اولا: الكبار والصغار
ستكون هذه quot;الوقفةquot; مختزلة في مقال لاحق بمقال سابق، وهي وقفة قابلة لكي تعالج في تفصيلات واسعة ومساهمات مقارنة بين رجالات دول المنطقة التي خرجت بعد الحرب العالمية الأولى بأثواب جديدة ومضامين أخرى، وتشكيلات ومؤسسات وحدود جديدة، وخصوصا اثر مؤتمر فرساي عام 1919، أو تأخرت ولاداتها اثر استقلالاتها الوطنية لما بعد الحرب العالمية الثانية. المهم، إننا هنا نجيب على أسئلة تطالبنا بإحياء ذكرى quot; رجالات دولة quot; ظهروا وقدموا خدماتهم على أفضل ما يكون، ومضوا ليتركوا ورثتهم تعبث بمنجزاتهم التاريخية! دعونا نلقي نظرة على مساهمات رجالات دول منطقة الشرق الأوسط الذين كانوا ـ كما يبدو ـ مؤهلين كي يؤدوا أدوارهم بحذاقة ومهارة ونزاهة..، وفي زمن كان يهيمن عليهم وعلى العالم كل من البريطانيين والفرنسيين. لقد وجدنا كم هي مواصفات رجل الدولة صعبة، فليس كل من وصل السلطة، أية سلطة، بقادر على النجاح، إذ يعتمد في ذلك على خبراته وتجاربه وأفكاره، وما يتمتع به من فن علاقات وإقناع وحكمة وثقافة فضلا عن قوة طاقمه من المستشارين والخبراء.. فضلا عن أن الأوائل قد تميزوا بمنجزاتهم الكبرى وهم يؤسسون دولا ومؤسسات لها، في حين أن اللاحقين قد سحقوا كل منجزات الأوائل وصفقوا لكل الانسحاقات.. إننا نجد اليوم أقزاما يحكمون ولا يعرفون كيف يديرون بلادهم مقارنة بعمالقة صرفوا حياتهم وحرقوا أعمارهم في أعمال التأسيس التاريخية. لقد كان الأوائل متجانسين في أفكارهم ويتعلم واحدهم من الآخر وتجمعهم عقيدة وطنية واحدة، فان اللاحقين قد تفرقت بهم السبل والأهواء، وشّدت بينهم حروب الإذاعات وقسوة الشتائم والارتباطات السرية وحياكة المؤامرات! ولعبت بهم الإيديولوجيات، فهذا قومي النزعة، وذاك بعثي العقيدة، وهذا شيوعي الارتباط، والآخر إسلامي التفكير.. الخ وعليه، فلقد تغيّرت سمات رجال الدولة على امتداد مائة سنة من كبار الرجال إلى صغار أو أشباه الرجال!
ثانيا: دور النخب العليا في القرن العشرين
1/ أسئلة واضحة:
عندما نقرأ تاريخنا المعاصر لمنطقة الشرق الأوسط بما فيه تجارب العرب والأتراك والإيرانيين والباكستانيين.. سنجد أن الدولة الحديثة قصيرة العمر مقارنة بالدولة الحديثة في أوروبا.. صحيح أن تركيا وإيران ومصر والمغرب وتونس ومشيخات الخليج العربي قد ورثت نفسها عن أنظمة دول وكيانات سابقة، ولكن (دولنا) بشكل عام هي قصيرة التكوين وضعيفة التجارب.. وسنجد أن دولا حديثة أخرى في العالم لها مقارباتها مع دولنا في المنطقة، خصوصا وان العالم المعاصر ولد اثر مؤتمر الصلح بفرساي 1919.. ولكن على امتداد مائة سنة مضت.. هل حظيت كياناتنا السياسية برجالات دولة؟ هل نجح البعض في مهمته ليس في حكم البلاد، بل في تأسيس دول وإدارة شؤون البلاد، وترتيب علاقاتها مع الإقليم أولا والعالم ثانيا؟ هل ثمة مقارنة بين ما كان عليه الحال في النصف الأول من القرن العشرين وما آل إليه خلال النصف الثاني منه؟ إنها أسئلة مهمة حقا، وهي بحاجة إلى وقفات طويلة ومقارنة، ولكن باستطاعتي أن اختزل الموضوع لفتح الباب أمام ما يمكن معالجته من تفاصيل لاحقا على يد غيري من الكتّاب والمؤرخين والمفكرين.
