الأولويات والأسس
عملا بالمبادئ الحضارية التي أرساها تاريخنا الثقافي الحافل الذي يقع دوما تحت وطأة الارادات السياسية الجائرة، وعملا بالأفكار المستقبلية الخصبة التي تتبناها نخب من العلماء الحقيقيين في بناء المشروعات البحثية النهضوية الاستراتيجية، وتوفير الإمكانات اللازمة لها، بعيدا عن نزق السلطات واموالها.. كانت هناك ثمة مناشدات على مدى ربع قرن مضى في مفاتحة عدة جهات علمية عربية، ومنها جامعات ومنظمات ومراكز بحوث.. من اجل دراسة وتنفيذ هكذا مشروع استراتيجي عالمي (أو أية مشروعات انسكلوبيدية خاصة تكون تجاربها معلما على الطريق) نظرا لأهميته البالغة في هذا الزمن الخطير، والحاجة الماسة من قبل العالم كله إليه وخدمة أساسية ليس للمجتمعات العربية، بل لبقية المجتمعات الإسلامية كلها سواء التي تعايشه او تجاوره، ومن أجل تحقيق مبدأ الشراكة العلمية الدولية في إنجازه، نظرا للمكانة المهمة التي تتمتع بها منظومتنا في قلب العالم: تاريخيا وجغرافيا وحضاريا واستراتيجيا.. ولكن لا حياة لمن تنادي عند اولئك الذين يتربعون على رأس تلك quot; المؤسسات quot; منذ سنوات طوال، وليس لهم الا المشاغل التافهة..
ان العرب لن ينجحوا في تحقيق اهدافهم السياسية والقومية التي نادوا بها منذ مائة سنة لأسباب لا تعد ولا تحصى، ولكنهم فشلوا حتى في تقديم أنفسهم الى العالم ثقافيا ومعرفيا، ليس بسبب انعدام كبار المختصين والكتّاب والمؤرخين من بينهم، بل بسبب صراعاتهم السياسية، وانانيتهم الجهوية، وتبايناتهم القومية.. فضلا عن عدم تجانسهم من نواح مختلفة، يقف العامل الثقافي في مقدمتها، بالرغم من وحدة المضامين الثقافية التي اشتركوا في حملها. دعوني أثير quot; الموضوع quot; من جديد، ليس لأسباب قومية، بل لعوامل انسانية، فاليونسكو ليست منظمة قومية، ولكنها نجحت في تقديم عدة مشروعات استراتيجية للإنسانية عموما، فهل نجحت جامعة الدول العربية، او اية مؤسسة او منظمة كبيرة في عالمنا من تقديم quot; مشروع quot; معرفي عن العرب او العالم الاسلامي الى العالم؟

العرب فشلوا في مشروعاتهم الثقافية ايضا!
والحقيقة ان هكذا quot; مشروع quot; دولي يأتي عند فاتحة القرن الواحد والعشرين كي يؤرشف ويوثّق بشكل خاص كل الذي تحتويه الحياة العربية المعاصرة ومواريثها ومكوناتها وكل أدوارها التاريخية والحضارية، وهي الأولى من غيرها بمثل هكذا مشروع لأنها تاريخيا صاحبة اقدم نظام انسكلوبيدي في تاريخ البشرية.. كما وان المجتمعات العربية والاسلامية قديمها وحديثها متميزة بتنوعاتها الجغرافية وجذورها التاريخية وخصوصياتها الثقافية وقوة استراتيجياتها وزخارة اقتصادياتها وعراقة أدبياتها وأدوار حضارتها التي اتسمت بالتعدد والتنوع عبر التاريخ الطويل..
