quot;العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوقquot; (مبدأ في علم الاقتصاد)
المعنى والمعاناة

الجزء الأول

إن التشظيات التي يعيشها المجتمع العراقي اليوم لا يمكن أن ينكرها أي عاقل في هذا الوجود. وان الانقسامات الاجتماعية والثقافية التي يعيشها العراقيون، لا يمكن أن يتجاهلها أي إنسان خبر تموجات تاريخ هذا المجتمع وتطور خطوات تقدمه وتأخره، انتصاراته وانتكاساته، تحدياته واستجاباته.. وبطبيعة الحال، فان المجتمع العراقي كان رهين من يحكمه، ويتبع النظام السياسي الذي يتولى المسؤولية عليه، بكل سلطاته وأجهزته ومؤسساته، وحتى أحزابه وجماعاته.. وقبل هذا وذاك سياساته التربوية والإعلامية ومن يقود هذا وذاك من أصحاب القرارات. لقد كنت قد أسميت هذه الحالة منذ أكثر من عشرين سنة بـquot;شقاء الوعيquot;، وها أنا ذا اليوم اسمّيها بـquot;اضطهاد الوعيquot; وهي تعني الوضعية النفسية والاجتماعية والثقافية.. التي يعيشها أي مثقف حر التفكير، مستنير الفكر، جرئ الرأي، قوي الإرادة في مجتمع موبوء بكل الأضاليل والتفاهات، والآراء البالية، والنزعات الشريرة، والتناقضات الحادة.. أي كالشمعة التي تبقى صامدة في ظلام دامس يندر فيه الأوكسجين! إن المعنى الحقيقي لاضطهاد المثقفين معاناتهم من أناس قد افتقدوا كل مواصفات الإنسان الحقيقي على وجه هذه الأرض! وقد عبّر العديد من المثقفين العالميين عن ذلك المعنى، نتيجة تجاربهم المريرة، سواء في معتقلاتهم أو سجونهم، أو غربتهم ومنافيهم، أو في أوجاعهم وآلامهم خصوصا أولئك الذين كانوا يعملون من اجل الارتقاء بمجتمعاتهم نحو التنوير والتغيير.. وما أكثرهم! ولقد وجدنا مثل هذه الحالة في مجتمعات أخرى، ولكنها في العراق، تأخذ لها شخصية من نوع ما تثير ملامحها كل الآلام والأوجاع.

مأساة المثقفين العراقيين الاحرار
ان المأساة التي يشهدها العراقيون اليوم، لا تعود إلى ما بينهم وبين الآخرين، بقدر ما كانت ولمّا تزل بينهم وبين أنفسهم.. وبالرغم من وجود تاريخ غير منسجم في ما بينهم، إلا أن تفاقم الانقسامات السياسية قد ولّد تشظيات اجتماعية مفجعة اثّرت تأثيرا كبيرا على أولئك الذين يتصلون بواقعهم وحياتهم ووجودهم اتصالا عضويا قويا.. إن ما حصل في العراق من هزّات سياسية وصراعات إيديولوجية ونضالات ضد الاستعمار والدكتاتورية والتخلف وكل أشكال التدنّي الوطني والإنساني، وشارك في ذلك اغلب المثقفين العراقيين بمنتجهم الإبداعي أو العلمي أو الثقافي أو حتى السياسي على مدى أكثر من مائة سنة مضت.. لا يقارن أبدا بهذه السنوات الأخيرة العجاف التي عشناها، فالعراق اليوم لم يكتف بهزات سياسية وصراعات حزبية، بل انتقل الخراب إلى المجتمع بحيث نجده يتمزق أمام أعيننا، إذ تثور الأحقاد الدفينة، ويزوّر التاريخ، وتشّوه الصفحات، ويتفجر الكبت المخزون، وتطغى لعنة الطائفية، وتوزع الاحكام الظالمة على الناس من العراقيين ويتهمون ظلما وعدوانا بتهم لا أساس لها من الصحة في هويتهم وانتماءاتهم وأخلاقياتهم وقيمهم ومناطقهم.. ولم يقتصر الأمر على مجرد أفكارهم وشعائرهم وطقوسهم.. الخ بل امتد الأمر إلى أفكارهم وتخصصاتهم.. انه صراع عقيم موبوء بكل العبث بالذات العراقية نفسها.. وبالإنسان نفسه في بلاد يتشدقون ليل نهار أنها موطن الحضارات الأولى ومنشئها، فأين التوحّش العراقي اليوم من معاني الحضارة الإنسانية؟

