ولادة جيل جديد في مجتمعاتنا
لا يمكن التعويل بعد اليوم، بعد انقضاء عقد كامل من القرن الواحد والعشرين على من تبقّى من أجيال القرن العشرين، ولا يمكن للجيل الجديد الذي سيرث مآسي ما تركه القرن العشرون، أن يبقى على ما كان عليه الآباء والأجداد. ربما يستعيد في ذاكرته، جلّ ما قدموه للحياة، ولكن لا يمكنه البقاء أبدا في حلقات الماضي القريب. ولا يمكن لأبنائه أن يبقوا ساكتين على كل ما اقترفه الآباء بحق أنفسهم وأوطانهم ومستقبل أولادهم وأحفادهم، فهم ملزمون بإخضاع كل مواريث القرن الماضي للنقد والتفكيك، والتعّرف على الحقائق والوقائع.. فضلا عن إتقان الدروس والعبر، بدلا من إلقاء التهم وتوزيع الاحكام، كما كان جيل سابق يصف من سبقه بالرجعية. إن مجتمعاتنا في الشرق الأوسط عموما، ستخرج من كل أثيابها القديمة، إن وجدت ما تنتظره من المحفزات، ولما تحتاجه من السياسات، ولما تتربّى عليه من القيم المحدثة. لست متفائلا بما سيحدثه الجيل الجديد على امتداد ثلاثين سنة قادمة، ولكنه جيل سيكتشف أين يكمن الصواب وأين هو الخطأ.. سيكتشف فعلا، أين هو مكمن الأخطار.. خصوصا وانه سيكون جزءا من هذا العالم من خلال الوسائط الجديدة، إن أحسن استخدامها! صحيح انه سيبتعد قليلا عما يكسبه في بيته أو مدرسته وجامعته، ولكنه سيخضع تماما لدوامة عصر المعلومات.. يبقى هل ما سيكسبه هو الصواب، وخصوصا في ظل ثورة اتصالات ومعلومات يختلط فيها حابل الصواب بنابل الخطأ! هنا ينبغي الانتباه إلى تكريس تنمية التفكير، ومنهجية القراءة، ومقارنة المعلومات، ونقد الأصول..
نداءات من اجل عمليات التغيير الاجتماعي
نعم، عندما يتاح للثقافة أن تكون محركاً للأفكار المبدعة، والأمنيات الكبرى، فإن مسؤولية المثقفين الحقيقيين تتضاعف بشكل متسارع، لتكون عونا وسندا لسياسات الدولة الإصلاحية والتحديثية من أجل قيادة عمليات التغيير الاجتماعي والثقافي، ومحو آثار المواريث القديمة الفاسدة، وتهميش الثقافة السلطوية، وإلغاء التدجين السياسي، ونفي حالات التشتيت والإلغاء، وإيقاف غسل الأدمغة، والحدّ من غوغائية الشوارع وإشعال العواطف.. الخ هذه كلها كانت فعالة منذ خمسين سنة وحتى اليوم، حيث شملت قطاعات ذكية وعدة نخب رائعة من المثقفين المهرة في عموم بلداننا، أولئك الذين تعد إبداعات بعضهم متميزة على المستوى العالمي في الاداب والعلوم الطبيعية والسريرية.. وفي الموسيقي والفنون التشكيلية والمعمارية وغيرها. لقد كانت السياسات الثقافية التقليدية والسلطوية والماضوية والأحادية والشوفينية والانعزالية.. التي مورست ولم تزل تمارس من قبل اغلب الأنظمة السياسية على امتداد عهود مختلفة من القرن العشرين، قد طالت الأفكار الحرة، والإبداعات الذكية، والمنتجات الحيوية.. ولم تكتف بذلك حسب، بل تدخلت في نمط العيش والسلوك البشري والحياة العائلية، كما قامت السلطات الأمنية والمخابراتية والبوليسية والحزبية والرسمية، وحتى تلك السلطات غير الرسمية المتغلغلة في أعماق المجتمع التي يمثلها رجال دين ومثقفو سلطة، قد عملت معا بشكل مارق ومؤذ، على تحديد مسؤولية الكثير من المثقفين والواعين المستنيرين والأحرار من المفكرين والفنانين.. وحجبهم بشكل كامل عن مواجهة العوائق والوقوف ضد كل مشروع يطمح للوصول بأيّ مجتمع إلى حالة أرقى من التقدم
الاجتماعي والتطور المعرفي.
