يحتاج المسار الديموقراطي في الأردن بين فترة وأخرى لعملية تصحيح لخلل ما يمكن ان يطرأ وذلك في سياق ابقاء القطار على السكة القويمة بعيدا عن الغوغاء التي غالبا ما تميز بها اداء قسم لا بأس به من الأحزاب او التشكيلات السياسية او حتى النقابات المهنية في المملكة. فالديموقراطية في الأردن لا تزال اشبه بطفل يحبو في طريقه الى تعلم المشي على رجليه اكثر من اي شيء آخر. يأتي التصحيح في معظم الأحيان من فوق، اي من القصر الملكي الطامح باستمرار الى تنشيط الحياة السياسية في البلد في اطار المحافظة على الأمن والاستقرار بعيدا عن الفوضى والمزايدات والمماحكات التي تميز بها اداء بعض النواب في المجلس المنحل. يحصل ذلك من منطلق ان الحياة السياسية والبرلمانية جزء لا يتجزأ من تاريخ امارة شرق الأردن ثم المملكة الأردنية الهاشمية. انها في الواقع جزء من تراث الهاشميين حيثما وجدوا.انها جزء من طريقة التعاطي مع المجتمع بهدف تثقيفه سياسيا وتعويده على النقاش الحضاري بعيدا عن الصياح والكلام الكبير الفارغ من اي مضمون.
تكمن اهمية ما يشهده الأردن في ان الملك يقود كعادته الإصلاحات من دون ان ينقاد للشارع وذلك في حدود ما تحدده المصلحة العليا للدولة. بكلام اوضح، كان على الملك عبدالله الثاني اتخاذ قرار بحل مجلس النواب الحالي، قبل انتهاء ولايته، بعدما تبين نتيجة استطلاعات للرأي العام، اجريت استنادا الى اساليب علمية حديثة، ان هناك اكثرية شعبية ترى ان المجلس لم يحقق في السنتين الماضيتين ولو انجازا واحدا!
كان مهما الأقدام على تلك الخطوة حفاظا على التجربة الديموقراطية أوّلا وبغية الإفساح في المجال امام تعديل قانون الأنتخابات ثانيا بما يضمن انتخاب مجلس يعكس الى حد كبير توجهات المواطن ويلبي طموحاته الى حد ما. ولكن قبل ذلك كله، لا بدّ للمجلس الجديد من مرافقة التطورات الاقتصادية والسياسية التي يشهدها البلد وان يلعب دوره في تحصينه من كل النواحي بدل وضع العقبات في طريق الإصلاحات. بكلام اوضح، المطلوب استمرار عملية الإصلاح وحمايتها، استنادا الى الخطة الموضوعة لهذا الغرض...
ليس سرا ان عودة الحياة النيابية في الأردن، ترافقت مع مجموعة من القرارات الكبيرة ذات الطابع التاريخي اتخذها الملك حسين، رحمه الله، في النصف الثاني من الثمانينات. كان في طليعة تلك القرارات، قرار فك الأرتباط مع الضفة الغربية الذي اتخذه صيف العام 1988. وضع ذلك القرار اللبنة الأولى للدولة الفلسطينية المستقلة التي تعتبر مصلحة اردنية، اضافة الى كونها مصلحة فلسطينية. كان لا مفر، في ضوء القرار، من اتخاذ قرارات اخرى في مقدمها اجراء انتخابات نيابية في الأردن تقتصر على الضفة الشرقية تأكيدا لقرار فك الارتباط بصفة كونه قرارا نهائيا. ليس من باب الصدفة ان تكون الانتخابات الأردنية جرت في الثامن من تشرين الثاني- نوفمبر 1989، اي عشية اليوم الذي انهار فيه جدار برلين.
