المواطنة اقدم من تأسيس دولة

الجزء الأول

العراق وطن، ومن يسكنه ويعيش على أرضه يغدو مواطنا عراقيا بعد أن يثبت رسميا من يكون أسوة بكل قوانين التجنّس في العالم، والمواطنة موجودة، ولكن ربما ليست مغروسة عند البعض، في حين تجدها عصابية عند آخرين.. المواطنة العراقية موجودة، ولم تولد مع بدء تكوين الدولة عام 1921 كما يتخيل البعض!! وان مصطلح quot; عراقي quot; كان موجودا قبل أن نجد أنفسنا في دولة اسمها quot; المملكة العراقية quot;، فالمواطنة العراقية ليست نكتة يضحك عليها الناس.. وحتى إن لم تكن موجودة، فيكفي أن شعبا له حيويته وإبداعاته، وله رموزه وقيمه قد آمن بها، وضحى من اجلها بروحه ودمه على امتداد عشرات السنين! ويكفي أن أحزابا وطنية عراقية كانت تؤمن ولمّا تزل بـ الوطن الحر، أو المستقل، أو العظيم.. الخ شعارات مقدسة لها! إذا تريدون إلغاء المواطنة العراقية، فما البديل الذي تريدونه؟ إذا اعتبرتم المواطنة العراقية منذ ثمانين سنة مجرد quot; نكته quot;، فأين يذهب آلاف الشهداء العراقيين الذين ضحوا من اجل وطنهم؟ إذا كنّا ننفي المواطنة العراقية بجرة قلم، فكيف تريدونها إذن؟ هل المواطنة العراقية نزعة مصيرية، أم مجرد شعار ينشره هذا الملك أو ذاك الزعيم؟ هل هي قدرنا ومصيرنا، أم هي مجرد قميص نلبسه في عهد ونخلعه في عهد آخر؟ هل تأسست المواطنة العراقية من خلال وطن عريق، أم من خلال طائفة معينة؟ وهل كان كل الذين حكموا العراق بطائفيين؟ إن فيصل الأول الذي دوما ما يصفه خصومه من العراقيين كونه حجازي وغير عراقي، كان قد نادى بالروح الوطنية، وعمل على ترسيخ هذا quot; المبدأ quot; عند أناس لم تؤمن أصلا بالعراق! زعيم لم يكن عراقيا أصلا، ولكنني وجدته أفضل من زعماء عراقيين، خانوا الأمانة الوطنية، أو سحقوا الروح الوطنية، بل ووصل الأمر بأحدهم كي يقول: إذا تكلمت.. تكلم العراق! وهل كان العراق وحده قد استورد زعيما؟ علينا أن نعرف من يكون ذلك الزعيم.. وما الذي قدمه للعراق؟ وهل احترم العراقيين مقارنة بالزعماء العراقيين الذين قصّبوا شعبهم، وسحقوا ارادته، ومزقوا شمله؟


المواطنة ليست مجرد نكتة عراقية!
أما أن يتثبت المرء من عراقية أي إنسان يدّعي انه عراقي، فهذا ما يعمل به في كل الدول، اذ لا يمكن ان تتقّدم بطلب الجنسية في أي بلد، من دون ان تقدّم ما يثبت جنسيتك قانونيا.. فالامر ليس سهلا ان تمنح المخاتير صكوكا وطنية لهذا او ذاك في أي مكان من الدنيا! لقد كان العراق ولم يزل وسيبقى في قلب العالم، وهو جاذب للبشر وطارد منه.. ان هذه ليست مشكلة في ان تكون عراقيا منذ الان بعد ان تثبت من تكون، ولكن المشكلة كيف تتصرف حيال وطنك العراقي، وانت تحمل مواطنته.. انت وذريتك من بعدك! المشكلة، لا يكفي ان تتغزل بالعراق وتعشق حياتك فيه، وتأكل من ثرواته.. بقدر ما تتصرف فيه كانسان ازاء العراقي الاخر! المشكلة، ليست تاريخية ولا قانونية، بقدر ما هي انسانية! المشكلة ليست ان تبقى عراقيا بالاسم كونك تنهب العراق والعراقيين، ولكن ان تتصرّف ضمن حدود المواطنة الممنوحة لك! المشكلة ليست في ان تحتكر المواطنة لك، وتنسى باقي ألوان الطيف، فهم كلهم من المواطنين العراقيين! المشكلة أن لا تشعر العراقي الآخر انك أفضل منه وهو أدنى منك، ولكن أن تجد مجتمعك وقد ميزّ بين هذا وذاك على أساس ما قدمته من خدمات وإبداعات للعراق والعراقيين! المشكلة أن لا يساق المواطنين العراقيين إلى أية محرقة، بالرغم من إرادتهم الوطنية! أبعد التي واللتيا تصبح المواطنة العراقية مجرد نكتة يضحك منها الناس!؟


