quot;العقل محرك ثورة الشك في كل الأشياءquot; (ديكارت: quot;مقال في المنهجquot;)
رواسب العصور الوسطى:
لقد انتهت العصور الوسطى بأحقابها الثلاث الطويلة التي دامت قرابة 1500 سنة. وعدّ المؤرخون الأوربيون سقوط القسطنطينية عام 1453م، حدّا فاصلا بين العصور الوسطى والعصر الحديث. بدأ العصر الحديث منذ تلك اللحظة الزمنية الصعبة التي حوّلت التاريخ البشري سياسيا بسقوط عاصمة الكنيسة الارثودكسية المسيحية، ولكن هل بدّل العالم فجأة عقليته القديمة بعقليات جديدة؟ أم أن تلك الصدمة، كانت سببا من أسباب تغيّر العالم الذي تبلور لاحقا؟ هل كانت تلك اللحظة التاريخية بداية حقيقية لمشروعات الاستنارة والوطنية والسلم العالمي.. الخ أم أنها كانت حلقة في سلسلة الصراعات الدموية التي كانت تنهش حياة المجتمعات الأوربية؟ وإذا كانت حروب المذاهب والأديان قد تضمنّتها مجازر مهولة ومرعبة بين الكاثوليك والارثودكس وبين الكاثوليك والبروتستانت، فكم استغرقت من أزمان حتى انتهت؟.لقد عاشت أوروبا تاريخا بشعا من الانقسامات التي أذكتها أنواع الحروب الدينية.. وكلها حروب خاضها المسيحيون الغربيون باسم الإنجيل ـ كما يقول المؤرخ الفرنسي اودن فالييه في آخر كتبه ـ..
لقد كانت أجواء العصور الوسطى المكفّهرة، مشحونة بالحروب الصليبية ضد المسلمين، وبالكراهية المقيتة لليهود وملاحقتهم.. وما جرى عند نهايات القرن الخامس عشر، وخصوصا لما استعادت الإمبراطورية الكاثوليكية في اسبانيا ممتلكاتها من أيدي المسلمين وعاملتهم بقسوة متناهية وعانى المسلمون واليهود من أقسى أنواع الاحكام التي أصدرتها محاكم التفتيش الدينية.. وبنفس الوقت كان العالم الإسلامي بكل ممالكه ودوله ومجتمعاته يعاني من انقسامات وحروب مذهبية وطائفية واجتماعية.. أججّتها عدة أسباب سياسية واقتصادية. هنا، ينبغي القول أن الحروب الدينية برمتها، كانت ذات أبعاد اقتصادية بالنسبة للدول المتصارعة، وذات أبعاد اجتماعية وسايكلوجية للمجتمعات المنقسمة إلى حد يمكنني القول بأن الصراع الديني كان سببا لاختلاطات عديدة وشنيعة في كل المجتمعات التي اجتاحها مثل هذا الوباء الذي استمر على امتداد العصر الحديث بفعل ما تركته العصور الوسطى من بقايا وإفرازات استمرت مؤثراتها حتى اليوم.. أي بمعنى أن العالم، صحيح قد خرج من أثواب العصور الوسطى، ولكن لم يزل يحمل قيمها وعقائدها.. ليس كترسبات في الذاكرة والمشاعر الجمعية، بل كثوابت راسخة في العقل والسايكلوجيات الفردية ـ كما يقول عالم الاجتماع الألماني اوبنهايم ـ..
