معنى القيم: المصطلح.. المنظومة والابعاد
هل من أجوبة فلسفية عميقة عن حقائق واقع مشحون بالبؤس، ومحتقن بالأضاليل، ومكلل بالتفاهات؟ هل تتقدم مجتمعاتنا نحو الأفضل.. أم أنها تنتكس دوما نحو الوراء؟ إن الخلل لا نجده في زعماء جهلة يحكمون دولهم لوحدهم حسب، بل أن الخلل يعّم اليوم اغلب النخب السياسية، بل ويصل بدرجة أو بأخرى إلى النخب التي تسّمي نفسها بـ quot; المثقفة quot;.. وكلها لا تعّبر عن مشروعات وأفكار جديدة، يمكنها أن تنتشل الواقع مما هو فيه أو عليه، بل أنها غدت متدنية إليه لتغدو جزءا منه.. وأكاد لا أجد إلا بقايا تقاليد حضرية تتوزعها بعض المدن هنا أو هناك. إن quot; الفوضى quot; ليس مصطلحا عائما، بل هو مفهوم له جملة من المعاني القديمة والمحدثة، وهي التي تعبر عن حالات معينة، يدركها ليس علماء السياسة ورجال القانون حسب، بل يفهمها رجال علم الاجتماع، خصوصا عندما انتقلت حالات الفوضى من أوضاع سياسية فوضوية إلى quot; ثقافة quot; جمعية مضادة ومتوحشة، تضرب القيم والسلوكيات الاجتماعية على أيدي كل المتنفذين سواء في الدولة أو المجتمع. أما القيم، فهي مجموعة ما تتعارف عليه سلوكيات وأخلاقيات كل مجتمع من المجتمعات، وهي (جمع: قيمة) يتربى عليها الإنسان باعتبارها من أثمن ما يتعارف عليه المجتمع، ويحترمها الجميع.. وربما يشذ عليها الشباب، ويتمرد عليها ممن لم ينل نصيبه من تربيته فيها، ولكنه يكتشف الصواب من الخطأ مع مرور الأيام والسنين.. ويعتقد دوركهايم، بأن التقدم الاجتماعي يطّور منظومة القيم نحو الأفضل، وبعكس ذلك فان النكوص يسبب الفوضى التي يصنعها الفوضويون. واستنادا إلى مقولة سقراط فان quot; الحياة التي لا تمّحص القيم، فهي ليست بحياة إنسان quot;!
أريد القول بعيدا عن الآراء السوسيولوجية المتباينة التي نشرت حول هذا quot; الموضوع quot;، أن quot; القيم quot; ينبغي أن تكون اجتماعية بالضرورة، وتنعكس على الآراء السياسية، أو الإبداعات الثقافية.. ولكنها، نسبية ومتفاوتة في أن تكون قيما ثمينة عند البعض، ولكنها لا تأثير لها عند بعض آخر! وعليه، فان منظومة القيم ينبغي أن تكون إنسانية قبل كل شيء، وهي تضم كل الأنساق المتفق عليها، والتي باستطاعة الإنسان الاستفادة منها، بمعزل عمّا يؤمن به أي شخص ينتسب إلى تلك المنظومة.

منظومة القيم الاجتماعية بين الانفتاح والانغلاق
كلنا يتذكر الموجات الفكرية المتحررة التي عمّت العالم في القرن العشرين، والتي وصلت إلى أوج ذروتها إبان الستينيات، وخصوصا في بريطانيا وفرنسا وأميركا.. وبروز فلاسفة وكتّاب وشعراء وروائيين وفنانين.. يؤمنون بالتمرد على كل القيم السائدة، وكانوا واضحين في طروحاتهم المتنوعة التي لم تنسف كل المنظومات السياسية والاجتماعية، ولم تزرع الفوضى وتخلق التدمير، بل سعت إلى إثراء التفكير الحر فلسفيا وثقافيا، وهي تنتقل من مرحلة إلى أخرى عبر أجيال جديدة! إن بعض موجات التفكير وطروحات الفكر أو الشعر أو الفن التي عمت الغرب في القرن العشرين والتي اجتازت الواقعية والانطباعية وتمردت على الواقع، لم تكن فوضوية بالرغم من كل ما جابهته من ردّات فعل نقدية مضادة كالتي قادها ـ مثلا ـ اشبنغلر في المانيا، أو ريمون آرون في فرنسا، أو كولن ولسن في بريطانيا.. وغيرهم من الذين اعتقدوا إن اضمحلال القيم الأخلاقية واللاانتمائية سيسقط الحضارة الغربية في زمن قريب.. وكان تأثير الحرب العالمية الثانية واضحا في صناعة الإحباط الفكري الذي جعل من هؤلاء لا يؤمنون ببقاء القيم (الحضارية).
بعد مضي قرابة ثلاثين سنة، أي بعد جيل واحد على إحباط أولئك الناس، راح صموئيل هنتيغتون يكتب نظريته في صدام الحضارات، ليقول وهو يتحدث عام 1996 بأن قيم الحداثة الغربية ليست كونية، وإنما خصوصية، وهي لا تنطبق إلا على بلدان أوروبا الغربية وأميركا الشمالية.. ولم يتنازل عن أفكاره حتى رحيله قبل سنتين، في حين نشر فوكوياما عند نهايات القرن العشرين أيضا نظريته عن نهاية للتاريخ التي تراجع عن بعض مضامينها مؤخرا، ولكنه بقي يشدد على أن القيم تصنعها الدول، وان الدولة موجودة وراسخة في أوروبا منذ العصور الوسطى ومتواليات العصر الحديث، في حين أنها ليست موجودة إلا بالاسم في العديد من بلدان آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط.. ولهذا السبب، فان اغلب مجتمعات هذه البلدن تحلم بالهجرة نحو الغرب لتحتمي بقيم الدولة الغربية.