المشكلة تتفاقم مع تقدّم الزمن
ان المشكلة تتفاقم اليوم إلى الوراء مع تقدم الزمن، فالحقيقيون يتقدّمون معه ولكن كثرة من المزيفين والطفيليين والمتوحشين يتقادمون ضده بسبب استخدام الجميع تكنولوجيا الإعلام والفضائيات والانترنيت وآخر ما توصّل إليه هذا العصر من مخترعات ثورة الاتصالات.. ويعتقد البعض أن هذه الوضعية تمثّل الديمقراطية الحقيقية، وكأن هذه الأخيرة قد وجدت لتمزيق المجتمعات، لا لإيجاد السبل الناجحة لتطور المجتمعات. إن العراقيين اليوم يعيشون مأساة حقيقية، فالمجتمع يحمل انقساماته التي كانت مخفية وعميقة منذ زمن بعيد، ولم يكن منسجما في أي يوم من الأيام، ولكن لم تتوفر الفرصة له من قبل أن يعّبر عن مكنوناته ويشيح الأغلفة عن انقساماته ورؤاه.. اليوم، أنفضح كل شيء، ولكن بدل أن يحاور بعضه الآخر، راح يقتل بعضه بعضا، أو يرفض بعضه بعضا.. ولم يعش أي استقطابات حادة كالتي يعيشها اليوم، وخصوصا عندما تجد النخب في المجتمع نفسها في مواجهة مع اضطهاد واسع النطاق. إن المثقفين الذين يعّبرون عن وطنيتهم وإنسانيتهم وسمو عقلانيتهم من العراقيين، بعيدا عن اية انقسامات أو نزوعات في شتى الأرجاء، يضطهدون اليوم إن سلموا على حياتهم، ولقد دفعت الصحافة العراقية ثمنا كبيرا من قافلة شهداء لم يكن ذنبهم إلا كلمتهم المذاعة أو المقروءة! ولقد خسر العراق عددا كبيرا من الأكاديميين والمهنيين والمختصين والفنانين والمبدعين..

قمع الكلمة في زمن الفوضى الخلاقة
ولماذا يكون الاضطهاد؟ ولماذا تشن الحملات؟ ولما تقمع الكلمة في العراق؟ لم يعد الامر مقتصرا على الرعب من دكتاتور واحد يخشى الجميع من سطوته، او من رقابته الامنية، ولعلّ quot; الحريات quot; هي احدى ابرز منجزات ما تحقق، ولكنها حريات غير مسؤولة ابدا اذ غدا الامر اليوم، وقد اصبح كل من هبّ ودبّ دكتاتورا من مكانه، يمارس اشنع الممارسات ضد الاخرين، ممّن لا يتلاقى معهم باسم الحرية.. وبطبيعة الحال، لا يمكن أن يلتقي أي مثقف ملتزم حقيقي بآخرين من دعاة الكتابة والثقافة.. ولم يلتق الأحرار مع المتزمتيّن والمتعصبين والمتطرفين والطفيليين الذين لا يؤمنون بالديمقراطية أساسا.. ولم يلتق العلماء والنقاد والمفكرين مع أدعياء الكلمة والمهرجين والراقصين السياسيين الذين وجدوا الساحة مفتوحة لهم وحدهم.. الخ
إن ما توفر من أجواء مساعدة، وما ورثه العراقيون منذ خمسين سنة على سياسات المنع والعقوبة والرقابة الأمنية على الكلمة الحرة، وما زرعته الدكتاتورية والأحادية بكل الممانعات والمحرمات.. ومن ثمّ ما طبقه الأمريكان في العراق من سياسات الفوضى الخلاقة بتجزئة المجتمع إلى ما اسموه بـ quot; المكونات quot; الثلاثة وقتل الروح الوطنية.. وما نص عليه دستور البلاد من بنود انقسامية، وما أذيع ونشر من خطابات الأحزاب الدينية والطائفية في العراق، وما أحدثته الإعلاميات من هياجات واختراقات.. الخ كلها دفعت بالعراقيين، وخصوصا المثقفين إلى التشظّي والصراع في الداخل. وكما انقسم المجتمع جراء السياسات الانقسامية على أسس طائفية وعرقية وجهوية، فان الضرورة تقضي بانقسام المثقفين، وستكون انقساماتهم حادة جدا هذه المرة.. وتنحدر العلاقات الثقافية إلى حيث الإسفاف في بعض الأحيان، والى حيث ما تبقّى من قيم في أحيان أخرى. ولم يقتصر الأمر على مثقفين دون آخرين، فبعض من أسموهم بمثقفين عراقيين هرب إلى انتماء طائفي واضح المعالم أو خفي الجنبات.. ولم يتبق إلا فئة من المثقفين ألأحرار والمستقلين والتقدميين.. وبقوا من أقوى الصامدين الذين لا يعترفون بأية انتماءات جهوية أو طائفية أو عرقية إزاء ما يحدث من غلو وكوارث وتمزقات على أيدي الساسة المتخندقين والملالي المتصارعين.. ولم يخرج أيا من الأحرار بنتيجة إن أراد تصويب الأمور، أو الرد على المنقسمين والطائفيين، فهم أقوى منهم لأنهم يجدون المساندة من قوى سياسية حاكمة، أو من أحزاب طائفية ماكرة، أو من نظام حكم يؤمن نفسه بانقسامات العراقيين، ويعمل على هذا الأساس.

