لعل اخطر ما يهدد لبنان في هذه المرحلة بالذات الحملة على المحكمة الدولية التي يفترض ان تنظر في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه والجرائم الاخرى التي استهدفت تغطية جريمة العصر... وحتى الجرائم التي مهدت لاغتيال ذلك الزعيم الوطني اللبناني الذي اعاد الوطن الصغير الى خريطة الشرق الاوسط والعالم بدءا بمشروع اعادة الحياة الى بيروت.
يتبين كلما مرّ يوم ان رفيق الحريري دفع ثمن ايمانه بلبنان وبصيغة العيش المشترك وبقدرة اللبنانيين على مواجهة الهجمة المستمرة على بلدهم منذ ما يزيد على اربعة عقود. دفع ثمن ايمانه بأنّ في الامكان اعادة بناء المؤسسات اللبنانية عن طريق المثابرة من جهة والتمسك بفكرة الدولة من جهة اخرى. ربما اغتيل رفيق الحريري لأنّه آمن بالدولة ومؤسساتها وبأنّ هذه الدولة ستبتلع الميليشيات وستقضي على كل سلاح غير شرعي نظرا الى الميليشيات تساهم مع السلاح غير الشرعي في بقاء لبنان حقل اختبار وضحية للتجاذبات بين القوى الاقليمية ولحفلة التكاذب المستمرة بين العرب انفسهم وبين العرب وغير العرب في المنطقة. ما هذا التكاذب الذي يفرض السكوت عن ابقاء جبهة جنوب لبنان مفتوحة على الرغم من صدور القرار الرقم 1701 عن مجلس الامن التابع للامم المتحدة في آب- اغسطس 2006؟ ما هذا التكاذب الذي يعني ان ليس هناك من يريد قراءة نصّ القرار والاعتراف بانه يعني قبل اي شيء آخر وقف تدفق السلاح على لبنان واغلاق جبهة الجنوب واحترام quot;الخط الازرقquot; وتمكين اهله من العيش بسلام ووئام في انتظار تسوية شاملة على الصعيد الاقليمي في يوم من الايّام تضع حدّا نهائيا للمزايدات والشعارات الفارغة والمتاجرة باللبنانيين والفلسطينيين واستخدامهم وقودا في معارك لا علاقة لهم بها...
تكشف الحملة التي تستهدف التخلص من المحكمة ان هناك من يريد تأكيد انه لم يتغيّر شيء في لبنان وان الوطن الصغير في حاجة دائمة الى وصاية اكانت سورية او سورية- ايرانية. المهم ان يظل لبنان quot;ساحةquot; لا اكثر تستخدم لتصفية الحسابات مع العرب وغير العرب واخضاع كل لبناني يتجرّأ على رفع رأسه والقول انه ينتمي الى ثقافة الحياة والحرية وكل ما هو حضاري في هذا العالم. ولذلك، تستمر حملة التهويل على اللبنانيين كي لا تظهر الحقيقة التي تكشف من اغتال رفيق الحريري وباسل فليحان ورفاقهما ومن حاول قبل ذلك اغتيال مروان حماده ثم الياس ميشال المر ومي شدياق وسمير شحاده. المطلوب بكل بساطة ان يستسلم اللبنانيون للقدر وللذين يريدون منهم القول ان اسرائيل وراء كل الجرائم وانها من اغتال سمير قصير وجورج حاوي وجبران تويني ووليد عيدو وبيار امين الجميّل وانطوان غانم واللواء فرنسوا الحاج والمقدم وسام عيد والملازم سامر حنّا.
ليس سرّا ان لاسرائيل موقفا واضحا من الصيغة اللبنانية، خصوصا انها تريد احتكار الديموقراطية في المنطقة. اكثر من ذلك، لم تعترض اسرائيل يوما على اي محاولة لوضع اليد على لبنان وابقاء الجنوب خارج سيطرة الجيش اللبناني وتحويله الى بؤرة توتر تستغلها متى وجدت ذلك مناسبا لها. اسرائيل اعترضت حتى على وصول quot;قوات الردع العربيةquot; وهي في معظمها سورية الى الحدود الدولية التي شكلت quot;خط الهدنةquot; بين لبنان واسرائيل. وهذا الخط كان عمليا الخط الفاصل بين لبنان وفلسطين ايام الانتداب. اسرائيل كانت ترغب في بقاء quot;المسلحين الفلسطينيينquot; في جنوب لبنان نظرا الى انها كانت في حاجة الى quot;مناوشاتquot; معهم بين الحين والآخر. ولكن هذا لا يعني ان على اللبناني اتهامها سلفا بالجرائم التي ارتكبت في الاعوام 2004 و2005 و2006 و2007 وحتى تلك التي ارتكبت قبل ذلك. في الامكان اتهام اسرائيل متى توافرت الادلة التي تؤكد ضلوعها في الجرائم. وحدها المحكمة الدولية قادرة على اثبات ذلك. ولذلك يجب ترك المحكمة تؤدي مهمتها وما هو مطلوب منها... بعيدا عن التشويش واطلاق الاتهامات الفارغة من اي محتوى.
يندرج ما يتعرض له لبنان حاليا في سياق محاولة انقلابية تنفّذ على مراحل. تكمن مشكلة الذين وراء المحاولة في انهم فشلوا حتى الآن في اسكات اللبنانيين ومنعهم من الادلاء برأيهم ومن استعادة جزء من حريتهم. لبنان لا يزال يقاوم واللبناني يعرف قبل غيره ان وجود المحكمة الدولية جزء من المقاومة. لولا المقاومة، لما كانت هناك محكمة ولما كان هناك من يخاف من المحكمة ويحاول الغاءها بقوة السلاح وبالكلام الكبير عن مؤامرة اميركية ndash; اسرائيلية بغية اثارة الغرائز المذهبية بشكل مكشوف.
في انتظار القرار الاتهامي الذي سيصدر عن المدعي العام في المحكمة الدولية القاضي بلمار، ليس امام من يهاجم المحكمة الدولية سوى الانتظار وطرح سلسلة من الاسئلة من نوع: لماذا الخوف من المحكمة الدولية ومن قرار اتهامي لم يصدر بعد؟ لماذا تتدخل ايران ويهاجم المسؤولون فيها المحكمة الدولية اليست لدى ايران طريقة افضل لاثبات ان لا علاقة لـquot;حزب اللهquot; بمسلسل الجرائم التي ارتكبت في لبنان؟ لماذا لا يتخذ العرب موقفا واضحا من الهجمة التي يتعرض لها لبنان والتي تستهدف عزله عن محيطه وجعله خاضعا لميليشيا quot;حزب اللهquot;، تماما كما حال غزة التي سقطت في قبضة ميليشيا quot;حماسquot;؟
الوقوف مع المحكمة الدولية جزء لا يتجزّأ من المقاومة اللبنانية. وحده كشف الحقيقة يخدم لبنان والاستقرار في لبنان في المدى الطويل. في النهاية، ليست المحكمة الدولية سوى وسيلة لمساعدة الوطن الصغير على كسر الطوق الذين يحاولون فرضه عليه لتغطية الجرائم التي استهدفت اشرف اللبنانيين واشرف العرب. انها دليل على تعلق اللبنانيين بثقافة الحياة بديلا من ثقافة الموت والجهل واللجوء الى الغرائز المذهبية لا اكثر ولا اقلّ.