من اجل محاصرة فوضى القيم!
الآن نسأل: هل تنحصر القيم بمنظومة الدولة، والدولة ـ كما نعرف ـ مجموعة مؤسسات؟ أم أن القيم هي حصيلة جمع الأعراف / القيم الاجتماعية وقوانين الدولة معا؟ ولقد بقيت المجتمعات منضبطة بأعرافها أولا، وبقوانين الدولة ثانيا.. إن النزعات الحرة لم تكن حربا شعواء على منظومات القيم السائدة، كونها منظومات، كانت ولم تزل تجدد نفسها بنفسها، وهي نفسها التي تقود التغيير من دون فوضوية ولا خبالات ولا جنون.. على عكس ما نجده قد حصل!
كانت أجوبة بليدة لا يمكن أن تعّبر عن أي رؤية حضارية نسمعها على طرح أسئلة لم يكن يسمع بها الآباء والأجداد مطلقا. إن تحولات مريرة تمر بمجتمعاتنا اليوم، وهي تعكس حالات غاية في السوء مع زوال للأخلاقيات التي كنا نلمسها في الماضي.. أخلاقيات التعامل مع الآخرين.. من الأصدقاء والمعلمين والأساتذة والعلماء.. الخ في العمل والمهنة والسوق والبيت والمدارس والجامعات.. اليوم نجدها مفتقدة بالكامل.. لم يعد للصداقة معانيها العميقة، ولا الزمالة أصولها المهنية، ولا سلوكيات تعزيز الثقة، أو ممارسات السوق القائمة على quot; إعطاء كلمة quot; والالتزام بها بكل ثقة.. أو طبيعة علاقات يسودها الاحترام لمن هو أعلى مرتبة ثقافية، أو أعلى منزلة اجتماعية، أو أعلى خبرة إدارية، أو أعلى حكمة سياسية. لقد تبلّد الإحساس، وانعدم الخجل، وماتت الأخلاق من عند البعض، فلا مانع لديه أن يسمّي نفسه ( دكتورا ) وهو لا يحمل شهادة دكتوراه! أو يكون عضوا في برلمان وهو يجهل القراءة والكتابة! أو يسرق أموال الدولة، ويصر على أن يبقى في السلطة!
إن واقع الإنسان في اغلب مجتمعاتنا، ينبض بالألم والحسرة، ويحتقن بالمرارة والحزن نتيجة الاوضاع المأساوية التي تعصف بمجتمعاتنا، ونتيجة فوضى الأبعاد المستشرية عبر تكنولوجيا المعلومات وسرعة الإعلاميات والميديا المعاصرة.. بذهابها في كل اتجاه، واختراقها كل الاسيجة والأسوار، بعد أن كانت مغمورة تحت الأرض لعشرات أو مئات السنين، وكأنها كتلة أورام، انفجرت بكل قيحها وصديدها وأدرانها لتلطخ كل تلك الخارطة المتعبة التي كانت ولما تزل على أجمل ما تكون في هذا الوجود.

المحدثون والمستنيرون ليسوا بطفيليين او سماسرة ودجالين
تبدو مجتمعاتنا اليوم، محطمة الخطوات وتعيش فوضى قيم جماعية بعد أن تفانت النخب المثقفة في الحداثة من اجل مستقبل جديد إبان القرن العشرين.. إن المثقفين الحقيقيين يتآكلون بالإحباط وهم يستكشفون عالمهم ومجتمعاتهم، وكأنها خرائط جديدة تتمزق دواخلها بفقدان منظومة القيم ليس الاجتماعية الحضرية القديمة والمتوارثة، بل انسحاق حتى القيم الإنسانية التي قام بحمل لواءها المثقفون والأحرار والمبدعون والمستنيرون والتقدميون وكل المحدثين من فنانين وتشكيليين وشعراء وفلاسفة ورجال قانون ومحامين ومتكلمين ومعماريين ومفكرين.. لماذا غاب هؤلاء كلهم على حساب بروز طبقة طفيلية جديدة لا تمّت لمنظومة القيم بأي صلة علاقة، ولا يربطها بالعقل ولا باللياقة ولا بالمصداقية أي رابط.. طبقة طفيلية ماكرة وكاذبة وفاجرة تتألف من جوقات المتخلفين والمتحذلقين والسماسرة والكذابين والدجالين والطائفيين والقوالين والانتهازيين واللوتيه والمرتشين والمختلسين والمارقين واغلبهم من أصحاب رؤوس الأموال التي لا يعرف من أين أتوا بها.. وهناك ساسة جدد فرضوا أنفسهم على الواقع ونالوا منه وأساءوا إليه.. إنهم ملالي ورجال دين من الذين ادخلوا أنوفهم في الميدان السياسي مستغلين نفوذهم عند الناس، ليلعبوا لعباتهم الماكرة سياسيا وإعلاميا بالإساءة إلى التقدم، وتوجيه الحياة نحو الماضي، وجعل أنفسهم من الأصفياء الانقياء، وهم ليسوا كذلك كونهم يطمعون في السلطة والنفوذ أيضا، فهم من الطفيليين أيضا! إن الطفيليين لم يكتفوا بالمال والقوة التي استحوذوا عليهما، ولكنهم يريدون السلطة التشريعية والنفوذ السياسي ليأكلوا الدنيا وما فيها، فتجدهم يهرعون لشراء الذمم في أية انتخابات عامة، ولا عجب أن وجدنا من بينهم قتلة وبعض مجرمين وإرهابيين.. لقد غدوا يملئون كل حياتنا بشعاراتهم التافهة، وأحاديثهم السمجة، ومواعظهم المملّة.. فكيف لا تزعجهم الأمنيات والشعارات النظيفة، وقد اختّل نظام الحياة في كل المنظومات الاجتماعية الجديدة؟