مبادئ التغيير وحركة التاريخ
عندما وصل كرومويل إلى السلطة في لندن في القرن السابع عشر، انتقم من الكاثوليك انتقاما مروّعا. وقال لجنوده كلمته الشهيرة المرعبة: أقتلوهم جميعا، فالله يمّيز بين عباده الصالحين. بمعنى: اقتلوا الصالح والطالح فيهم، وان الله يتكّفل بالباقي، ويدخل إلى الجحيم من كان طالحا منهم، ويدخل إلى الجنة من كان صالحا منهم، هذا إذا كان موجودا! ويتردد مثل هذا الكلام، ولكن من قبل متعصبين إسلاميين اليوم يقولون بمشروع قتل للجميع، حتى تحقيق الهدف! أو يترجم مثل هذا الكلام اليوم، ولكن من قبل قادة حروب معاصرين، يقتلون الناس الأبرياء، أو تقصف طائراتهم أحياء كاملة من اجل هدف محدد، وربما تافه! إن العنف الطائفي في ايرلندا قد تضاءل كثيرا في السنوات الأخيرة، ولكنه حقيقة تاريخية معاصرة تعّبر عن سخط طائفي بأدوات سياسية، وقد عاشت انكلترا مرحلة تفجيرات وحشية ذهب ضحيتها أبرياء ونسوة وأطفال وشيوخ.. وربما كان العنف الطائفي في العراق اليوم أقسى وأمرّ معبرا عن سخط اجتماعي تأجج بفعل عوامل سياسية ما كان لها أن تكون.. لولا إثارتها عن عمد وسبق إصرار وترصّد!
إن المبادئ شيء وحركة التاريخ وأفعال البشر وأحقادهم وضغائنهم شيء آخر.. وان البشر ليسوا أوفياء لمبادئ دينهم، كما قد نتوهم كثيرا! فما يعبّر عنه طائفيا على ارض الواقع في مجتمعات منقسمة لا يمّت بأية صلة إلى الدين الأصلي الذي انبثقت عنه تلك المذاهب والطوائف والملل والفرق والأحزاب والتكتلات والتفرعات التي اشتعلت بينها الصراعات باسم الدين مرة واحدة، فكل فئة تنازع الأخرى على القوة التاريخية، أو السلطة السياسية، أو المصالح الاقتصادية، أو الأعراف الثقافية.. إن الخروج عن مضامين العصور الوسطى حالة صعبة جدا بالنسبة لمجتمعات انغمست في نزوعاتها العقائدية، وهي لا ترى الأصلح إلا من خلالها، ولا يمكنها أبدا أن تنفصم عنها، خصوصا إذا ما وجدت نفسها تمتلك عوامل الدفاع، إذ تعتبر نفسها دوما مقهورة ومظلومة ومسحوقة ومهمشة.. وتجد في الآخرين أعداء لها، فهي تنازع الآخرين من اجل الحفاظ على كينونتها.. ليس إلا! ولن ترضى بأية بدائل أخرى.
تناقضات صنعها الهراطقة
إن ما شهدته المجتمعات الأوربية قبل خمسة قرون لم تشهده بعد مجتمعاتنا الإسلامية.. إن الخروج عن تقاليد الهرطقة، ولد منذ العام 1517 عندما برز في الكنيسة نفسها احد الكهان واسمه مارتن لوثر ليصنع قطيعة تاريخية ليس مع الدين، بل مع أولئك الذين احتكروا الربوبية وتحكموا بالسلطة من خلالها.. فانتصر عليهم! لقد تحدّى مارتن لوثر الكرادلة والكهنوت وعصمة البابا القابع في روما.. قائلا: quot; وحده كلام الله هو المعصوم quot;.. هنا فتح الرجل أولى مغاليق أبواب العصور الوسطى للخروج إلى زمن جديد انطلقت فيه كل الفلسفات، وثارت فيه خضمه كل الثورات والانتفاضات، وتراكمت على امتداد التاريخ الحديث كل الأفكار، وتوالت على امتداد خمسة قرون كل مراحل تكوين الحضارة البشرية الحديثة بدءا بالاستكشافات الجغرافية وانتقالا إلى الإصلاحات الدينية في القرن 16، ومرورا بالثورة الماركنتالية (= التجارة العالمية) في القرن 17، وإحياء للأفكار وإبداع الفلسفات فسمي الزمن بعصر الأنوار في القرن 18، ووصولا بالثورة الصناعية والاستعمار في القرن 19، وانتهاء بالثورة التكنولوجية وعصر القوة في القرن 20، وقفلتها بثورة المعلومات والمعرفة في القرن 21. هذه المراحل كلها لم تمر بها مجتمعاتنا الإسلامية، بل عاشت تناقضاتها، ولم تزل لا تعرف أي طريق تسلك وهي تشهد ردود فعل ما تلقيه عليها منتجات هذا العصر، وهي متشبثة، ولم تزل بهرطقاتها، ولم تزل تخشع من كهنوتها.. ولم تزل تتحكم فيها سلطات ترهبها باسم الدين يقوم عليها رجال دين لا علاقة لهم بأي دين!
