تمر اليوم الذكرى الخامسة والثلاثين لبدء الحرب الأهلية اللبنانية التي هي ايضا حروب الآخرين على ارض لبنان. في الثالث عشر من نيسان ndash; ابريل 1975 كانت حادثة ما يسمى بوسطة عين الرمانة التي قُتل فيها مسلحون فلسطينيون كانوا في طريق عودتهم من مخيم تل الزعتر القريب من العاصمة الى مخيم آخر في بيروت. لماذا اصر هؤلاء على المرور باسلحتهم الظاهرة في منطقة مسيحية الطابع في طريق العودة من تل الزعتر، علما ان اجواء التوتر الشديد كانت تخيم على تلك المنطقة؟ لا يزال السؤال مطروحا الى الآن؟ من ارسل هؤلاء الى الكمين؟ لا يزال الغموض يحيط بكل ما حصل. الأكيد ان لبنان كان في وضع لا يحسد عليه في تلك الفترة بعدما صار مطلوبا في كل لحظة تحدي الدولة اللبنانية ومؤسساتها وبعدما افتقد العالم العربي زعيما يقف ويقول بالفم الملآن ان الأنتصار على لبنان ومؤسسات الدولة اللبنانية لن يحرر فلسطين.
سبق الكمين الذي نصب للبوسطة، والذي انتهى بمجزرة، تسلل مسلحين الى عين الرمانة واغتيالهم شابا لبنانيا من اهل المنطقة لأثارة هؤلاء. كان مطلوبا قتل المسلحين الفلسطينيين في منطقة مسيحية نتيجة اغتيال شاب من ابنائها كي تندلع الحرب التي بدأت عمليا قبل ذلك بكثير. ابتدأت الحرب في العام 1969 وربما قبل ذلك بسنة او سنتين. لكن ما مهد عمليا لبداية الحرب اتفاق القاهرة الذي اقتطع ارضا لبنانية وحولها quot;مربعا امنياquot; خارج سيطرة الدولة. لم تمض اسابيع الا وصار المربع مربعات. صارت المخيمات الفلسطينية كلها مربعات امنية. ومن اجل حماية هذه المربعات، صارت هناك حاجة الى مربعات اخرى. كل ذلك على حساب الدولة اللبنانية والسيادة اللبنانية... وعلى حساب اللبنانيين من كل الطوائف والمذاهب والمناطق والفئات الأجتماعية.
كان على لبنان دفع ثمن الهزيمة العربية في العام 1967... من منطلق انه عرف كيف يتفادى الهزيمة والمحافظة على ارضه. كان مطلوبا الغاء لبنان لا اكثر ولا اقلّ. كان الغاء لبنان بكل ما يمثله من انفتاح على العالم ونجاح حضاري واقتصادي شرطا لتجاوز الهزيمة امام اسرائيل وايجاد غطاء لها. وحده لبنان عرف في تلك المرحلة كيف يحافظ على ارضه ويكشف حقيقة الوضع العربي. صار لبنان، ولا يزال، ضحية المزايدات العربية والعجز عن مواجهة الواقع والتعاطي معه. ولذلك توجب عليه دفع ثمن قدرته على تفادي الوقوع في الفخ الأسرائيلي. دفع الثمن مضاعفا مرات عدة. كان هناك، ولا يزال، حقد اعمى على لبنان. لذلك فرض عليه استقبال المسلحين الفلسطينيين الذين طردوا من الأردن في العام 1970 ولذلك ايضا فرض عليه اتفاق القاهرة في العام 1969 من دون ان يتجرأ ولو نصف زعيم عربي على القول وقتذاك ان ما يحصل جريمة وان هذا الأتفاق لا يخدم سوى اسرائيل. حتى الزعماء الواعون من امثال الملك فيصل والملك حسين، رحمهما الله، التزموا الصمت في ظل اجواء المزايدة التي طغت على عالم عربي لم يفهم في حينه معنى سقوط شعار quot;لا صوت يعلو فوق صوت المعركةquot; وابعاد هذا السقوط العظيم والمدوي في آن لشعار ثقيل وفارغ.