2/ من بقي.. من رحل؟
على امتداد مائة سنة مضت، يمكننا القول أن منطقتنا قد حظيت بالعديد من الأسماء، اعتقد ان أصحابها كانوا رجال دولة، ولكن حسب درجات متباينة، إذ حظي النصف الأول من القرن العشرين بكل من أتاتورك في تأسيسه الجمهورية التركية الكمالية، ورضا بهلوي في تأسيسه المملكة الإيرانية البهلوية، وفيصل الأول في تجربتيه: المملكة الفيصلية في الشام والمملكة الهاشمية في العراق.. وفؤاد الأول ملك مصر، وعبد العزيز آل السعود مؤسس المملكة العربية السعودية وغيرهم من القادة المؤسسين.. وقد لحق بكل من هؤلاء نخبة من رجالات دولة لامعين كانوا قد تدرجوا كلّ في مؤسسته.. إن أربعة رجالات دولة ما زالت أسماءهم تعتبر رموزا لدولهم وأنظمتهم معا: أتاتورك تركيا، ومحمد علي جناح في الباكستان، وعبد العزيز آل السعود، وعبد الله الأول مؤسس الأردن. أما البقية، فلقد خرجوا مع دولهم من التاريخ على أيدي أناس لم تعرف قيمة ما صنعوه.. رجالات مصر انتهوا مع العام 1952، ورجالات العراق انتهوا مع العام 1958، ورجالات إيران انتهوا مع العام 1979!
ثالثا: رجالات النصف الاول من القرن العشرين
خلال النصف الأول من القرن العشرين، شهد تاريخنا بروز رجالات دولة مؤسسين من الطراز الأول من عسكريين ومدنيين.. ربما اختلفت توجهاتهم السياسية وأفكارهم في فن الحكم.. لكنهم نجحوا في التعامل مع مجتمعاتهم أولا، وهم على رأس دول لها أنظمة جديدة، وانتصروا في التعامل مع العالم ثانيا، وهم يفاوضون أعتى قوى الاستعمار وقت ذاك.. ولم يقتصر الأمر على أسماء ورموز معينة، بل كان برفقتهم طواقم من رجالات إدارة ودبلوماسية وسياسة واقتصاد وقادة عسكريين.. برزوا في خضم احتلالات استعمارية لبلادهم، وخاضوا تجارب صعبة من اجل نيل بلادهم استقلالاتها الوطنية.. وبالرغم من تنوع تجارب أولئك الرجال، إلا أن جهودهم قد أثمرت عن نتائج غاية في القوة خلال النصف الأول من القرن العشرين.
إن الجمهورية التركية التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك عام 1923-1924 برفقة عصمت اينونو وجلال بايار وغيرهم كانت غير تجربة الشاه رضا بهلوي الذي أعلن تأسيس المملكة الإيرانية عام 1925.. وكل من التجربتين قد أعقبتا تجربة فيصل الأول في تأسيس كيانين اثنين أولهما في سوريا عام 1920، وقد هزم بعد أشهر على أيدي الفرنسيين بعد أن كانت الحكومة الفيصلية عربية النزعة واستقلالية التوجه بإدارة رجال سوريين وعراقيين ولبنانيين وحجازيين، وثانيهما باسم المملكة العراقية عام 1921 وهي تجربة حافلة بطاقم رائع من رجال دولة أمثال: جعفر العسكري ونوري السعيد وعلى جودت ورستم حيدر وناجي السويدي وعبد المحسن السعدون وياسين الهاشمي وغيرهم.. وقبل هذه الولادات الثلاث، كانت تجربة مصر قد سبقتهم بإعلان الملك فؤاد الأول عن انبثاق نظام دولة جديدة باسم المملكة المصرية عام 1917، وكانت مصر تزخر برجالات دولة من الطراز الأول بدءا بالزعيم سعد زغلول وكل من شاركه العمل، ليس بإدارة مؤسسات متوارثة قديمة، بل بانبثاق مؤسسات جديدة، أمثال: عبد الخالق ثروت وإسماعيل صبري ومحمد شكري وعبد المنعم راشد ومصطفى النحاس وغيرهم. كان الاعتماد أصلا على كفاءة من يختارونه للأداء.. هنا، علينا أن نقف وقفة مهمة، ونحن نشهد انبثاق المملكة العربية السعودية بقيادة سلطان نجد باسم الملك عبد العزيز آل السعود الذي اعتمد على طاقم من امهر رجال دولة جلهم من العراقيين والمصريين والشوام.. ونجح في إفشال تجربة مملكة الحجاز التي أسسها الشريف حسين بن علي عام 1925 وعندما تشكّلت إمارة شرق الأردن بقيادة الأمير عبد الله بن الحسين عام 1921 شاركه عدة رجالات من مدنيين وعسكريين أردنيين وسوريين وعراقيين وفلسطينيين.. كما شهدت سوريا امهر الرجالات الذين كانت لهم أدوارهم في بناء الدولة السورية ومنهم رجال قانون ممتازين، وأشهرهم: سعد الله الجابري وفخري البارودي وفوزي البكري وفايز الخوري وزكي الخطيب وشكري القوتلي وإبراهيم هنانو وفارس الخوري وحسني البرازي وغيرهم.
