معنى الوعي فلسفيا
كان quot; الوعيquot; يعرف قديما quot; انه شعور الكائن بما في نفسه، وما يحيط به quot;، ولكن مدلولات الوعي أخذت لها معاني أخرى مع تطور تفكير الإنسان مؤخرا، إذ اخذ quot; الوعي quot; يتضمن مدركات عمق الأشياء وتفرعاتها وتوسعاتها.. كي يمتد نحو مجالات سايكلوجية واجتماعية وفكرية ليكون quot; إدراكا عقليا واضحا لمتطلبات العمل الناجح والمهام الأساسية وكيفية انجازها quot;. وعليه، فان أي مشروع يبتكره الإنسان، ينبغي أن يسبق بتفكير موضوعي يضمن سلامته بما يتفق وسنن الحياة النسبية لا المطلقة.. وان أي وعي مجرّد من أية إجراءات، أو برهنة، أو تطبيقات، فهو مجرد أوهام وسفسطة ومخيال لا تمّت جميعها للحقيقة بصلة. هنا، علينا أن نفرّق إذن بين الإحساس بالشيء والوعي به.. أو الوعي بالشيء واللاوعي به! إن quot; الوعي quot; يتشكّل أساسا من التفاعل مع البيئة الخارجية، أي ما يحيط بالإنسان كجوهر أساسي للوظيفة، وهذه هي مهمة الإنسان ككائن يفكّر في هذا الوجود.. إنها المرحلة الأولى لتشكّل الوعي من خلال التفكير العقلاني، ثم يتطور هذا quot; الوعي quot; لاحقا ليغدو فهما للمعاني والأشياء وسلامة الإدراك والإدراك المتبادل..
وعي الانسان يشكّل وعي المجتمع
إن الوعي من خواص الإنسان، ومتى كثر أصحابه، غدا المجتمع أكثر وعيا ومعرفة بعوامل وجوده وأفعاله وأفكاره.. فالمجتمع كالإنسان يتصرف بوعي منه، أو بلا وعي منه، طبقا للمعرفة التي تستلهم من الإدراك بالأشياء كلها، وبالأحوال اجمعها، ومن ثم الوجود والزمن والمكان والمجال الذي يتحرك فيه. وعليه، فالوعي هو الذي يحرك الإنسان والمجتمع معا من اجل أن يعيشا الحياة. وهذه الخواص هي التي تميز أي إنسان عن الآخر أولا، وهي التي تميز أي مجتمع عن الآخر بالضرورة وبأسلوب مباشر في الرؤية وبالتطبيق في كيفيات مشتركة، خصوصا إذا ما علمنا أن ما يميز الإنسان ككائن له عقل يفكّر ويتأمل بواسطته بكل الذات التي يحملها وطبيعة الأشياء التي يواجهها سواء بنظره أو بسمعه أو بأحاسيسه.. ثم يتمثلها ويبقيها قيد التفكير من اجل التواصل بينه وبين مستقبله، ويبقى ماضيه يستلهم منه التجارب والعبر. والفكر فاعلية حقيقية تشكّل وجود الأصل ذاته ـ على حد تعبير هيغل في الاستاتيكا 1835 ـ. وعليه، فإذا كانت وظيفة الوعي تقديم صورة حقيقية عن الواقع والذات، فلا يمكن أبدا أن تغدو الصيرورة خاضعة لتفاعلات الأوهام والشعارات والمؤدلجات والأخيلة، فيتم تزييف الواقع وتشويه الحقائق!
