مرة اخرى، يرفع quot;حزب اللهquot; من مستوى تحديه للعدالة الدولية من منطلق انه لا يمكن ان يقبل بعدالة من هذا النوع وان العدالة، اي عدالة، اما تخدم مصالحه ومآربه والاّ لا تعود عدالة. ياتي التصعيد الموجه الى لبنان اوّلا والذي يمارسه الحزب عبر امينه العام السيد حسن نصرالله، اوعبر الادوات المستأجرة من مستوى النائب ميشال عون وما شابهه، في وقت لا وجود لجهة تعرف شيئا عن مضمون القرار الاتهامي المفترض صدوره عن المدعي العام لدى المحكمة الكندي دانيال بلمار.
كيف يمكن تفسير التصعيد الذي يمارسه الحزب بطريقة تسيء الى لبنان ومستقبله ومستقبل كل عائلة لبنانية، بل تمهد لصدامات بين الطوائف والمذاهب، لبنان في غنى عنها؟ الجواب انه يبدو اكثر من طبيعي لجوء quot;حزب اللهquot; الى هذا التصرف، من دون النظر الى النتائج الخطيرة التي يمكن ان تترتب على ذلك، خصوصا ان الحملة على المحكمة تسمح له باحكام سيطرته على الوطن الصغير وتاكيد ان لبنان مجرد quot;ساحةquot; ايرانية وانه تابع بطريقة او باخرى للمحور الايراني- السوري الذي تتحكم به طهران من بعد احيانا ومن قرب في احيان اخرى، متى تدعو الحاجة الى ذلك طبعا.
من يتمعن جيدا في تفاصيل الحملة على المحكمة الدولية التي تنظر في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه والجرائم الاخرى التي سبقتها وتلتها، يكتشف ان الخيار الذي يطرحه quot;حزب اللهquot; على اللبنانيين في غاية البساطة : اما القبول بان يكون لبنان تحت الوصاية الايرانية ... واما لن يكون وجود للبنان، بل ستكون ارضه مسرحا لحروب جديدة تؤدي الى تهجير مزيد من اللبنانيين والى مزيد من عمليات التطهير العرقي تطاول اول ما تطاول المسيحيين والدروز في مناطق الجبل خصوصا ...
لبنان في وضع لا يحسد عليه. لكن لبنان يقاوم. انه يقاوم الذين يريدون التخلص من المحكمة الدولية نظرا الى ان كل لبناني يعرف تماما من قتل رفيق الحريري وباسل فليحان ورفاقهما. ويعرف من حاول قبل ذلك قتل مروان حماده ومن قتل سمير قصير وجورج حاوي وجبران تويني ووليد عيدو وبيار امين الجميل وانطوان غانم والرائد وسام عيد واللواء فرنسوا الحاج والنقيب سامر حنا. ويعرف خصوصا من حاول قتل الزميلة مي شدياق والوزير الياس المرّ والمقدم سمير شحاده. لا وجود لاسرار في لبنان. كان مطلوبا اخضاع اللبنانيين لا اكثر. لم يتغيّر شيء. هناك انقلاب يجري تنفيذه على مراحل. ليس التصعيد الاخير لـquot;حزب اللهquot; عن طريق امينه العام او الادوات التابعة للحزب اكانت مسيحية او غير مسيحية سوى فصل من فصول الانقلاب.