هل كان حكام العراق غير عراقيين؟
ثمة مشكلة أخرى يعاني منها المثقفون الجدد، إنهم يفصّلون ويخيطون لكي يلبس الشعب العراقي كما يعجبهم، فهم يصدرون أحكاما تاريخية من دون معرفة التاريخ، وكما رسمه المؤرخون الأوائل والأواخر من تفاصيل.. إذا كنت قد اختلفت سياسيا أو إيديولوجيا مع آخرين، فليس من الإنصاف أن تثبت صحة رأيك بأمثلة من التاريخ! فكيف تريد معالجة للوطنية العراقية، وأنت تسحب مثلا قديما عمره مئات أو آلاف السنين؟ لقد استخدم المصريون ايام الرئيس جمال عبد الناصر المثل نفسه، انه منذ عهد الفراعنة، لم يحكم مصر أي حاكم مصري حتى مجئ عبد الناصر! ونقرأ اليوم عند بعض العراقيين كلاما مشابها! فكيف تجرؤ ان تقول بأن العراق لم يحكمه أي عراقي منذ نبوخذ نصر وحتى العام 1958؟ وقد اختزلت حكما نهائيا من دون ان تعرف ما السلالات التي حكمت العراق؟ ما أعمار الدول التي عاشت في العراق؟ ما طبيعة الحكام الذين حكموا ايران وبلاد الشام ومصر؟ اكانوا كلهم من أصول وطنية؟ اذا كان هناك من حكم العراق على امتداد 500 سنة من تأسيس سلالته وغدت عراقية بحكم الزمن.. فكيف لا تضمن عراقية ابناء تلك السلالة، وتضمن ان من حكم العراق بعد العام 1958 كان من اصول عراقية ابا عن عشرات الاجداد العراقيين ان لم يكن واحدا من (لملوم) العراق؟

المهمة اصعب مما نتخيل
يطالبني كل الأصدقاء ان أكون متفائلا، ولا أتشاءم، وان أقول بأن المستقبل أفضل من الماضي! نعم، سأتفاءل خيرا كي نتصور الأطياف الجميلة ستصنع من وطننا بلادا ساحرة تقدمها لنا هدية، أو أن عصا سحرية ستقلب الحال إلى أفضل الأحوال.. ان هذا كله وذاك مجرد أضغاث أحلام، ولا أقول أحلام عصافير.. انني مؤمن بوجود العراق وبقائه، ولكن شعب العراق بحاجة الى مستلزمات لا حصر لها.. نعم، ان العراق بحاجة إلى مستلزمات وإجراءات وتغييرات لا أول لها ولا آخر.. وان الاعتماد على حكومة معينة، أو بطل معين، أو زعيم مخّلص ما هو إلا مضيعة للوقت.. وإذا بقي الرهان على أن يحكم العراق منقسما إلى طوائف وتكتلات وعشائر باسم الديمقراطية.. ما هو الا العبث بحد ذاته. إن العراق بحاجة ماسة إلى كل العراقيين وهم يؤمنون بأن وطنهم لهم جميعا، وان حكمهم لا يمكن أن يتطور إلا إن كان مدنيا، وان دستورهم لا يمكنه أن يترسخ إلا أن تصلح مواده وبنوده.. عراقيون ينبغي ان يغّيروا ما بأنفسهم وعقولهم.. ما بوعيهم وما بذاكرتهم.. نحو الأفضل دوما.. عراقيون من جيل جديد بحاجة إلى ثورة حقيقية في التربية والتعليم والوعي بهذا العصر.. عراقيون يعترفون بالأخطاء ويسامح بعضهم بعضا، عراقيون لا يمكنهم أن يبرزوا إلا من خلال تجانسهم وتفاهمهم، بعيدا عن كل التشظيات التي أودت بهم إلى هذا المآل.. عراقيون يتوحدون تحت راية واحدة بعيدا عن أية انقسامات.. عراقيون لا يعوّلون على كتبة وشعراء وخطباء وملالي، ولا على مقالات وكتابات وحكايات ومواعظ، فهي ربما تنفع وتضر، وقد تكون وبالا عليهم بابقاء التمزقات والرهان على السياسات المتفسخة.. ان العراقيين لا يمكن ضبط اوضاعهم الا من خلال القوانين والتشريعات لاصلاح اوضاعهم، والسعي الى تطوير خدماتهم، وتأسيس فضاءات جديدة لهم.. ان مشروعا عراقيا حضاريا ينبغي ان يؤسس منذ اليوم، وان لا يعترض سبيله احد من العراقيين بعيدا عن اية ايديولوجيات تحاصره او تقبض على انفاسه.. وان ينضم كل المخلصين ليكونوا عونا امام الجيل الجديد، وإشعال الشموع أمام طريقه الذي لا ينفتح إلا من خلال التشريعات والقوانين. نعم، لا يمكن المضي فيه إلا من خلال جيل جديد يتعلم كيف المسير، ضمن ضوابط ومحطات وتوجهات على امتداد القرن الواحد والعشرين.
www.sayyaraljamil.com