رابعا: تجارب النصف الثاني من القرن العشرين
1. التجارب المغاربية
تعد تجربة الرئيس بورقيبة من انضج التجارب المدنية في تأسيس الجمهورية التونسية اثر الحرب الثانية، واعتماده على رجال ورثوا مؤسسات قديمة في إدارة شؤون البلاد الحسينية.. وهذا ما نجده أيضا عند الملك محمد الخامس الذي اعتمد على من كان في المؤسسات التي ورثها أبا عن جد النظام العلوي لإدارة شؤون البلاد التي عاشت أزمة الاستعمار، ولقد نجح الملك الحسن الثاني في تجديد مؤسسات الدولة على أسس حديثة.. وهذا ما وجدناه في ليبيا عند تشكيل المملكة الليبية المتحدة من بنغازي وطرابلس وفزان، فالملك إدريس السنوسي ورث رجال كانت لهم فلسفتهم السنوسية في إدارة شؤون بلادهم الخاصة، ومع ما اكتسبوه من خبرات الايطاليين في إدارة شؤون ليبيا. أما الجزائر، فلقد ولدت من فراغ تاريخي كبير عندما استقلت عن الفرنسيين، وهي لا تمتلك أية مفردات، ولا أية تجارب في تسيير شؤون دولة.. لقد بدأت من نقطة الصفر، واستطاع الجزائريون أن يولدوا لهم طواقم عمل عندما تحولوا من ثوار إلى قادة دولة. أما اليمن والسودان وبقية الكيانات الأخرى، فلم يظهر عندهم رجال دولة على أسس حديثة، باستثناء بروز أسماء كانت تتوهج فجأة ثم تختفي.
2. ضباط انقلابيون.. فاشلون في ادارة البلاد
أما في دول عربية قديمة التشكيل، فقد غيرّها النصف الثاني من القرن العشرين، بتغيير الاوضاع كليا، وبتغير سياسات العالم وتأثيرات الحرب الباردة وظهور الانقلابات العسكرية وانبثاق إسرائيل وتفاقم الصراعات الإيديولوجية والتحول من الهيمنة الكولينيالية إلى تغلغل الامبريالية، وطغيان المثاليات القومية على الروح الوطنية، ووصولا إلى مخاطر الإسلام السياسي.. الخ لم نعد نجد إلا العملة الرديئة تطرد العملة الجديدة من المؤسسات.. لم يعد احد ينظر إلى الكفاءة بقدر ما ينظر إلى الولاء.. لم تعد المؤسسات تعالج بحسن الإدارة البيروقراطية، بل بالقوة السياسية وتوحش السلطة.. وصل إلى الحكم ضباط انقلابيون لا يدرون كيف يحكمون.. ولا يدركون قيمة الإدارة في البلاد.. بل وليس لهم القدرة على أن يعتمدوا على مستشارين كبار من رجال القانون والإدارة.. انفردوا بالسلطة وبصنع القرارات.. فكانت مرحلة مفجعة للدول القديمة، ليس على مستوى ما مورس من خداع للناس لتحقيق شعارات وهمية، بل بقدر ما مورس من سحق للمؤسسات على أيدي أناس جهلة، كل بضاعتهم رتب عسكرية، أو درجات حزبية، أو صداقات شخصية، أو هوس سلطوي، أو مكانة قبلية أو عشائرية.. الخ لقد ابعد رجال دولة وقانون ممتازين من حكومات عسكريتارية، أمثال: عبد الرزاق السنهوري من مصر وعبد الرحمن البزاز من العراق وغيرهما من بلدان عدة، كي تبقى مثل هذه الدول بلا تشريعات دستورية ولا انتخابات عامة! لقد وصل الأمر بدول الأنظمة الثورية أن يتقلد ضباط صغار مقاليد وزارات حيوية، وان يأتي إلى السلطة شباب مراهقين ليكونوا وزراء ورؤساء وسفراء.. أو يأتي إلى عضوية مجلس وزراء أو مجلس قيادة ثورة شخوص فاشلين تافهين وأولاد شوارع ليحكموا بلادا عريقة طويلا لتغدو حطاما على أيديهم!
