ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخـــــو الجهالة بالشقاوة ينعم
المتنبي

شقاء المثقفين بين الامس واليوم

الجزء الأول

الجزء الثاني

عندما كان العراقيون يعملون وينتجون ويبدعون ليل نهار قبل خمسين سنة، لم تعرف تشكيلاتهم الفنية وفرقهم المسرحية، ولا أحزابهم السياسية، ولا منتدياتهم الفكرية، ولا مقاهيهم الأدبية أية انقسامات دينية أو تشظيات طائفية، اذ لم يكونوا ضد مجتمعهم، ولم يعترفوا أصلا لا بالطوائف ولا بأية مكونات أخرى.. كانوا أحرارا كتابا وشعراء وعلماء ومثقفين وأساتذة ومختصين وفنانين وصحافيين ومهنيين.. نعم، كانوا أحرارا في أفكارهم وتصرفاتهم وحتى في جنونهم وفنونهم، سواء كانوا موالين لسلطة معينة أو معارضين لها، ولكنهم لم يكونوا أغبياء ومتطفلين ومنغلقين ومهرجين وطائفيين.. ربما كان بعضهم مجنون بعبقريته او يؤمن بشياطين شعره، او قد غرق بعبثيته ووجوده وفلسفته.. اليوم تغير مجتمعنا العراقي وانهارت معادلته وتفككت موازينه، وتبدلّت كل قيمه وسلوكياته وأخلاقياته بحيث لا تجد إلا التشخيص الطائفي يمثل أمام عينيك أينما ذهبت ووليت وجهك! اليوم يأتيك الوباء كله من أحزاب طائفية، ومحاصصات طائفية، وقنوات فضائية طائفية، ومنتديات طائفية، وتشكيلات طائفية، ومواقع الكترونية طائفية.. من المسئول عن ذلك؟ هل ترمى المسؤولية كلها على مجهول.. أم أن ثمة إستراتيجية فكرية وأيديولوجية تطبّق من اجل بلوغ أهداف معينة؟ لماذا أصبح المعيار الطائفي هو الحكم أو المقياس لكل حياة العراقيين ويا للأسف الشديد؟ إذا كانت هناك احتقانات طائفية في الماضي عند البعض، ويعترف بها الجميع، بل ووصل بعضها إلى حد التجاوزات والاعتداءات والتسقيط والتهميش، فهل من العقل أن لا يكون لنا أي هدف إلا تصفية الحسابات القديمة وضد الجميع؟ من يقف بوجه هذا الطغيان الجديد؟ من يصارع هؤلاء الحمقى علنا على رؤوس الأشهاد؟


نعم.. من يقف بوجه هؤلاء؟
إن العراقيين جميعا يعشقون وطنهم، ولا يمكن لأي طرف من الأطراف أو أي طيف من الأطياف أن يحتكر هذه المواطنة ليسجلها سند طابو باسمه، وينفي هذه الصفة عمّن يخالفه أصله وفصله ولونه وعقيدته ودينه ومذهبه وحتى توجهّه الفكري والسياسي.. وعليه، لماذا حصل هذا الشرخ الذي يزداد كل يوم بفعل انعدام أي مواجهة حقيقية من قبل فرض القانون؟ لماذا يبقى بعض المثقفين، أو ممّن يحسب عليهم ظلما وعدوانا، يصفق لهذا الذي يحدث من دون أن يقف يعارضه بالمرصاد؟ فضلا عن خلو الساحة إلا من الذين يسودنها بكل رعونة وجهالة وغباء .. إذ صمت الجميع عمّا يحدث، وسكت حتى الأحرار عمّا ينشر، وليس للعراقيين اليوم إلا المطالبة بتشريع قوانين وضوابط وتعليمات تحفظ الإنسان كرامته وحقوقه في وطنه الذي ولد وعاش فيه.. إذا كان العراقي سابقا قد فرضت عليه واجبات لا توازي حقوقه المهضومة، فلا يمكن له اليوم أن يفقد واجباته وحقوقه معا! إذا كان بالأمس يعيش تمايزا سياسيا واضحا كونه بعثي أو غير بعثي.. ومجبر على التأييد والتصفيق والولاء.. فانه اليوم يعيش تمايزات اجتماعية فاضحة في ظل ديمقراطية كسيحة، وهو غير مجبر على التأييد والتهريج والولاء!