ما المطلوب عمليا من اللبنانيين؟ المطلوب منهم الاستسلام صراحة والاعتذار من القتلة. مطلوب منهم التنكر للمحكمة الدولية والمطالبة بالغائها. المطلوب منهم تجاهل ان هناك حزبا مسلحا يوجه بنادقه الى صدورهم العارية. مطلوب منهم الاقتناع بان هناك رسالة وجهها الدكتور هنري كيسينجر وزير الخارجية الاميركي الى العميد ريمون اده، رحمه الله، يعترف فيها كيسينجر بان هناك نيات اميركية مبيتة ضد لبنان، علما ان الرسالة الوهمية ليست سوى رواية. استند حسن نصرالله الى رسالة من نسج الخيال لا علاقة لها من قريب او بعيد بالواقع ليهاجم المحكمة الدولية. وهذا يدل على مدى افلاس quot;حزب اللهquot; والذين يقفون خلفه من جهة وعن جهل بتفاصيل الاحداث التي تعرّض لها لبنان وتلك التي توالت عليه من جهة اخرى. هذا لا يعني ان نيات كيسينجر تجاه لبنان كانت طيبة. فالوقائع تشير الى ان السياسة الاميركية في تلك المرحلة كانت من التعقيد الى درجة تجعل من المستحيل معرفة ماذا كانت ادارة ريتشارد نيكسون تمتلك هدفا واضحا، باستثناء التوصل الى اتفاقات لفك الاشتباك بين اسرائيل من جهة وكل من مصر وسوريا من جهة اخرى. وقد نجحت في ذلك على جبهتي سيناء والجولان بفضل سياسة الخطوة خطوة التي مارسها كيسينجر ...
تعود مشكلة quot;حزب اللهquot;، التي يحاول الهرب منها، الى ان ان كل ما هو مطلوب منه ان يفعله في هذه المرحلة يتمثل في لعب دور التنظيم المسلح الذي يساهم في الغاء مؤسسات الدولة اللبنانية. القصة نفسها تتكرر منذ العام 1969 من القرن الماضي، تاريخ توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم. كانت مشكلة لبنان في الماضي مع السلاح الفلسطيني غير الشرعي. صارت مشكلته الآن في السلاح الايراني غير الشرعي. في الحالين، هناك الطرف السوري الذي يلعب دورا محوريا في تمرير هذا السلاح الى الاراضي اللبنانية معتقدا ان في استطاعته الاستفادة من انهيار الدولة اللبنانية ومؤسساتها.
ما يمارسه اللبنانيون الذين رفضوا الرضوخ لارادة السلاح الميليشيوي او لمنطق الانتصارات الوهمية على اسرائيل، وهي انتصارات على الوطن الصغير ليس الاّ، وللمال quot;النظيفquot;، يمثل فعل مقاومة حقيقية تؤكد تمسكهم يثقافة الحياة. انها مقاومة من يحاول بناء دولة مؤسسات في بلد صغير كل الفئات التي فيه اقليات. ما يفعله الذين يتمسكون بالحقيقة عن طريق المحكمة الدولية يتمثل في السعي الى وضع حد نهائي لمسلسل الاغتيالات السياسية المستمر منذ العام 1977 عندما دفع كمال جنبلاط من حياته ثمن رفض الوصاية والتبعية.
يظهر اللبنانيون المتمسكون بالمحكمة الدولية انهم على استعداد للذهاب بعيدا في مقاومة السلاح غير الشرعي لدى اي فئة من الفئات نظرا الى انه لا يخدم في نهاية المطاف سوى اسرائيل. ما يفترض ان يستوعبه اي مسؤول لبناني ان هنري كيسينجر توصل في اواخر العام 1975 وبداية العام 1976 الى تفاهم مع غير جهة اقليمية على دخول القوات السورية الى لبنان كي quot;تضع يدها على مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينيةquot;. من حال وقتذاك دون وصول القوات السورية الى خط الهدنة بين لبنان واسرائيل، هو اسرائيل نفسها التي اصرّت على بقاء المسلحين الفلسطينيين في جنوب لبنان بحجة انها تريد انها quot;في حاجة الى مناوشات معهم بين حين وآخرquot;. هذا كل ما في الامر بعيدا عن الكلام المضحك المبكي عن رسالة من كيسينجر الى ريمون اده، وهو كلام يصلح لسهرات القرية بالكاد. تلك هي قصة السلاح الميليشيوي في لبنان، السلاح الذي لم تعترض عليه اسرائيل يوما، بل اصرّت على بقائه في الجنوب وغير الجنوب كونها تعرف انه الطريق الاقصر لضرب الصيغة اللبنانية. انه السلاح الذي يستخدم في الحملة على المحكمة الدولية بحجة انها quot;اسرائيليةquot;!