وعليه، فقد تراجعت مجتمعاتنا بكل قطاعاتها ونخبها وفئاتها.. وخصوصا تلك المجتمعات المعروفة دوما بالقوة التاريخية، والمتسمة بالحيوية والمرهفة بالحس الحضاري، وكانت لها رغباتها الجامحة بالتحديث المتسارع.. لقد تدارست وقمت بتدريس بعض مجتمعاتنا على امتداد التاريخ الحديث، فوجدت أن النخب الحية والفاعلة فيها تمتلك تفكيرا مدنيا دنيويا، يتقبل البدائل العصرية وليس من أولوياته الالتفات للماضي باستثناء جيوب جغرافية وبيئوية محددة ومعروفة وقد تبلورت حقائقها مؤخرا..
سطوة أجيال الماضي
ولكن المجتمع في الثلاثين سنة الأخيرة من القرن العشرين، تراجع إلى الوراء، والتفت ليمضي نحو التخلف ــ ويا للأسف ــ عن ركب التيارات المعاصرة ومتغيرات المعرفة المتوارثة وتراجع كثيرا عن عصر الانتاجية والمعلوماتية. وهنا يتطلب هذا الأمر في الواقع من مخططي السياسات البيداغوجية والثقافية والإعلامية.. تكريسهم العمل كل من موقعه على إبراز خصائص الشخصية الحرة المتفاعلة مع هذا العصر دون غيره.. ومعرفة ما يتفق من الخصوصيات الثقافية التي تتميز تنوعاتها بالندرة والحيوية، والبحث عن الأسباب التي وقفت حائلة دون التقدم. إن من أهم المهام التي ينبغي على الجيل القادم الاضطلاع بها: معرفة الأسباب الحقيقية وراء ما جرى من تشوّهات وتدمير لتفكير مجتمعاتنا تحت مسميات سياسية أو أيديولوجية أو دينية أو طائفية.. الخ ليكتشف الجيل الجديد بنفسه كيف غدا الإنسان في مجتمعاتنا، بعد أن مورست عليه كل الضغوطات السياسية والنفسية والإعلامية والقيمية الاجتماعية مجرد كائن خرافي له تشوهاته وانه هامشي غير فاعل في الحياة!
ولعل هذا الجانب هو اخطر ما أنتجته النظم السياسية في القرن العشرين، فلقد رحل وهاجر واغترب وانتحر وغاب أو قتل العشرات بل المئات من انضج المثقفين، والذين شكلوا أعدادا لا يستهان بها من الضحايا. أما البقية الباقية، فأما أصبحت ضمن أي من دوائر السلطة، وأما سكتت وماتت كمدا وحسرة، كونها من الجنس الذي لا يلتفت إليه احد، فهي أما بقية معزولة، أو محرومة، أو محبطة، أو هاربة لا تجرؤ على أن تفصح عما يكمن في دواخلها أبدا، وقد غاب تفاعلها الاجتماعي الحرّ. لقد كانت ولما تزل خائفة، فالخوف يأكلها طوال هذه السنين، ولم يزل الرعب يلازمها حتى بعد رحيل القرن الماضي، إذ لم تزل بقاياه تحكم السيطرة على مجتمعاتنا قاطبة. هنا أشير على الجيل الجديد الذي تربى في حواضن جيل سبقه، ومارس ضده كل الطغيان، بحيث وقع حتى الأطفال، وهم لا يتجاوزون من العمر إلا سبع سنوات، وقعوا تحت طائلة تقاليد عمياء! أشير على الجيل الجديد أن يحرر تفكيره قليلا من سطوة الماضي، وسوف لا يرتكب أية خطيئة، فليس ثمة قداسة، أو أي نوع منها في القرن العشرين.. عليه أن يرفض الطغيان، ليس بسبب الخوف من المستقبل، بل الخوف من عودة الطغيان من جديد، أو استمراره بأقنعة أو أشكال من نوع آخر.