لم اكن الوحيد أبدا مّمن يتطلع لتحقيق أي مشروع انسكلوبيدي استراتيجي كبير على امتداد القرن العشرين.. إذ أن هناك ثمة محاولات ودراسات واعمال لجان وندوات واجتماعات ونقاشات ومقالات.. وخصوصا تلك التي طرحت في جامعة الدول العربية، وكلها لم تجد أية فرص حقيقية وعملية للتحقيق والتنفيذ كما هو حال بقية الأمم الأخرى التي نجحت على امتداد القرن الماضي من تنفيذ ابرع الانسكلوبيديات واشهر دوائر المعارف وبأكثر من لغة في مجلدات رائعة.. وباتت اليوم ميسرة على الأقراص المكتنزة، او على الانترنيت، او مخزنة في كل كومبيوتر يدوي، وهي تسعف صاحبها بالمعلومات المختزلة السريعة.
لقد قمنا على مدى سنوات طوال بتجديد الدعوة العلمية وتقديم اكثر من صيغة وأسلوب ومنهج عمل من دون أن أتلق أي بادرة إيجابية إجرائية عربية لا على مستوى القرار ولا على مستوى التنفيذ بالرغم من ردود خاصة ونبيلة من قبل مثقفين أنقياء ومختصين حقيقيين تجعلني استمر بدعواتي هذه. ولقد علمتني هذه التجارب الكثير من الدروس والعبر، فالعرب كما بدوا لي بصورة عامة لا يؤمنون أبدا بالعمل الجماعي، وانهم يؤلبون الإعلاميات السياسية على المعلومات التخصصية! وانهم يخشون السلطات بشكل مرعب في أي مشروع وطني قومي أو اقليمي او جغرافي إسلامي أو عالمي!! وان هناك قيادات فكرية وجامعية عربية، لم تزل تؤمن بالأعمال السريعة الإعلانية لا الاستراتيجية المستقبلية، وهناك من لم يزل يؤمن بوجهات النظر السياسية والعادية والمتنقلة وهو لا ينزع إلى حقائق الأشياء من خلال غرس المعلومات.. وهناك من يجد أن هكذا مشروعات بحاجة إلى انفاقات دولة ومن الجنون أن يتبناها أفراد وحتى مؤسسات.. وهناك من يؤمن بأن الفشل سيلحق أي مشروع جماعي نخبوي لأن العرب لم يتعودوا أبدا على روح العمل الجماعي.. الخ، بل وان كل واحد يريده له ولبلده ونفسه، ويستعرض عضلاته من خلاله!
إنها ويا للأسف تبريرات قد يكون فيها شيء من الصحة، ولكنها تعجز أمام نماذج حية من المشروعات المعجمية والانسكلوبيدية التي كان قد نجح في تحقيقها مثقفون ومختصون عرب قبل عشرات السنين وبمفردهم برغم كل الهنات والأخطاء. ولكنها تجارب لم تعد تتكرر في حياتنا العربية نظرا لغياب روادها الأوائل من الأفذاذ الذين خدموا أجيالا كاملة من دون أن يذكرهم أحد اليوم مع الأسف! لقد كانت تجارب: بطرس البستاني (الكبير) وابنه سليم وانستاس ماري الكرملي ومحمد فريد وجدي ولويس المعلوف ومنير بعلبكي وغيرهم خير شاهد على تفوق العرب المعاصرين أفرادا في خلق أعمال معجمية وموسوعية، فما بالهم لا يبدعون في تحرير انسكلوبيديا عالمية باسمهم!!؟؟

أهمية المشروع: الطريق إلى المستقبل
نعم، لم أزل احلم كغيري من الناس أن يصدر العرب موسوعتهم الكبرى باللغات العالمية الأساسية أسوة ببقية الثقافات العالمية الأخرى. وان يحققوا ذلك متجاوزين كل السلبيات التي تلمّ بهكذا مشروعات نهضوية حقيقية. ولقد ذهبت محاولات منظمة الاليكسو التابعة لجامعة الدول العربية عبثا أدراج الرياح نتيجة للاختلافات العربية ليس من الناحية السياسية فقط، بل حتى من الناحية الثقافية عندما فشل مشروعها في تأليف موسوعة تاريخية، اذ تقاذقت به سياسات هذا البلد وذاك لأسباب لا يمكن ان يجهلها أحد! وعليه، فإذا لم يكن اليوم للعرب موسوعتهم الكبرى، فلابد من التفكير في مشروعات موسوعية عربية محلية ووطنية، فلكل أمة محترمة في العالم موسوعتها التي تعبر فيها عن ذاتها ومرجعيتها الأساسية في تاريخ الثقافة البشرية مستفيدة من مناهج الأعمال الموسوعية والانسكلوبيدية والمعجمية العالمية والتكيّف مع هذا المشروع البيني الكبير. وهو quot; مشروع quot; لا يمكن أن يقتصر على أساتذة وعلماء ومحررين عرب فقط، إذ أنه سيشرك عدد كبير من العلماء والمختصين في كل أنحاء العالم، سواء الإسلامي أم الغربي.