الوعي: ضرورة استراتيجية
عندما أتكلم عن غيبوبة الوعي عند بعض العراقيين، فليس معنى ذلك أن جيران العراقيين اجمعهم، لهم وعيهم ورقيهم، ولكن العراقيين اليوم، أحوج ما يكونوا إلى معالجات لقضيتهم ومآسيهم التي لم يعشها أي شعب من شعوب المنطقة حتى الآن. إن الوعي بالأمور والأحوال والمشكلات وبكل الخفايا التي يمارسها أصحاب السلطة.. إن الوعي أهم بكثير من الثقافة التي تأتي مجسدة له. لقد غادرنا نحن العراقيين تاريخا صعبا عام 2003، لندخل إلى تاريخ أصعب، خصوصا وإنهم يعيشون فراغا هائلا من كل الجوانب يصعب أن يمتلأ بسهولة، إن المجتمع العراقي بحاجة إلى سنوات طوال، كي يتمكن من ملأ الفراغ السياسي والفكري والتربوي والأخلاقي.. أي أن يستعيد وعيه شيئا فشيئا، ولكن ضمن شروط لم يتقّيد بها حتى يومنا هذا. أن الوعي المغيب في اغلب قسمات المجتمع العراقي حالة متبلورة منذ قرابة نصف قرن 1963 ndash; 2003.. إن أي وعي جديد لا يمكن زراعته بسرعة خاطفة، فالوعيّ ليس لباسا جديدا أو قناعا بديلا.. الوعي بحاجة إلى سنوات طويلة، يشعر فيها الإنسان بقدرته على كشف الصواب من الخطأ، وعلى تكوين إرادته التي لا ينساق من دونها وراء هذا أو ذاك.. إن الإنسان الواعي يشعر بتحديات المستقبل أكثر مما يعيش ذلك نقيضه اللا واعي وهو لا يفكّر إلا بالماضي صباح مساء..
إن من يمتلك quot; الوعي quot; باستطاعته التمييز بين الأشياء والرموز، وان لا يعيش هوس الشعارات الوعي انك تعرف حجمك عندما تخاطب العالم والإقليم ودول الجوار أو حتى مواطنيك! الوعي أن تقول لك وما عليك إزاء أي ظاهرة من الظواهر بشكل مباشر.. الوعي انك تدرك أين يكمن الخلل، وتحاول معالجته ما استطعت! الوعي انك تعرف أين يرتبط مصيرك هل بأهلك ووطنك أم بغيرهم.. الوعي انك تعيش في عصر وتنادي من اجل دولة تحمي مصالحك وتخدم حياتك لا من اجل ان يتكالب المرء على السلطة والجاه والمال والحرس والانتماءات ضمن محاصصات وتحالفات وعلاقات غير سياسية، كأن تكون جهوية أو طائفية أو نفعية.. الوعي أن تنصت لمن هو اقدر وأكفأ منك في تنفيذ أية إجراءات تخص الصالح العام.. الوعي أن تحافظ على التراب والإنسان والمال العام وكل ما يخص ثروات البلاد من دون أن تبددها أو تحرقها أو تسرقها أو تتصرّف بها كما تشاء، وكأنها ملك الذين خلفوك! الوعي أن تكشف كل المزيفات والأخطاء والتجاوزات لا أن تخفيها بغباء، فستدور الدائرة عليك لتحاسب في الدنيا والآخرة.. الوعي أن تشعر بأن تأخذ ما تستحقه فقط من دون السيطرة على استحقاقات الآخرين.. الوعي أن تمنح كل واحد من بني وطنك حقه في العيش والتفكير والرأي وأداء ما يعتقد من دون تسفيه أو تجريح أو تنديد أو قتل أو تشويه سمعة.. الوعي أن تشعر بأن من تسلّط عليك وحكمك بإرادتك أنت الذي كنت ولم تزل مادة دسمة للخديعة، يستلب وينهب برواتبه المليونية قوت الفقراء وأموال البائسين العراقيين، وهو لا يصلح أبدا لحكم بلد يخلو من ابسط الخدمات الإنسانية! الوعي عندما توظّف الأجهزة الإعلامية من اجل التمدن وتأهيل الفكر وتنمية التفكير واستعادة القيم الوطنية بدل أن تغدو وسائل للتفرقة والتخلّف والتشويه وزرع الخلافات والأحقاد وزرع الكراهية بين العراقيين.