مارتن لوثر لم يكن ثوريا ولا فوضويا على عكس توماس مونتزير الذي أشعل حرب الفلاحين في ألمانيا باسم ثورة الشعب والجياع، فخالفه لوثر، فكانت مجزرة قطع فيها رأس مونتزير والآلاف المؤلفة معه! معنى ذلك أن المجتمعات مهما بلغ بها العصف في الحياة، فهي لا تريد أن تنفصل عن واقعها مباشرة، بل ينبغي أن يأخذ التغيير زمنا حتى يفكّر البشر بما هو في صالحه ولما هو في طالحه، ودوما ما يختار الأصلح.. إن المجتمع الإيراني اليوم وبعد ثلاثين سنة من ارتدائه سياسيا العباءة الدينية، يطمح لا لتبديل دينه، بل لنزع تلك العباءة من فوقه، كي يهبط شيئا فشيئا نحو الواقع بعد تجربة تاريخية ساخنة ومريرة.. فهناك من يراها فاشلة، كونه يريد الخروج من مغاليق العصور الوسطى، وهناك من لم يزل يراها منتصرة، كونه لا يدري أن العصر الحديث لا يتلاءم أبدا مع بقايا العصور الوسطى!
رجال الدين.. وسلطة المنافقين
كان الجنرال ديغول لا يحب أن يسمع باسم نابليون بونابرت كونه ترك فرنسا في نهاية عهده اصغر مما كانت عليه في بدايته، ولكن خوارنة فرنسا أغدقوا على نابليون الثناء واعتبروا عهده مجيدا، وعدّوا حروبه الخارجية بمثابة حروب مقدسة. كان مطران باريس يقول عنه: إن الرجل الذي اختاره الله، وقد أحاطه بالملائكة، إذ انه قد فرض السلام على كل أنحاء أوروبا ببطولته وبعون الله!! ولكن فرض السلام ذاك أدى إلى سقوط ما لا يقل عن مليون قتيل في صفوف الجيش الفرنسي، وقتل مئات الآلاف من الكاثوليك النمساويين والارثودكس الروس والبروتستانت الألمان والانكليز! ومع كل هذا وذاك، فقد كان كبار رجال الدين يمجّدون نابليون ويشيدون بأعماله الخيرة (المتوافقة مع إرادة الله) في حين كان الإمبراطور قد عد نفسه اكبر من بابا روما عندما رفع التاج بيديه ليضعه على رأسه بعكس كل تواريخ وتقاليد العصور الوسطى عندما ينحني الأباطرة ليتوجهم باباوات روما! ولكن ما أن دارت الدوائر على نابليون وخسر آخر معاركه في واترلو عام 1815، حتى انقلب عليه رجال الدين أيضا، وراحوا يهجونه مثلما كانوا يمدحونه بالأمس! وكان جملة من فلاسفة وعلماء ومخترعين.. ضحايا حرق وقرابين موت للخروج من أبواب العصور الوسطى.
لكن؟ إن كانت فرنسا قد خرجت نهائيا من العصور الوسطى بتوالي تطور تاريخها الوطني والفكري من خلال الثورة الفرنسية 1789.. وانتصرت بتغيير العالم، فان مجتمعاتنا الإسلامية لم تزل تمّجد بزعمائها حينا وتلعنهم حينا آخر.. لم تزل مجتمعاتنا بأيدي رجال دين يحركونها كيفما يشاءون.. بل والأقسى من ذلك أن زعماء عالمينا العربي والإسلامي يخشون تماما من سطوة رجال الدين اليوم، وما يمكنهم أن يفعلوه بالناس ضد أية سلطة كانت.. وإذا كان الأباطرة والملوك في أوروبا، يستلون أوامرهم من باباوات روما وان رجال الدين هم الذين يحكمون من وراء الأستار، فان بعض رجال الدين في مجتمعاتنا أصبحوا هم زعماء وقادة دول ومنظمات وأحزاب.. إن دولا عديدة اليوم في منظومتينا العربية والإسلامية يحكمها رجال دين بعمائمهم أو قلنسواتهم وجببهم.. في حين لم نشهد على امتداد تاريخ الإسلام أي رجل دين يصل إلى سدة الحكم أبدا، وأتحدّى من يقول عكس ذلك.. إن تاريخنا منذ العصور الوسطى حتى اليوم يحكمه ملوك وخلفاء وسلاطين وشاهات وخانات وامراء وشيوخ قبائل.. ومؤخرا رؤساء! وكلهم اعتمدوا على فقهاء وأئمة ومجتهدين وشيوخ إسلام ومفتين (: جمع مفتي).. في تشريعاتهم.