مشكلة مجتمعاتنا: انها راضية عندما تدفع الاثمان الصعبة!
انه أمر مريب حقا أن يتطور نظام الشعور في مجتمعاتنا إزاء هذه المتغيرات نحو الوراء دوما، وكيف يتقّبل كل من يخالف هؤلاء مثل هذا الانسحاق؟ هل يتكّيف المجتمع نحو تقبل الصلح مع الهاوية..؟ نعم، إذا كانت مجتمعاتنا مكبوتة ومقموعة ومسجونة ومضللة ومتخلفة! إذا كانت مجتمعاتنا تسري فيها بسرعة العملات السيئة والرديئة على حساب العملات الجيدة! إن اغلب مجتمعاتنا، ستدفع ثمنا تاريخيا غاليا على امتداد ثلاثين سنة قادمة، نتيجة لهذه المنزلقات! ربما تتقبل مجتمعاتنا نتائجها، وتطالبك شئت أم أبيت الاعتراف بواقعها، لكن سيبقى نفر قليل يمتلكون حق كراهيتها.. وكل الحق معهم، لأن التخلف يعمّ كل مجتمعاتنا بشكل فاضح. إن الناس لم تعد تحترم هذا النفر القليل الذي لم يزل يتغنى بالإنسان وبالتقدم والتحضر.. وبالقيم وسمو المعاني والتجليات! إن معلومات جد محزنة تصلني من مجتمعات كانت تعد في الطليعة، وقد أصبح الإنسان فيها متشرذم الذات، له أنانيته وانعدام مصداقيته ووصوليته.. جعلوه يصدق انه يعيش كما هو الواقع، وليس أداة حية في تغيير ذلك الواقع! إن الاوضاع المزرية التي تعيشها مجتمعاتنا المستهلكة والكاسدة سواء عند طبقات مسحوقة أم طبقات طفيلية.. ربما لا اقبل نتائجها بالرغم من اعترافي بواقعها المضني، فان قبلنا بالحصيلة، فمن هذا أو ذاك الذي يحمل مشاعل الاستنارة كي يخّلص مجتمعاتنا من ظلام الهاوية السحيقة؟؟ وإذا آمنت بالتغيير من اجل قيم جديدة ونظيفة، فانه لا يمكنك التفريط بحق الآخرين في ما يريدوا الوصول إليه، أو البقاء في هذا الواقع الذي يعتبرونه يوفر لهم كل السعادة والهناء كما يرّوج لذلك الإعلام الديني أو الطائفي أو الإيديولوجي!
إنني أقول، انه لو تجمّعت كل المعطيات على الخسارة، فالحق مع كل إنسان مستنير حقيقي في هذا الوجود أن يخسر الآخرين الذين لا يعرفون مصالحهم في الحياة، ولا يدركون مخاطر المستقبل عندما ستواجه أولادهم وأحفادهم.. المطلوب أن يكون كل إنسان كريما وحرا وواعيا ومستنيرا ومتواضعا وقنوعا.. أفضل بكثير من أن يبقى جاهلا فضا، وطبلا فارغا، وإنسانا متطفلا، أو طفيليا قميئا، أو مكفّرا للآخرين!! إن مجتمعاتنا بحاجة ماسة إلى مشروع تغيير حقيقي، يستأصل الخراب من جذوره.. وان من يقوم بهذه المهمة أولئك المستنيرون من الجيل الجديد الذي لا أريده متمردا بجنون، أو ثائرا بعنف، بل فاعلا في تغيير هذا الزمن الردئ.. نريده أن يرفع مشاعل خافتة يزداد وهجها مع توالي الأيام وتعاقب السنين.. وستذكرها الأجيال القادمة بعد قرون!!

للحديث بقية
www.sayyaraljamil.com