سقف زمني ومنهج تفكير
يريدني البعض القيام بزرع وعي جديد من خلال منهجية معينة! هنا أقول متسائلا: وهل الوعي له منهجية واحدة كي يزرع كالحنطة والشلب، حتى نحصده في أيام وشهور؟ إن الوعي يبدأ من حيث يبدأ النظام والتربية والتعليم والانفتاح وحسن التفكير وتنمية المنطق والتفكير.. انه يبدأ من حيث رياض الأطفال والابتدائيان والمدارس والإعلام الملتزم.. فهل لدينا من يؤهل الإنسان في المجتمع تأهيلا واعيا من اجل زرع الوعي؟ وهل باستطاعة المجتمع أن يخرج من سجن تقاليده البالية التي التجأ إليها كي تنقذه من التحديات بعد آن عجز في الاستجابة لها؟ وهل باستطاعة أي إنسان أن يخرج من شرانقه التي حبسوه فيها دهورا؟ هل بمقدوره أن يبدل سايكلوجياته بالكامل بحيث يشعر بعراقيته قبل أن يشعر باي انتماء يسبق ذلك؟ هل للعراقيين القدرة اليوم أن يصنعوا إرادتهن بأنفسهم قبل أن يصنعها الآخرون لهم؟ متى يشعرون شعورا حقيقيا، بل ويؤمنون إيمانا راسخا بأن الدين ينبغي فصله عن السياسة في العراق، ليس من اجل إيقاف حجم التناقضات فقط، بل ويقتنع اغلب الناس بأن لا عمل لرجال الدين في الدولة ومؤسساتها التشريعية والتنفيذية والقضائية.. ذلك أن عملهم يستلزم حصره في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وان يبقوا في أماكن وجودهم، وبمعابدهم فقط، أي أن يكون عملهم بأخلاقي لا سياسي، وان يكون علماء الدين الكبار مصدرا كي يسأل المجتمع عن أخلاقياته وهم يجيبون ولا علاقة لهم لا بسياسة الدولة ولا بمؤسساتها..
إن الوعي اكبر من أن نتخيل حجمه.. ربما لا نجده في مجتمعات أخرى، والأمور هناك تسير بصورة حسنة بسبب انسجام المجتمعات بعيدا عن مجتمعات العراق ولبنان، أو اليمن والسودان، أو تركيا وإيران، فربما كانت الدولة قد أشبعت حاجات الناس كلهم، فلم يعودوا يسألوا عما يمكن أن يكونوا عليه.. مع تباين نسبة الوعي الوطني من مجتمع إلى آخر نسبة إلى التكوين المعاصر لكل مجتمع والظروف التي ألمّت به، والأزمنة الصعبة التي مرّ بها.
دولة المؤسسات لا دويلة تحزبات وميليشيات او طوائف ومكونات
اليوم يمّر العراق مثلا، بحالة ضعف شديد، فالمجتمع له مشكلاته الصعبة، بفعل انعدام الانسجام فيه، وانحدار الوعي بمستقبله، وقد جرى ذلك بحكم ضعف الدولة ومؤسساتها على امتداد خمسين سنة مرت.. لو كان هناك دولة له قدراتها لما احتاجت لا إلى عشائر ولا إلى قبائل ولا إلى قوى مخابرات أو أنظمة مرتزقة وميليشيات. ومن قال أن دولتنا حديثة في مؤسساتها وأجهزتها ودستورها ورجالها..؟ إنها دولة ضعيفة جدا تحكمها الأحزاب ولا تحكمها المؤسسات.. تتصارع عليها المصالح ولا تتنافس فيها النخب.. تتوزع فيها القرارات ولا تتشكل عنها المفاهيم.. هل هناك عاقل في القرن الواحد والعشرين يعتمد على عشائر لفرض الأمن الداخلي؟ ربما كان ذلك في العراق، والعراق محتل من قبل قوات أقوى دولة في العالم.. ومن بئس المقادير، أن يطالب البعض من العراقيين ببقاء المحتل على ترابهم الوطني، لا من اجل تنفيذ استحقاقات العراق المدمّر من قبل ذلك المحتل، بل من اجل الأمن والخوف من عاملين اثنين: الصراع الداخلي كيلا يأكل العراقي ابن وطنه أولا، والنفوذ الإقليمي كيلا يتعّرض العراق للخروقات الإقليمية! فالصراع ليس داخليا، فقط، بقدر ما هو صراع دول في داخل العراق. وهل نصدّق أن العشائر أو المليشيات قد حاربت من دون انتظار أثمان؟ إنها تريد الثمن.. ولا تكتفي بمال أو سلاح بل طموحها السلطة. فهل هذه معادلة معاصرة برب السماء؟
إن المؤسسات العشائرية والقبلية والطائفية والجهوية موجودة في العراق منذ أزمان سابقة، وقد حاربتها كل الأحزاب التقدمية منذ أكثر من خمسين سنة.. فهل من الصواب أن اقبل بعد خمسين سنة سلطة عشائرية أو تحزبات طائفية أو مرتزقة اوليغارية في بلاد يقال عنها أنها كانت موطن حضارات وقانون؟ قد يقول القارئ: إن للضرورة أحكام وهذا أمر واقع، وما دامت العشائر والطوائف والاوليغاريات موجودة على ارض الواقع، فلماذا لم نقبل بها؟ أقول: وهل يلزمنا هذا quot; الواقع quot; أن نبقيه على ما هو عليه، حتى وان غاص في التخلف والعهر والموبقات؟ إذا كان الأمر كذلك، فلماذا كانت ثوراتنا وانتفاضاتنا الوطنية على امتداد قرن مضى ضد واقع متخلف ومزري تماما؟ لماذا كان هناك رفض للعشائرية والطائفية والانفصالية المقيتة من قبل كل الاحرار والتقدميين العراقيين؟
والحصيلة من اجل تكوين رؤية
علينا ان لا نكون كالنعامة نخبئ رأسنا في التراب وكل أشلائنا عاهرة أمام العالم.. قبل أن تكون العشائر أو الفصائل أو الكتل أو الأحزاب.. هنا أو هناك لها أعرافها وسمعتها وبعد ذلك أدوارها في خذلان المجتمع وتشكيل دولة كارتونية يقودها أناس بلا وعي ولا إدراك ولا معرفة ولا خبرة ولا تجربة ولا أسلوب قيادة حكيمة منذ عقود من الزمن.. الم يكن بعض أبناء تلك التشكيلات مطاردين ومتمردين وسفاحين وقطاع طرق وإرهابيين وقتلة على الهوية وخاطفين وممارسة كل الفاينات ـ حسب كل البيانات التي كنّا نسمعها ـ؟؟ كل عهد يلعن سلفه، كل زمن يمقت ماضيه، كل نظام يبيد من سبقه، وكل جماعة حاكمة تصفق لمصالحها ومنافعها الذاتية والبنتهامية والشيء نفسه ينطبق على بعض الأحزاب والقوى والمليشيات التي تحتل اليوم مواقعها في الدولة الجديدة وما فعلته وسجلته على صفحة تواريخ سوداء، تشهد أن أياديها كلها ملطخة بدماء الشعب العراقي سواء كانت متسلطة من خلال دولة أو من خلال تنظيمات علنية وسرية، كما تشهد كل معاملاتها على مدى إجرامها بحق المال العام، وتعاملها مع أطراف خارجية. عندما تقول لي أن هناك مشروعا وطنيا عراقيا في التغيير الجذري ويقضي على كل الموبقات التي لم تزل موجودة منذ خمسين سنة.. سأصفق لك وأقول نعم صدقت ورب الكعبة، ولكن ليعم الوعي عند كل العراقيين، بعد أن يفكّروا طويلا في حجم المأساة ومن ثمّ يقولوا كلمتهم! وسيقولوا كلمتهم في يوم من الأيام.
للموضوع صلة.. انتظر الحلقة القادمة رجاء
التعليقات