اشباح يقفون وراء الطغيان الاعمى؟
أتمنى مخلصا أن لا تكون هذه quot; المناشدة quot; يتيمة تقف لوحدها في الميدان كي يغرقها الموج الطاغي من المهرجين والسفهاء والأغبياء الجدد لتموت.. وأتمنى أن يقف كل من له ضمير حي ليقول ( لا ) للطغيان الأعمى.. ويقول كلا لاضطهاد المثقفين الأحرار.. علينا أن نناشد جميعا بمطالبات حقيقية، ونصرخ قويا بوجه كل الطغاة الذين يريدون قمع الكلمة وتزوير الحقائق وشق المجتمع، وان نقف مع كل المثقفين والمبدعين العراقيين الذين يتعرضون لأسوأ التجريحات والشتائم بفعل أناس لا ذمة لهم ولا ضمير وعلى مواقع الكترونية مأجورة، ولها أهداف سيئة للغاية، وخصوصا أولئك الذين يشتمون ويتهمون ويذمون الناس في أصولهم وأخلاقهم وأفكارهم.. أولئك الذين لا يعرفون من هم، فهم كالأشباح يطلقون ما لديهم من سيئات في الظلام، ثم يهربون فهم جبناء لا يقوون على المواجهة بأسمائهم .. إن ما نلحظه من إساءات ليس بحق ذوات وأشخاص وأسماء.. ولكن ثمة تشويهات مقصودة لتواريخهم ووجودهم.. إننا ندرك أن تاريخنا لا يخلو من هذه quot; الظاهرة quot; السيئة والتي مثلها شعر الهجاء واستخدام لغة منحطة من الشتائم والسباب وتشويه سمعة الخصم.. ولكن كان ذلك علنا على رؤوس الأشهاد، ولم يكن يمارس كما هو الحالق اليوم.. ومن قبل أناس لا يعلنون هويتهم ولا أسماءهم ولا وجودهم. وعليه، فان التمادي في مثل هذه الحالات التي تشكّل اليوم ظاهرة خطيرة.. ستضر بالوعي ضررا شديدا، وستضرب في الصميم ما تبقّى في مجتمعنا من قيم وأخلاق.. وإنها الأقوى في معركة غير متوازية أو متوازنة مع نخب قليلة تعاني من اضطهاد أجهزة وفئات معينة للوعي، وهي قادرة في الحرب على المعرفة ورجالها..

المبدعون العراقيون يتلظون
علينا أن لا نتخندق سياسيا مع هذا أو ذاك، فالمشاكل السياسية لا يمكن أن تجد لها نهاية في العراق، ولكن على المثقفين العراقيين أن ينتبهوا إلى نخب عريضة من ابرز المبدعين والمثقفين الحقيقيين في الداخل والخارج كيف يعانون من شظف العيش والحياة.. نسوة ورجالا، وتجدهم من روائيين وفنانين وتشكيليين وشعراء وأدباء ومختصين أكاديميين ومهندسين وعلماء ومهنيين مدنيين وعسكريين ورجال قانون وصحافيين..، يعانون الأمرّين وخيرات العراق تنهب علنا من قبل أناس فقدوا ضمائرهم، وهم من الجهلاء والأغبياء الذين لا يعرف أحدهم تركيب جملة مفيدة واحدة! مئات بل آلاف العراقيين من مثقفين ومختصين ومبدعين ومهنيين أصبحوا يتوزعهم الشتات في هذا العالم المتوحش، وهم غرباء وقد تفرّقت بهم السبل، وهم يتحملون ذلك، كونهم قد أرغموا على مبارحة وطنهم.. مرغمين على ذلك وهم يعانون من شقاء الوعي الحقيقي.. ولا يمكنهم أن يمدوا أيديهم إلى أية جهة تريد ابتزازهم أو توظيفهم أو استخدامهم كونهم ما زالوا يحملون قيمهم الوطنية الصادقة.. وكان اغلبهم من المعارضين للاستبداد والجحيم، وتجدهم اليوم يتلظون ببؤسهم وتشردهم وفقرهم وموتهم البطئ.. وهم يجدون غيرهم من التافهين يمنحون آلاف الدولارات شهريا، وثمة من ينهب بالملايين.. دع الجناة يتشدقون بالديمقراطية، وكأنها صندوق انتخابي هزيل فقط، وهم يمايزون بين أبناء المجتمع علنا، ويجعلون نصف المجتمع رهينة بأيديهم، ويلقون عليهم التهم الرخيصة التي لا أصل لها من الصحة! لقد نحر المجتمع العراقي نحرا بطيئا عندما عاف البلاد والهرب من الجوع والقهر والرعب.. أو من الموت أو الخطف أو الإعدام خيرة أبناء العراق لتمتصهّم مجتمعات شتى في العالم، وليس لهم من ذنب إلا كونهم قد اضطهدوا وما زالوا يضطهدون نسوة ورجالا. إن المبدعين مهمشون على قارعة الطريق العراقي سواء كانوا في دواخل البلاد أم في شتات الأرض. إنهم مضطهدون لأنهم كانوا وما زالوا من المبدعين.. لقد انسحق أولئك الذين يعانون من كل المصائب في الدواخل العراقية انسحاقا مريرا، وما زالوا يحملون أنفسهم بأنفسهم من اجل أن يكونوا مرآة العراق يوما.. أما أولئك الذين قد تفرقوا في أرجاء الدنيا، فهم ما زالوا يقدمون ما لديهم برغم كل القساوة والاغتراب. اما المرأة العراقية، فان مأساتها مضاعفة، ان نسوة من خيرة المثقفات العراقيات من كاتبات وتشكيليات وفنانات ومتخصصات مبدعات في شتات الأرض لهن معاناتهن التي لا يمكن وصفها.. فهل التفت إليهن أحد؟