إن في مؤسسات عربية حكومية أو أهلية إمكانات تؤهلها أن تصدر موسوعة انسكلوبيدية عربية شاملة وممتازة تختص بكل شؤون العالمين العربي والإسلامي والدنيا بأجمعها معا: دولا ومجتمعات، تاريخا وحاضرا، حضارات وثقافات.. وتصدر بأشهر اللغات. وبهذا المشروع ستشارك المجتمعات العربية العالم كله في نمو الثقافة البشرية الحديثة، وان تدلي بأصواتها عربيا وإسلاميا في تسجيلها إنجازات إعلامية شمولية مشاركة ومتطورة، وإنها ستثري المكتبة العالمية بإنجاز موّسع وشامل وواضح ومختزل ومصور ومرقمن عن كل ما تحتوي عليه حياتنا العربية وحياة الأمم الأخرى من كافة المعلومات المتنوعة التي تعكس قيمة الرؤية العربية في المعرفة البشرية المعاصرة.
لابد من القول أن أهمية هكذا مشروع استراتيجي إنما تعكس درجة قوة من سيصدره، واعتقد أن ثمة مؤسسات فكرية وثقافية عربية لها القدرة اليوم أن يتأسس فيها هكذا إصدار دولي يشترك فيه طاقم حيوي من الباحثين والخبراء المعروفين عربيا ودوليا سواء ممن هم في الداخل ام من المغتربين، فضلا عن الرصيد العلمي والفائدة المعنوية والإستراتيجية والإعلامية بعيدة الأجل. وستكون هذه المنظومة الموسوعية المرموقة: مدرسة عربية عليا ينهج دورها الحضاري العديد من المؤسسات العربية والدولية عندما ستنتج وتنفذ مثل هذا المشروع الكبير في النصف الأول من هذا القرن مستفيدة من إمكاناتها المادية والتكنولوجية المتطورة ومن علاقاتها الثقافية والعلمية بمختلف الأوساط الأكاديمية العالمية.. وهذا ما يجمع عليه ويقّره كل الذين اتصلت بهم واستشرتهم من الخبراء والأساتذة والعلماء المختصين في العالم. وعليه، فمن الأهمية بمكان أن نقول بأن مثل هكذا مشروعات معرفية هي التي يمكن وصفها بالنهضوية الحضارية والثقافية، وليست تلك المقولات السياسية والشعارات الفضفاضة والكتابات المزيفة تحت عنوان quot; مشروع نهضوي عربي quot;، وما أصحابها في الحقيقة إلا حجر عثرة صمّاء في سبيل التقدم وبناء مستقبل الأجيال.


أهداف المشروع: المضامين الانسكلوبيدية وخصوصياتها
إن المضامين الانسكلوبيدية يمكن معالجتها من خلال الوسائل الحديثة المتطورة إلى جانب بناء منهجية علمية من نوع خاص. إنها ستتمتع بدرجة عالية من الكفاءة والرصانة والامتياز، خصوصا وان مجتمعاتنا لابد وان تتقدم خطوات سريعة نحو الأمام في بناء جيل جديد هو في طور التكوين اليوم، وهو بحاجة إلى تعلم المضامين المختزلة وعلى درجة من الدقة والمتابعة في المعلومات والأفكار، وسيكون quot; المشروع quot; معلما على تطوره وتقدمه.إن هكذا quot; مشروع quot; طموح لابد أن يكون دقيقا في عمله، وقويا في متابعته، وسخيا في تنفيذه استعدادا لمواكبة التطورات المعرفية المعاصرة من خلال ثورة المعلومات المدهشة التي يجتازها العالم اليوم. وعليه، إذا نجح العرب في منجز دولي استراتيجي كهذا، فسيقّدر العالم كله خطواتهم في الاستجابة الحقيقية لاحتياجات الإنسان وإغناء الثقافة البشرية الحديثة.
