اولا: المدخلاات


1/ أهمية الموضوع عراقيا
كم نحن بحاجة إلى فهم راسخ بـ quot; الهوية quot; Identity، ومعرفة جذورها التاريخية وخصوصا إبان المرحلة التاريخية الحرجة التي انفصل خلالها العراقيون عن الأتراك العثمانيين بسيطرة البريطانيين بتأثير انهيار الدولة العثمانية التي كانت تجمعهم وعدة أقوام أخرى على مساحة جغرافية كبرى في مركز العالم. كانت quot; الهوية quot; عثمانية على امتداد عدة قرون، وكانت القوميات موجودة بحكم اللغة والثقافة والتعليم والمشاعر، ولكن لم يكن الوعي يتجاوز، عصر ذاك، قوة الهوية العثمانية التي كانت بمثابة الرابطة الحقيقية لمن كان تحت المظلة العثمانية على امتداد تاريخ طويل.. مستمدة قوتها من قوة الدولة ومركزية الحكم والثقافة المشتركة.

2/ أهداف الموضوع:
دعوني اعرض وجهة نظر عراقية حيادية في مسألة الهوية من اجل تثبيت بعض الرؤى على أساس المضامين المغيبة أولا، ثم معرفة العوامل الحقيقية التي ساهمت في نشوء الأحداث والمواقف خلال فترة حرجة جدا من التكوين العراقي المعاصر عند بدايات القرن العشرين بعد إرهاصات عربية للبحث عن هوية جديدة.. ثم تحليل المتغيرات التي جمعت العراقيين بعضهم بالآخر بعد قرون طوال من الشراكة التاريخية، والانسجام الاجتماعي بتأثير تحديات كبرى سواء ما يختص بالأرض والإنسان والأقليات والانتماءات وقضايا الدين والملة والطوائف.. وانتهاء بالاستنتاجات التي ازعم أنها إثراء للأهداف المشتركة، وخصوصا بعد تخطي الشكوك والالتباسات واحترام خيارات الآخر، وفي إطار توثيق المصالح المشتركة.

3/ مصادر الموضوع:
ان الكتابة في موضوع quot; الهوية quot; يقضي بالاطلاع على جملة واسعة من المعلومات التي تخص المجتمع، كما هو اليوم وما ورثه من خصائص وقيم وعادات وتقاليد، والتعمّق في تحولات ذلك quot; المجتمع quot;. ولم يكتب أو يبحث في موضوع quot; الهوية العراقية quot;، إلا نادرا، نظرا للظروف السياسية الصعبة التي مرت بالعراق، فضلا عن أن المجتمع العراقي الحديث، بالرغم من حاجته الماسة لمعرفة هويته، والوعي بها من خلال التعمق بالمشكلات والتعقيدات التي عاشها، إلا أن انشغالاته السياسية والخطوط الحمراء التي فرضت عليه، قد حالت دون معالجات حقيقية كان لابد أن يهتم بها المختصون والأكاديميون الذين تخصصوا في الشؤون العراقية الحديثة. هنا، أود القول بأن هذا quot; الموضوع quot; له مخاطره إن عولج من دون حيادية، أو أن يكتب فيه من زوايا معينة. وعليه، ينبغي القول هنا، الاعتماد على مصادر كل طيف من الأطياف التي يزدحم بها العراق، والكشف عن الروابط الحقيقية بين الناس، ومستويات تبايناتهم، ولكن شريطة فهم الركائز الأساسية التي تجمعهم وتوحدهم.. فضلا عن أن المصادر ينبغي أن تكون اجتماعية أكثر من أن تكون سياسية. وهنا أود التنبيه أيضا، انه بالقدر الذي يعتمد فيه على وثائق رسمية، لابد من الاعتماد على ما أنتجته ذاكرتنا العراقية مهما كانت درجة محلياتها.