وأخيرا: اناشد ضمائر كل العراقيين الشرفاء
إنني أناشد كل الكتّاب العراقيين الأحرار والشرفاء من مستنيرين وعقلاء مهما كانت أطيافهم واتجاهاتهم وأفكارهم وأيديولوجياتهم.. أن يقاطعوا العديد من الأحزاب والأطراف والمواقع والأشخاص، ويمنعونهم منعا باتا إن اعتدوا وسطوا على تاريخهم وعلى أعمالهم وعلى أصولهم وعلى سمعتهم وعلى وجودهم بفضحهم أمام العالم.. من اجل الحفاظ على كرامتهم وكرامة زملائهم وأصدقائهم كلهم.. على كل مثقف عراقي متمدن له ذرة من الوطنية أن لا يتعامل مع كل من فقد صدقه وأخلاقه وعزف على أنغام المكونات والانقسامات.. وعلى الكتّاب الشرفاء مقاطعة مواقع الكترونية معروفة بإسفافها وانحطاط أخلاق أصحابها، وتوحش ممارساتها وسوء أهدافها الشريرة.. على كل العراقيين أن يكونوا صادقين مع أنفسهم قبل أن يظهروا صدقهم مع الآخرين.. وان يكونوا بوجه واحد ولا يتعاملوا بمائة وجه.. وسوف لن يبقى إلا الضعفاء والجهلاء في الميدان.. عليهم أن يواجهوا الحجة بالحجة، وإلا فمن الصعب أن يقبل الإنسان سماع التهم وتوجيه الاتهامات وتوزيع الشتائم بلا أية مبررات! فهل سيأتي يوما ينتهي مثل كل هذا التوحش في العراق؟ هل ستتغير وزارة عراقية يسمونها وزارة الثقافة كي تبدأ حياتها بمشروعات حيوية جديدة؟ هل ستقوم الدولة العراقية بمهامها الوطنية التي تلزمها بإعادة الهيبة والاعتبار للثقافة العراقية جزءا لا يتجزأ من تصويب المنظومة القيمية في المجتمع؟ هل سيقوم البرلمان العراقي بمراقبة ما يجري على الأرض من ممارسات ساقطة، ليتصدى تشريعيا، ويقف وقفة وطنية صادقة من اجل الثقافة والمثقفين العراقيين؟ هل سيأتي الإنسان العراقي المناسب في مكانه المناسب.. من دون أي تفرقة دينية، أو محاصصات طائفية، أو تمايزات سياسية، أو محسوبيات عشائرية، أو توزيعات مناطقية؟ هل ستشكّل اللجان رسميا للنظر في تقويم الحياة العراقية على أسس جديدة بعد أن تعبت كثيرا على امتداد سنوات مضت؟ كلها أسئلة نطالب من يتولى مسؤولية العراق النظر فيها ومعالجتها معالجات حقيقية لا مزيفة.. وان تغرس مقوماّت جديدة من اجل مستقبل عراقي وضاء. فهل سيحدث ذلك في قابل الأيام؟ هذا ما يرنو إليه كل العقلاء من أهل العراق المرتبطين بهموم العراق ومتاعبه ومشاكله.. لمعالجاته وإصلاحاته وتغيير خارطة طريقه نحو التمدن الافضل.
www.sayyaraljamil.com