إن مجتمعات إسلامية اليوم تعيش كما لو أنها في العصور الوسطى، حاولت الخروج عنها، فأخفقت. إن الناس في العصور الوسطى ما كانوا يعتقدون بوجود عدة أديان، وإنما فقط بوجود دين واحد أو مذهب واحد صحيح.. والباقي كله في ضلال مبين! ولهذا، اعتبر حمل الكاثوليك السلاح ضد البروتستانت معتبرين إياهم كفارا وزنادقة والعكس صحيح. إن ما يجري اليوم في عالمنا الإسلامي هو عينه في أوروبا العصور الوسطى، فالانقسام الطائفي والمذهبي بين السنة والشيعة اليوم يعّبر في ماهيته عن اعتقاد راسخ لصواب احدهما دون الآخر.. متخذا أبعادا سياسية وسلطوية تعبوية وإعلامية أكثر بكثير مما كان يجري في أوروبا..
كيف الخروج من البوابات السوداء للعصور الوسطى؟
إن سويسرا هي البلد الأكثر حضارة في العالم ـ كما يعتبرها حكماء هذا العصر ـ، إذ كانت ولم تزل بلدا مسالما، ابتعدت عن الحروب، وطّورت الإنسان ويكفي أنها اعتنت بالزمن من خلال براعة أبنائها في صناعة الساعات! وعليه، فهي أولى الخارجين من بوابات العصور الوسطى نحو الزمن الجديد. إن التنوير هو الذي اخرج الإنسان من عقليته الصلدة.. عقلية العصور الوسطى. إن الفلسفة والمعرفة والتفكير العلمي.. كلها أضاءت العقول، فتراجع تأثير الخوارنة والمطارنة وكل أصحاب التقاليد الجامدة. كانت العقلية الجديدة قد فصلت الدين عن سلطة الدين.. جعلت الإنسان مسؤولا عن نفسه أمام ربه من دون وسطاء أو مراجع أو ملالي.. جعلت الإنسان يتوّلى أمر نفسه أمام ربه، فيقول لكم دينكم ولي دين! جعلته حتى وان لم يكن مؤمنا بأي مذهب، أو طائفة، أو حتى دين، لكنه مستقيم في حياته وسلوكه ومفيد للآخرين، ومنتج في مجتمعه، وانه شخص جيد.. وحولته من تابع ذليل لرجل دين أو لرجل سلطة، أو لحزب أيديولوجي إلى مواطن صالح..
إن حدوث هذا الشيء كان ولم يزل ضد العقلية القديمة التي تعتقد باستحالته في العصور الوسطى، لأن الكنسية الكاثوليكية كانت تقول عبارتها الشهيرة: خارج الكنيسة لا خلاص ولا مرضاة عند الله! بمعنى آخر: خارج الإيمان برجال الدين ومؤسستهم، فان الإنسان، في نظرها، مصيره الجحيم وبئس المصير! وهذا الموقف المتعّصب، سقط، ولكن بعد أن غلب العقل الحديث، وغلبة التعددية الروحية، وقهر الظلامية من خلال الاستنارة المدنية، وانتشار التسامح الديني وتطور التفكير المدني، وغلبة العقائد السياسية.. ليست الاستنارة الانخراط في أحزاب إيديولوجية راديكالية وقومية وثورية.. وتمارس كل موبقات الماضي، ولكنها تحرير للعقل من كل رواسب العصور الوسطى! ليس الاستنارة محاولة مخادعة لتبطن عكس ما تظهر حيث تدّعى العلم والمعرفة والديمقراطية.. وأنت تؤمن بالدجل والشعوذة والخرافة، فتزيد من تناقضات الحياة.
www.sayyaraljamil.com
التعليقات