الصراع ضد اشباح وغلاة وطفيليين
من أصعب المشكلات التي يعانيها كل المثقفين العراقيين الأحرار عندما يجد المثقف نفسه مضطهدا من أناس لا يجدهم أمامه.. انه يحارب أشباحا ظلاميين يريدون الانقضاض عليه للفتك به.. وان وجد غيرهم، فانه يحارب حتى يفتك بخصمه، ولكن لا يجد من يقف معه انه وحده في الميدان يصارع كل قوى الظلام! وطبعا الآن أدركت لماذا يسكت الآخرون؟ ولماذا يلزموا الصمت حيال ما يعيشونه من اضطهاد للوعي؟ إنهم يدركون حقا بأن الثمن الذي سيدفعونه هو اكبر بكثير من هؤلاء جميعا! أي انه بالمحصلة اكبر بكثير من هؤلاء الفارغين والذين يركض وراءهم كل المغالين والمتطرفين والمتعصبين الذين لا يرون غيرهم على وجه العراق.. وكأن العراق لم يكن مأوى للملايين من الراحلين والقادمين.. للنازحين عنه والمجذوبين إليه!
إن اضطهاد المثقفين الأحرار قد وصل إلى خنق الوعي، بحيث لا يكتفي الغلاة والأدعياء وهم غابة من الطفيليين بكل أكاذيبهم التي يمرروها على الناس، بل يصّرون على أخطائهم ويقومون بترويج تلك الأخطاء! إنهم لا يقبلوا أن يروا العراق لكل من يقيم عليه، بل يريدونه كوة زنابير لهم لوحدهم فقط، وكأن غيرهم من العراقيين مزبلة أو جيفة ينبغي رميها وراء الحدود! إن أصعب ما يمارس من اضطهاد هو ذاك الذي يمس عصب الوعي.. إنهم لا يكتفون باضطهاد الإنسان أو حتى قتله والتشفّي فيه، بل التشكيك بعراقيته من خلال أصله وفصله، إذ جعلوا أنفسهم أوصياء على الناس وهم بلا معرفة وبلا ثقافة وبلا أخلاق في مجتمع عاش تاريخه كله وهو يجذب الناس ويستقطبها إليه، أو يطردها ويبعدها عنه.. إنهم لا يعرفون أن الأمم بأخلاقها تبقى، فان اضمحلت أخلاقها، وانحطت حياتها..انهارت بكل تعاساتها وذهبت مع الذاهبين! إن من ضرورات مستقبلنا الوقوف ضد هذه الفوضى الخلاقة التي تعمل اليوم على سحق منظومة القيم العراقية.. وقد نجحت حتى يومنا هذا في مهامها الخطيرة.

انتظروا القسم الثالث بعنوان شقاء الوعي: مأساة الثقافة العراقية
www.sayyaraljamil.com