3. من فوضويات الثوريين الى هوس رجال الدين
لقد ماتت الأحزاب الوطنية واستعيض عنها بمؤسسات سلطوية وأحزاب عقائدية.. لقد أجهضت كل المؤسسات الدستورية السابقة لتحل بدلها مؤسسات طارئة أو ثورية أو حزبية أو مؤقتة.. وإذا كانت تركيا هي الوحيدة التي احتفظت بمؤسساتها وأنها تميزت برجالات دولة عبر الأجيال حتى اليوم، فان إيران التي كانت تحظى برجال دولة أقوياء سحقتهم عجلة الثورة الدينية ونحرت كل مؤسسات الدولة التشريعية، وأبدلتها بمؤسسات ثورية يسّيرها نظام يعتمد على رجال دين لا رجال دولة.. بل واجتاحت دولنا موجات من تداعيات استخدام الدين، فتشكلت أعداد كبيرة من أحزاب وجماعات دينية تريد السلطة كي يحكم رجال الدين وينتهي رجال الدولة إلى الأبد.. إن كل من مصر والجزائر والسودان ولبنان تهددها هذه النعرة التي تريد أن تحل رجال دين ليقودوا البلاد.. ولقد أوضحت التجربة المرة في كل من إيران والعراق والسودان.. إن رجل الدين لا يتمتع بأية صفات رجل دولة كالتي أوضحناها في القسم الأول من هذا المقال. وإذا ما سألني احد عن السعودية، فهي تمتلك نظاما ثيوقراطيا منذ تأسيسها، ولكن تحكمها عائلة مالكة تمتد في حياتها لأكثر من مائتي سنة، ولم يحكمها رجال دين حكما مباشرا.
4. تجارب مشيخات الخليج
إن ثمة تجارب ناجحة في دول خليجية انتصرت لإعادة تكوين شخصيتها التاريخية في هذه المرحلة، وبعد أن عاشت أزمة الاستعمار.. لقد نجحت تجربة الكويت على عهد رجل دولة مثل الشيخ عبد الله السالم الصباح، كما نجحت تجربة دولة الإمارات بتوحيد مشيخاتها في دولة قادها الشيخ زايد وبرفقته عدد من شيوخ كانوا يستمعون ويستشيرون خبراء ومستشارين ورجال دولة عرب وأجانب.. كما أعادت سلطنة عمان تجديد نفسها وشهدت نضوج رجال دولة على عهد السلطان قابوس.. وهكذا بالنسبة لكل من قطر والبحرين.. إن جيل الأبناء من القياديين الخليجيين يثبت أنهم قد استفادوا كثيرا من اجل تطوير مؤسساتهم المتنوعة في ظل استقرار سياسي ورخاء اقتصادي وتلاحم اجتماعي.
5. رجال دولة بين لبنان والاردن
يعد لبنان الدولة العربية الوحيدة التي لم تتعرض مؤسساتها التشريعية للخلل والفوضى وهي التي مرت بأقسى الأدوار التاريخية في نصف قرن مضى، وقد حظيت برجال دولة رائعين، وبالرغم من عدم انسجامهم سياسيا واجتماعيا، لكن النزعة الوطنية تطغى على كل اتجاهاتهم الفكرية والسياسية.. إن لبنان يتعرّض اليوم لتحديات كبيرة هدفها النيل من مؤسساته التشريعية من اجل أهداف خارجية، ولكنه البلد الوحيد الذي لم يتعرض لفراغ تشريعي ومؤسساتي كما تعرض لذلك كل من مصر وسوريا والعراق.. وبالرغم من وجود مؤسسة تشريعية في الأردن منذ العشرينيات، إلا أن ثمة مشاكل يعاني منها منذ تأسيسه منها مشكلات الهوية والعشائرية والبدائلية.. الخ
خامسا: وأخيرا
اما الجيل الجديد من الحكام في المنطقة، وخصوصا في سوريا والأردن والمغرب.. فلم تزل كل دولة على تقاليدها ورجالاتها السابقين مهما اختلفت توجهاتهم وتخصصاتهم. أما العراق، فهو يعاني من فراغ هائل كونه لم يجد إلى حد اليوم رجال لهم قدرات فائقة ومواهب خلاقة كي يعيدوا بناء مؤسساته التشريعية والدستورية والإدارية.. وان كل الذين يتقلدون أموره لا يعرفون فن الإدارة والحكم، وليست لهم أية خبرات أو كفاءات أو تجارب (وسأخصص حلقة كاملة حول المستقبل وأسس إعادة تكوين الدول ودراسة تجربة العراق اليوم وما الذي يحتاجه من اجل إعادة بناء مؤسساته التشريعية والإدارية بعد خمسين سنة من زوالها).
التعليقات