ثانيا: اشكاليات الهوية العراقية
إن الهوية العراقية ليست إشكالية أقليات واكثريات كما يصفها البعض، بل أنها قيمة مفتقدة، أو أنها كانت مفتقدة على مدى زمني طويل ولأكثر من خمسين سنة.. فالهوية الوطنية العراقية كانت ولم تزل في أزمة.. أزمة الهوية القومية وأزمة الهوية الدينية (أو بالأحرى الطائفية). لقد وصل الأمر ولم يزل عند الكثير من العراقيين أن يقولوا بأنهم غير عراقيين، بل يسمون أنفسهم بتسميات أخرى، وكأنه لم يستنكف فقط هوية العراق، بل يلغي وجودها عنده. وأحب أن أقول بأن الهوية العراقية لا تمثلها بطاقة كتب عليها (هوية الأحوال المدنية) وهي أتعس ورقة مكبوسة بالنايلون ومكتوبة بخط سقيم، كما كانت عليه على امتداد أربعين سنة، وقيل لي انه قد تّم الاستغناء عنها ببطاقة جديدة.. وكلنا يتذكر أن بطاقة الأحوال المدنية جاءت بعد إلغاء الحكومة العراقية دفتر النفوس القديم الذي كان محترما أكثر بكثير من تلك البطاقة (الهزيلة).. علما بأنه تمّ استحداث بطاقة أخرى اسمها (البطاقة التموينية) منذ قرابة عشرين سنة، والتي غدت بمثابة هوية تعريفية لكلّ عراقي وعراقية ويا للأسف الشديد!
لقد تعرضّت الهوية الوطنية للتهميش أو للازدواجية منذ خمسين سنة، إذ زاحمتها تحديات داخلية وخارجية على مستوى الإيديولوجيات والولاءات.. وبقي هناك من يعتز بهويته الوطنية ولكن يضادده من يزاوجها بهوية أخرى.. فضلا عمّن افتقد تلك quot; الهوية quot; نتيجة ما صادفه من هول الأحداث.. فذهب يتماهى بعيدا لما وراء البحار.. ولكن تبقى الهوية هي جوهر الإنسان وتحولاته. وللأسف، لم تنجح الدولة العراقية المعاصرة في تأصيل الهوية الوطنية بشكل عقلاني نظرا لتباين مجتمعنا وصعوبة الذات العراقية التي تبدو صورتها اليوم معقدة جدا ومُجسَّدةً في quot;ذات ثقافية عرقية مُشتركةquot; تتأسَّس على خصائص جوهرية تتحدَّد بالسلب والإيجاب معا ً، عبر اختلافٍ يُميزها ويخرجها للعالم بصورة ذوات ثقافية أخرى تتميَّز عنها، أو تتعارض معها.
وهكذا صارت الذات العراقية تبحث لها عن هوية راسخة جديدة فيها بعد أن بقيت مسكوت عنها زمنا طويلا، إنها قضية شائكة لم يتوغل فيها حتى اليوم إلا القليل من الدارسين والعلماء بسبب عوامل نجهلها.. وستكشف الأجيال القادمة بأن الهوية الوطنية تتشكّل من مرآةً هائلة تظهر عليها صورا حقيقية للأنا العراقية والـ (نَّحن) العراقية، وستتبدى كل منهما بوصفهما مجالاً حيوياً لتكوين وعي جديد في المستقبل.. وعي وطني يدرك قيمة العراق (الباقي والمفتقد والمستلب) وحدة غير متكاملة أبدا بفعل حدة العواطف وثرثرة الخطاب وشناعات السياسة وبلادة السلطة.. ويدرك أنها هوية ذات شقّين اثنين: شق عربي لم يزل يتغنّى بالوطن العربي (الذي لم يجتمع حتى اليوم على أي نوع من التكتل الكلّي)، وشق وطني هو واقع اعترف به أصحابه على امتداد القرن العشرين وهو يبحث في كل وطن.. نأمل بقاء وجود الشقّين الاثنين أمامَ تشكيلين متناظرتين يتبادلان الانعكاس الثنائي بين الثقافة، والهوية.