طوال خمسة وثلاثين عاما، تبين ان لبنان بلد يستحق الحياة وان الصيغة اللبنانية اقوى بكثير مما يعتقد. استطاع لبنان مواجهة المؤامرة التي تستهدفه بفضل تضحيات ابنائه. ولا تزال بيروت تتحدى السلاح الذي استهدف ولا يزال يستهدف كل حجر في شوارعها وكل معلم حضاري فيها. بيروت التي اعاد رفيق الحريري الحياة اليها لا تزال تتحدى. ذلك هو قدر لبنان الذي عليه ان يعيش تحت رحمة السلاح غير الشرعي. في العام 1975، كان هذا السلاح فلسطينيا ولبنانيا. في العام 2010، صار هذا السلاح لبنانيا فقط لكن ولاءه خارجي. هوية السلاح ليست هي المهمّة، ما دام المطلوب في كل وقت اخضاع لبنان وتدمير النسيج الأجتماعي فيه وتغيير طبيعة العلاقات بين الطوائف والمذاهب وحتى تغيير طبيعة المجتمع اللبناني والقضاء على العيش المشترك. لا دور للسلاح سوى التفريق بين اللبنانيين وضرب مؤسسات الدولة.
مرة اخرى، ليس مهما ان تكون لهذا السلاح هوية معينة. المهم هو السلاح من اجل السلاح. انه القاسم المشترك بين كل المراحل التي مر فيها لبنان منذ العام 1975، وعلى الأصح منذ توقيع اتفاق القاهرة في العام 1969. من يريد ايجاد تفسير لذلك، يستطيع العودة الى الظروف التي رافقت دخول القوات السورية الأراضي اللبنانية بغطاء اميركي في العام 1976. وقتذاك ادرك وزير الخارجية الأميركي هنري كيسينجر ان تفاقم الوضع في لبنان يمكن ان يؤدي الى حرب اقليمية. اكتشف كيسينجر ذلك متأخرا، فارسل الى لبنان مبعوثا خاصا اسمه دين براون. طلب من براون التظاهر بأن الأدارة الأميركية باشرت تحركا ديبلوماسيا في لبنان. حسب بعض المسيحيين السذج، وما اكثرهم، انه جاء لتهجير المسيحيين من الوطن الصغير وفرض التوطين. كان مطلوبا منه، عمليا، توفير الوقت الكافي لكيسينجر كي يجد صيغة تؤدي الى استيعاب الوضع في لبنان ولملمته.
بعد اسابيع عدة امضاها براون في لبنان، استدعاه وزير الخارجية الى واشنطن ليبلغه انه اكتشف الصيغة العجيبة موضحا ان quot;الجيش السوري سيدخل الى الأراضي اللبنانية ويضع يده على قوات منظمة التحرير الفلسطينية في كل المناطقquot;. كان الجيش السوري باشر قبل ذلك في التسلل الى الأراضي اللبنانية تحت لافتة quot;جيش التحرير الفلسطينيquot;. لم تمض ايام حتى استدعى كيسينجر بروان مجددا ليقول له ان اسرائيل لا تريد بلوغ الجيش السوري quot;خط الهدنةquot; مع لبنان، وهو خط الحدود بين لبنان وفلسطين ايام الأنتداب. سأله براون لماذا؟ كان جواب كيسينجر ان اسرائيل تؤيد بقاء المسلحين الفلسطينيين في جنوب لبنان وتشجع على ذلك quot;نظرا الى أنها في حاجة الى الأشتباك معهم بين وقت وآخرquot;. لم يتغير شيء في لبنان منذ العام 1975. هناك السلاح غير الشرعي الذي لا اعتراض حقيقيا لأسرائيل علية وهناك المجتمع اللبناني الذي يقاوم... من اجل المحافظة على حقه في الحياة وعلى ثقافة الحياة!
ما يفترض ان يوحد بين اللبنانيين في الذكرى الخامسة والثلاثين للثالث عشر من تيسان، ليس مباراة في كرة القدم، اتخذت طابعا فولكلوريا، يشارك فيها نواب ووزراء من كل الأحزاب والأتجاهات. ما يفترض ان يجمع بينهم صوت واحد يرفض السلاح غير الشرعي، اكان تحت شعار quot;المقاومةquot; او غير المقاومة. لا مستقبل للبنان من دون صوت واحد وحيد يشكل قاسما مشتركا بينهم يدعو الى مقاومة السلاح، اي سلاح... هذا اذا كان مطلوبا ان يقال عنهم انهم تعلموا شيئا من تجارب الماضي القريب والحاضر المأساوي.