكون من صمت وسكون، أو في الأرض والطبيعة من حركة وصخب.. ولا يمكن أن تكون مشاعره وأحاسيسه منفصلة عن بقية الكائنات التي تصرخ وتعبر عن تمردّها أو تغنّي لتعبر عن سعادتها.. والخروج معا عن صمتها، حتى وان كانت بعيدة عن الوعي.


10. بيت القصيد
إن لغة الصمت التي تلف حياتنا اليوم هي التي أنتجتها سياسات معينة جعلت الإنسان في عصرنا وقد غّيب عن وعيه، بل وقد افتقد أحاسيسه.. أو جعلت منه كائنا لا يدرك ما الذي يكون في خارج سجنه الذي جعلوه فيه منذ زمن. مهمتنا اليوم، أن نعي فلسفة الصمت، وان ندرك أن السكوت لا يجدي نفعا في عصر تعصره الموبقات، ويختفي منه الجمال. لا بد من تحرير أنفسنا من السجن من خلال توسيع دائرة التعاطف لدينا لتشمل جميع الكائنات البشرية التي نجدها تسحق دوما، وتطحنها أي قوى شريرة على هذه الأرض الحية. دعوني أتوقف هنا، وأرجئ كلامي عن الصمت السياسي الذي يلف مجتمعاتنا كلها هذه الأيام، وكأن لا تعبير هناك عن واقع مؤلم تعيشه تلك المجتمعات على سطح الأرض! وكأننا لا نسمع أي صوت يقول : إلى متى سنبقى في سجن كبير.. يسحقنا الصمت وقد كبلونا بالأغلال؟ وهل سنبقى على هذا الصمت القاتل بعد أن غنى الآباء والأجداد طويلا من اجل الحياة، ولم يعرفوا الصمت أبدا؟
للبحث صلة

www.sayyaraljamil.com