في الواقع، كان الملك حسين بفضل فكره الطليعي وحسه السياسي المرهف يدرك، على خلاف معظم الحكام الآخرين في المنطقة، ان العالم يتغير وان على المملكة الأردنية مواكبة التغيرات التي توجت بانتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي. اعد الملك حسين بلده للمرحلة الجديدة التي دخلتها المنطقة ومعها العالم. أظهر العاهل الأردني الراحل ومؤسس الأردن الحديث انه متقدم على شعبه وعلى معظم حكام المنطقة سنوات عدة. استطاع بكل بساطة جعل الأردن مستعدا للتأقلم مع التطورات الأقليمية والدولية التي تسارعت وتيرتها بشكل مذهل منذ تلك اللحظة التاريخية التي سقط فيها جدار برلين.
ما يشهده الأردن حاليا يندرج في سياق القدرة المتميزة التي يمتلكها عبدالله الثاني على قراءة الأحداث. تبدو الرسالة التي يحاول توجيهها الى الأردنيين ان قطار الإصلاحات لن يوقف مسيرته وان على مجلس النواب لعب دوره في اقرار الإصلاحات. اكثر من ذلك، يفترض في مجلس النواب ان يلعب دوره كاملا في مجال مراقبة السلطة التنفيذية بدل التلهي بالتفاصيل والمماحكات او إطلاق الشعارات الكبيرة من باب المزايدات والتهرب من تحمل المسؤولية الوطنية ليس إلاّ. ليس اسهل من إطلاق الشعارات والدخول في المزايدات للتهرب من المسؤوليات الوطنية التي على كل عضو في البرلمان تحملها في وقت تبدو المنطقة مقبلة على احداث كبيرة.
يؤشر حل مجلس النواب الأردني والإستعداد لأجراء انتخابات مبكرة الى مرحلة جديدة في الأردن والمنطقة. لعل افضل طريقة للاستعداد لمثل هذه المرحلة قانون انتخابي عصري يؤدي الى ان يكون هناك مجلس جديد للنواب قادر على التفاعل معها. ما لا بدّ من ملاحظته ان الأردن استطاع مواجهة العواصف الأقليمية بفضل المؤسسات التي تحمي الدولة من جهة وقدرة الملك على استشفاف المستقبل. سمحت هذه المؤسسات بالانتقال الهادئ للسلطة من الملك حسين الى الملك عبدالله الثاني. واتاح الفكر الطليعي للحسين بن طلال ولعبدالله بن الحسين استيعاب التحولات الإقليمية والدولية والتعاطي معها بمرونة فائقة، خصوصا في مواجهة اليمين الإسرائيلي الذي يطرح باستمرار مشروع الوطن البديل. من كان يتصور على سبيل المثال وليس الحصر حجم المخاطر التي كانت ستواجه الأردن اليوم لو لم يستغل الملك حسين الفرصة التاريخية المتاحة، التي قد لا تتكرر، ويوقع اتفاق سلام مع إسرائيل في تشرين الأول- اكتوبر من العام 1994. لم توقع المملكة الأردنية اتفاق وادي عربة الذي اعاد لها حقوقها في الأرض والمياه ألا بعد توقيع الجانب الفلسطيني اتفاق اوسلو قبل ذلك بما يزيد على سنة. قطع اتفاق السلام الطريق على المطالبين بالوطن البديل للفلسطينيين في الأردن.
في ظل العراقيل التي تضعها إسرائيل حاليا في وجه السلام وفي وجه قيام الدولة الفلسطينية المستقلة استنادا الى حدود العام 1967، وفي ظل احتمالات حصول انفجارات في غير مكان من المنطقة، ليس امام الأردن سوى اليقظة. يبدو ان الانتخابات النيابية المبكرة، التي يرجح ان ينبثق عنها مجلس جديد للنواب قادر على تحمل مسؤولياته الوطنية والقومية، من بين الاستعدادات الأردنية للمرحلة الجديدة التي يبدو الشرق الأوسط مقبلا عليها. يظل درهم الوقاية افضل من قنطار علاج.