هل من توصيات أوجهها الى الجيل الجديد؟
واقعنا البائس هو الذي سينتج الجيل القادم، وهذا الأخير سوف لن يتعلم شيئاً مهمّا بصدد واقعه أو عن كل عناصره الاجتماعية والسياسية نظرا لزحمة التناقضات التي تعيش في خضمها مجتمعاتنا قاطبة. وعليه، فان كل الأذكياء وكل الموهوبين سيعانون من شقاء الوعي اكبر بكثير من الذي عاناه كل المبدعين من الأجيال السابقة. إنني أعوّل على متغيرات العصر، فهي التي ستهزم الظلام وتطرد التخلف.. إن تقدّم البشرية سيمنح كل الأجيال القادمة فرصة لتنمية التفكير، ومحاولة الإجابة على الأسئلة المضنية والبسيطة، كي ينتبه الجيل الجديد إلى حجم التناقضات أولا، ثم يعزز ذلك بقوة المدركات ثانيا.. وأخيرا يمتلك الوعي والإيمان بضرورة التغيير ثالثا. إنني اعترف بأن الجيل الجديد قد خذله الجيل الذي سبقه على امتداد قرابة ثلاثين سنة مضت.. واعترف انه يحمل كل ترسبات هذا الماضي الراحل. إنني اعترف انه جيل جديد، ولكنه يحمل أمراض القرن العشرين، فمن يخلصّه من الهوس الإيديولوجي؟ ومن ينقذه من براثن التعصب الديني؟ ومن يبعده عن الفتنة الطائفية وتداعياتها؟ ومن يعلّمه قيم التمدن والحداثة؟ ومن يزرع فيه روح الوطنية؟ ومن يربّيه على سجايا التواضع والقناعة؟ ومن يغرس فيه عشق الثقافة من خلال قراءات متنوعة؟ من يحيّ فيه تجارب الآخرين في الحياة؟ من يرسم له طريقا للمحبة والتعاون وروح الألفة والتسامح؟ من يرعى مواهبه، وينّمي قدراته؟ من يجعله يتقّن عمله ويخلص له؟ من يفتح العقول على منطق الأشياء؟ من يمّرنه على قوة الخطاب وصناعة الكلام الرائع والتخّلص من الانشائيات المملة والثرثرة؟ من يعلمه فنون الغناء والموسيقى الراقية والطرب الأصيل؟ من يدرّبه على جعل الزمن أثمن شيء في الوجود؟ من يجمعه وكل رصفائه على قوة التفكير، والاعتناء بالمشاعر، ومصداقية القول والعمل.. بعيدا عن كل موبقات الواقع المرير.. بعيدا عن أزمات هذا ومشكلات ذاك.. بعيدا عن القوقعة واستعراض العضلات والتشرنق واليبوسة.. الخ من الأمنيات.
واخيرا: الجيل الجديد امام خيارين
إنني لا اعتقد أن جيلا رائعا في طريقه إلى الحياة عند كل مجتمعاتنا.. انه بالرغم من تفاوت تلك المجتمعات في كل قيمها وعناصرها.. تجاربها وأساليب حياتها، فان الجيل القادم سيكتشف بنفسه كم كان مغلوبا على أمره، وكم خدعه الجيل الذي سبقه.. سيكتشف أن طريقه واحد، ولكن سوف لن ينجح فيه، إلا يتمثّل بالتخلص من كل التناقضات التي ازدحمت بها حياته منذ ولادته حتى الآن.. ومن دون أن يفعل أي شيء، فان حجم التناقضات سيزداد ليقضم كل مجتمعاتنا إزاء ما سيحصل في العالم، وما ستحققه البشرية في قابل الأيام.
التعليقات