ثالثا: العرقنة ازاء تناقضات الواقع
إن العراقيين بحاجة ماسة لترسيخ quot; الهوية quot; وجعلها وعيا جمعيا يعتز بالتراب والثقافة والتاريخ إزاء التحديات المعاصرة والمستقبلية، وهي من أصعب العمليات التاريخية بفعل كثرة انتماءات العراقيين، وكثافة أهواءهم وتباين هواجسهم، وتعددية نزوعاتهم التي لا تعرف أين تذهب خيوطها المتشابكة من فئوية وجهوية ومحلية وعشائرية وقبلية وطائفية وحزبية.. الخ من الولاءات التي تشتّت الهوية في بحر من التناقضات! وهنا يصبح التماهي مع quot; العروبة quot; شكلا ومضمونا مهمة صعبة، أو بمستقبل لا يُمكن الوصولُ إليه! لقد استخدمت كل دولة عربية مصطلحا خاصا بها لترسيخ تماهيها، فسمعنا: مصر للمصريين، وثمة جزأرة واردنة وسعودة وبحرنة وقطرنة ولبننة وسودنة وتونسة وتكويت وغيرها.. وفي الإمارات استخدم مصطلح quot; التوطين quot;. ويمكننا أن نلحظ المخاطر التي ستتعّرض لها المواطنة العراقية على حساب الهوية الوطنية، مما يدعو إلى اتخاذ إجراءات مدروسة للحفاظ على الهوية الوطنية والثقافية معا !
إنني أجد الثقافة العراقية متنوعة في تكويناتها وألوانها المتعددة، كأساس حقيقي شامل، ولكن مع وجود ثقافة عراقية موحدة تسيطر الثقافة العربية عليها، وتشاركها ثقافات لأقليات متنوعة: السريانية / الآرامية والعبرانية والاثورية والكلدانية والكردية والتركمانية والصابئية واليزيدية والارمنية.. الخ وهذه المرآة مثقلة بالموجودات والمعاني والخصائص والأصول والأشكال والموروثات والتقاليد والتواريخ السكانية.. تجمعها كلها بيئتنا العراقية. فالهوية تعكس هذا التنوع وتترجمها إلى العالم تعبيرا عن واقع لا يمكن نكرانه. لقد مورس قهرا وإقصاء للثقافات الأخرى، مما ولّد ردود فعل قاسية لدى الملل والأقليات الاجتماعية في مناطق عراقية خطيرة، بل وخلق كراهية وأشعل معضلات أهلية في العراق (كما هو الحال في لبنان ومصر والجزائر والأردن وسوريا والسودان والمغرب.. الخ) أتمنى أن تتعزّز الهوية الوطنية لكل العراقيين مهما بدا من اختلافاتهم الثقافية، فلن تجمعهم إلا الهوية الوطنية من تحديات تعّشش داخل حصوننا.. فهل سنعمل معا من اجل ترسيخ ضرورات التاريخ. إنني لا أخشى على العراق ترابا وجغرافية وتكوينا بقدر ما أخشى على الهوية الوطنية من أي تحديات إقليمية وداخلية ؟؟

الملاحظات:
(1) أود التوضيح هنا جميع القراء الكرام، بأن هذه المدخلات بحلقتين اثنتين، ستمّثل بدايات أولى لموضوع quot; محاضرتي الشفوية التي قدمتها مساء يوم الأحد 16 مايس / آيار 2010، بعنوان quot; الهوية العراقية: محاولة لاستعادة التشكيل بين المعنى والجذور quot; على قاعة سمير أميس بمدينة مسيسوغا الكندية، وبدعوة كريمة من الجمعية العراقية الكندية وضيافة النادي الاثوري.. وأعد القراء الكرام أنني سأنشر تلك quot; المحاضرة quot; بعد أن انشر هذه quot; المدخلات quot; في حلقتين اثنتين.
(2) راجع التفاصيل حول معنى quot; الهوية quot; وفلسفتها الاجتماعية في:
Etienne Wenger, Communities of Practice: learning, meaning and identity, (Cambridge: Cambridge University Press, 1998), pp. 12-20.
www.sayyaraljamil.com
انتظروا الحلقة 2 رجاء