إن الأهداف الحيوية التي تكمن وراء إنجاز هذا quot; المشروع quot; ستلبّي أيضا حاجة التجربة العربية، إذ ستنفرد هذه الموسوعة كمؤسسة أكاديمية وبحثية عربية دولية في تطوير جانب أساسي تحتاجه ثقافتنا العلمية المعاصرة، والذي يكمن بتنمية روح فريق العمل، واثراء نزعة الشراكة العلمية العربية ndash; الدولية في الإنتاج العلمي، كما ستنتعش عدة مرافق تخصصية عربية عديدة من خلال التقيد بالأساليب والطرائق المقننة الحديثة.. وسيكون للشراكة المنهجية في تحرير المضامين جملة من المقاربات بين التخصصات العلمية، كما يجري ذلك في إنجاز الموسوعات العالمية الأخرى. إن الطموح يقتضي أن يكون مشروعنا من الاعمال الموسّعة، يستخدم عدة مناهج متطورة.. وخطط منهجية من نوع خاص، كما جرى ويجري العمل به في إصدار موسوعات انسكلوبيدية كبرى شهيرة مثل: الموسوعة البريطانية Britannica والموسوعة الأمريكية Americana والموسوعة الإيطالية Italiana والتركية والإسلامية واليابانية وغيرها من الموسوعات.


استنتاجات وتساؤلات
ثمة استنتاجات مهمة يمكنها أن تكون موضع نقاش حول إمكانية تأسيس مشروع دولي كهذا، ودراسة عوامل نجاحه قبل التباكي على مشاهدة صورة فشله:
1.إن منطلقا كهذا الذي يمكن للعرب إنجازه في بدايات القرن الواحد والعشرين، سيكون له الأثر الكبير في استراتيجية التفكير العالمي إزاء العرب والمسلمين حاضرا وتاريخا.
2. إن مشروعا كهذا سيسهم إسهاما خلاقا في تطوير المجتمعات العربية والإسلامية، وان مجرد التفكير فيه والتخطيط له سيمنح الفرص في المستقبل لإنجاز مشروعات مماثلة.
3.إن مجرد مشاركة نخبة من العلماء والمختصين العرب المعاصرين في الدواخل والشتات في تحرير انسكلوبيديات عالمية، سيجعلهم قادرين على إنجاز مشروع خاص بهم.
4. لابد من إبعاد هكذا مشروع علمي وحضاري استراتيجي عن سياسات الدول العربية، وان لا يخضع لهيمنة أي دولة عربية ولا لرهاناتها الأيديولوجية والسياسية والإعلامية.
5.اذا انزعج البعض من قومية quot; المشروع quot; وعروبته، فهل باستطاعة اي بلد عربي ان يقوم لوحده فقط، باصدار هكذا quot; مشروع quot;؟ الجواب: لا، فلا ضير ان كان quot; المشروع quot; جماعيا، وهو ليس عنوان امة موحدّة، فالعرب غير موحدين سياسيا، ولكنه عنوان ثقافة ازعم انها ان لم تكن موحدّة، ولكنها متقاربة جدا في عناصرها ومضامينها واشكالها..
وأخيرا لابد لي أن أناشد هيئات ومنظمات ومجامع وجامعات ومراكز بحوث وجمعيات عربية وإسلامية من اجل إنجاز هذا quot; المشروع quot;. السؤال: هل سيبدأ العرب بدراسة وتنفيذ مشروع انسكلوبيديا أرابيكا الاستراتيجي والذي يمكنه أن يشكل حقيقة مشروعهم الحضاري نحو المستقبل؟ إنني اشك في ذلك!

www.sayyaraljamil.com